قضية الاستغلال الطبقي والحل الاقتصادي للأمة الديمقراطية

قضية الاستغلال الطبقي والحل الاقتصادي للأمة الديمقراطية

د. أحمد يوسف

لم تكن ولادة علم الاقتصاد إلا استجابة منطقية لحل المشكلة الاقتصادية التي ظهرت مع ولادة الإنسان وبحثه الدائم عن الموارد التي تلبي حاجاته، والتي يتمثل فحواها في عجز الموارد الاقتصادية المحدودة عن تلبية الحاجات الإنسانية المتزايدة وغير المحدودة. وتؤدي بذلك إلى استمرار المشكلة واستفحالها عبر الزمن. وقد توسعت مجالات المعالجة الاقتصادية للمشكلة الرئيسية للبشرية، وتنوعت بتنوع المدارس الاقتصادية التي قدمت مقاربات مختلفة، ومتناقضة في كثير من الأحيان.

إلا أن جميع تلك المقاربات الاقتصادية منذ ظهور المدرسة الميركانتيلية في بداية القرن السادس عشر ولغاية ظهور النقديين والليبراليين الجدد في نهاية القرن العشرين، لم ترتق إلى مستوى تقديم الحلول الجذرية لتحقيق عدالة التوزيع في الموارد المحدودة بين مختلف فئات المجتمع. ولا يعود السبب في ذلك إلى عجز الفكر البشري عن تقديم الحلول الواقعية والسليمة للقضايا المتعلقة بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وإنما يعود إلى الخلفية الاستغلالية للأفكار المطروحة في ظل سطوة النظام الرأسمالي منذ تأسيسه، والتي تدعو إلى تبرير تشكيل الطبقات الاجتماعية استنادا إلى الفرز المادي.

أولاً- الرأسمالية لم تبحث عن الحل بداية حاول البعض من الاقتصاديين تحقيق ربط قوي بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، من خلال دراسة علاقات الارتباط بين الأفعال الاقتصادية والنتائج السياسية والاجتماعية لتلك الأفعال، كما فعل الاقتصادي الفرنسي «فرانسوا دي مونكريتيان »، الذي أكد في كتابه «الاقتصاد السياسي » مسؤولية متخذي القرارات الاقتصادية عن جوانب الفشل السياسي والاجتماعي، ولما كان هذا الأمر غير محبذ بالنسبة للفئات الاستغلالية من المجتمع، فقد تمت محاربة التوجهات الفكرية التي تسير في فلك وجود العلاقة بين الاقتصاد والسياسة ونشطت المدارس الاقتصادية البحتة في تشجيع التوجهات الفكرية القائمة على تبرئة السلوك الاقتصادي من النتائج الكارثية التي تظهر سياسياً واجتماعياً، وتم استناداً إلى ذلك إلغاء مفهوم الاقتصاد السياسي وتعويضه بالاقتصاد في إشارة من الرأسماليين إلى كون هذا العلم هو علم تحقيق الثروة والغناء المادي لأصحاب المصالح، دون أن يكون لذلك تأثير على الجوانب الاجتماعية، وإلقاء مسؤولية الفقر والتقهقر الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية عن عاتق الرأسماليين. تعتبر المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية من أقوى المدارس التي قدمت الأفكار التبريرية للأفعال الرأسمالية، فهي التي دعت إلى حرية الفرد في سلوكه الاقتصادي وإلى عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، لأن الدولة بنظرها تعتبر مستثمراً سيئاً للغاية، ولا يمكن لها أن تحقق نتائج اقتصادية جيدة من نشاطاتها الاستثمارية. وفي سياق تبريرهم للاستغلال الطبقي اعتمد الكلاسيك على قانون الأجر الحديدي للعمال والمحدد بمستوى الحد الأدنى للمعيشة، أو ما يمكن تسميته بمستوى أجر الكفاف، حيث لا يمكن تجاوزه – برأي الكلاسيك- بحكم العلاقة الطبيعية بين تكلفة المادة وسعرها في السوق.

لقد حاول الكلاسيكيون ومن بعدهم الكلاسيكيون الجدد من خلال طروحاتهم إثبات مسؤولية الطبقات المسحوقة من المجتمع عن معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي انتفاء مسؤولية الطبقات الرأسمالية عن تلك المعاناة. فما يحققه الأغنياء من مكاسب هي نتيجة منطقية لسيادة القوانين الاقتصادية التي ترتقي إلى مستوى القوانين الطبيعية، وتلعب تلك القوانين دوراً حتمياً في خلق المنافذ لتصريف المنتجات من جهة )تفاؤلية ساي في المنافذ(، ولخلق فائض سكاني غير قادر على الارتقاء إلى مستوى الإنسان الطبيعي المتمكن من تأمين الحد الأدنى للمعيشة على الأقل )تشاؤمية روبرت مالتوس(. لذلك ستقوم القوانين الطبيعية بالاصطفاء الطبيعي الذي ينص على البقاء للأصلح سواء من خلال الكوارث الطبيعية أو الحروب وانتشار الأوبئة وغيرها لتحقيق التوازن في جانبي العرض والطلب في ظل سيادة المنافسة الكاملة في السوق.

جدير بالذكر أن تشاؤمية روبرت مالتوس )القس الإنكليزي( لم تأت من فراغ كما لم تأت من قواعد علمية دعته إلى ما قام به ضد الفقراء، وإنما كانت وسيلة من قبله لإعادة دور الكنيسة الذي بات شبه منته بعد انقضاء عصر الإقطاع في أوروبا، حيث وجد أن تبريره للسلوك الاستغلالي للطبقات السائدة في المجتمع في ظل النظام الرأسمالي قد ينتج عنه تحالف قوي بين السلطة السياسية والكنيسة كما كان عليه الواقع في عصر الإقطاع، إلا أنه لم يكن صائباً في ذلك لأن المنظومة الرأسمالية، ومن أجل تطوير بنيتها التحتية والفوقية، استفادت من منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية المتناقضة تماماً مع طروحات الكنيسة، التي حاربت استخدام العقل والمنطق في بداية تكوين النظام الرأسمالي.

على الرغم من محاولة الكلاسيكيين فرض رؤيتهم الاقتصادية برؤى علمية تبرر لهم الانفصال بين السلوك الاقتصادي والنتائج السياسية والاجتماعية الناجمة عنها، إلا أنهم لم ينجحوا في عملية الفصل تلك وأوقعوا أنفسهم في تناقضات علمية، عندما ميزوا بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية، وهو تمييز صحيح علمياً، إلا أنه يناقض مبرراتهم الاستغلالية، لأن التمييز بين القيمتين يحدد التكلفة والعوامل المكونة لها، والتي لا تتحدد فقط بالجهد الإنساني المبذول فيها، كما يراه الكلاسيكيون، بل تتدخل فيها عوامل أخرى. كما أن الرأسمالي يمكن له أن يحقق أرباحاً هائلة نتيجة تنازله عن السلع بأعلى من قيمتها التبادلية. وهنا تتحقق ظاهرة الاستغلال وظهور الشركات الاحتكارية التي تؤدي إلى استبعاد الشركات التي لا تتمكن من المنافسة من السوق، وبالتالي تحقيق المزيد من الاستغلال.

صحيحٌ أن المنظومة الرأسمالية استطاعت منذ ولادتها الترويج لنفسها، والبحث عن الآليات التي تساعدها على الاستمرار والاستقرار، إلا أنها لم تستطع أن تنجو بنفسها من الأزمات الدورية الملازمة لها نتيجة إطلاق العنان لقوى السوق وتركها غير منضبطة. وعوضاً عن إجراء الدراسات والتحليلات الجذرية التي تؤدي إلى تقويض دور السوق وكبح جماحه وفضح دوره في الأزمات الاجتماعية، كالفقر والبطالة، تسعى هذه المنظومة إلى تطوير دور السوق لإشباع نهم الرأسماليين وطموحاتهم المادية التي تتجاوز كل حدود المنطق. وما أفكار المدرسة الليبرالية الجديدة إلا نسخة جديدة ورديئة عن أفكار المدرسة الكلاسيكية، حيث أنها تدعو إلى تطبيق مبدأ الحرية الاقتصادية. وهي لا تعني في ظروفنا العالمية الراهنة سوى انقلاب عسكري لقوى السوق على السياسيين والاجتماعيين، والترسيخ لمبدأ دكتاتورية الأسواق، هذه الدكتاتورية التي تجاوزت حدود الدول، وتمكنت من مراقبة سلوك الحكومات وتهذيبها وفقاً لمفهومها. لذلك ظهر إلى جانب مفهوم السوق والقوى المنظمة له، مفهوم جديد يخص الدول التي تمتنع عن تسريب هذه الدكتاتوريات إليها، وهو مفهوم الدول المارقة والداعمة للإرهاب وغيرها، حتى وإن كان هذا الأمر صحيحاً، فإن ذلك لا يبرر قطعاً فتح الأبواب على مصراعيها لدكتاتورية الأسواق.

تعطي الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية مؤشرات حقيقية عن جوهر الأزمة الدائمة للنظام الرأسمالي واستمرار هذا النظام في ظل سيطرة تناقضات من قبيل التضخم والانكماش، البطالة والعمالة، الحرية السياسية والتقييد الاقتصادي )طبعاً لصالح الاحتكارات الكبيرة والشركات المتعددة الجنسيات(. توضح هذه المؤشرات بدورها السلوك غير الرشيد الذي يمارسه الرأسماليون، والذي يؤدي إلى خلق نتاجات فكرية جزئية ضمن الدائرة الواسعة للتناقضات التي تقوم عليها المنظومة الرأسمالية، ولا يمكن لتلك النتاجات أن تحقق حالة ثورية في طبيعة الفكر السائد، وبالتالي تسقط في هاوية الدوران في الحلول المتجزئة للقضايا التي تحتاج إلى الحلول الجذرية، كقضية العدالة الاجتماعية، أكبر القضايا التي تواجه المنظومة الرأسمالية في مرحلة العولمة الاقتصادية والترسيخ للفكر الليبرالي الاستغلالي بطبيعته، وهي تعاني في الوقت ذاته من الإهمال في مراكز القرار التي تتحكم بالسوق الرأسمالية، التي تركز جلَّ جهودها في بناء نماذج تعظيم الأرباح، دون منح الأهمية للنتائج الاجتماعية السلبية التي يولدها هذا الفكر.

ثانياً- بيروقراطية الاشتراكية المشيدة أهلكتها نتيجة المعاناة الاجتماعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبعد أن قدم الكلاسيكيون الجدد تحليلاتهم التبريرية لجميع السلوكيات الاستغلالية للمنظومة الرأسمالية، وبالتالي إعلان عدم مسؤوليتها عن النتائج الكارثية للعلاقات الاقتصادية القائمة. ظهرت من صلب تلك العلاقات الاستغلالية منظومة فكرية متطورة، شكلت خروجاً قوياً عن المألوف في عالم الفكر الاقتصادي السائد في حينه، فلم تقم هذه المنظومة الفكرية الجديدة بانتقاد الفكر الكلاسيكي الجديد فحسب، وإنما قامت بمعالجة ثورية انقلابية للواقع الذي كان يفرض حاله، واعتبرت أنه بقدر ما تتعقد درجة الاستغلال الذي تمارسه الفئات الرأسمالية، تتهيأ الظروف لإحداث الثورة الشاملة على أساس القضاء النهائي على الاستغلال من خلال استبدال العلاقات الاقتصادية القائمة على الملكية الخاصة بعلاقات اقتصادية جديدة قائمة على أساس انتفاء الملكية الخاصة، واحتكار الدولة للتملك، لأن الملكية الخاصة هي سبب الاستغلال الذي تعانيه الطبقات الفقيرة في المجتمع، في الوقت الذي تشكل فيه تلك الطبقات مصدراً أساسياً للثروة وذلك لكونها هي التي تخلق القيمة المضافة في العملية الإنتاجية.

كما نعلم فقد حقق التطبيق العملي للفكر الماركسي الداعي إلى المجتمع اللاطبقي نتائج اقتصادية إيجابية في المراحل الأولى من عمره، إلا أنه وبسبب السيطرة المطلقة للحكومات على جميع المفاصل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، اتسعت ظاهرة البيروقراطية الإدارية، والتي استمدت قوتها من البيروقراطية السياسية. وقضت على العائد الاقتصادي عبر منح الأولوية للعائد السياسي للنشاط الاقتصادي. وقد أدى هذا الأمر إلى انسداد أفق التطور الاقتصادي الذي اصطدم بصورة متواصلة بالعوائق السياسية التي نجمت بالدرجة الأساسية عن توسع الضغط الأمني داخلياً وتوسيع مناطق النفوذ خارجياً، عبر صراع التسلح الذي أدى إلى استنفاذ القوى في المنظومة الاشتراكية وانهيار الدول المتبنية لهذا النهج الاقتصادي والسياسي كأحجار الدومينو.

فالتجربة السوفياتية وشقيقاتها الاشتراكية أصابها الفشل وسقطت أمام سطوة رأس المال الغربي وعزيمته القوية. ولم تتمكن من حل معضلة التناقضات الاجتماعية على الرغم من نجاحها النسبي في إقامة المجتمع اللاطبقي بفضل سيطرة القوة الأمنية والمركزية الشديدة في إدارة الاقتصاد والسياسة، لا بفضل ترسيخ مبدأ الديمقراطية الناقدة والمصححة للانحرافات في مسار عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فإذا كانت هذه المعادلة الموضوعة سوفيتياً لإدارة الاقتصاد قد حققت نتائج إيجابية في بعض النواحي، وخاصة بالنسبة لتكلفة المواد وبالتالي أسعارها في السوق، فإنها أدت في الوقت ذاته إلى تطور المنظومة البيروقراطية لدرجة بلغت حدوداً يستحيل احتمالها، وتحولت الديمقراطية بتأثير من تلك البيروقراطية إلى مفهوم غريب عن المجتمعات اللاطبقية، وكأن أمر تلك المجتمعات بات متعلقاً فقط بالحصول على لقمة العيش، دون الاهتمام بمشاعرهم الإنسانية، حيث أصبح الإنسان مبرمجاً، حتى في نقاهاته ورحلاته السياحية، مركزياً.

فهو يسير وفق الأنظمة والبرامج الموضوعة من قبل هيئات تخطيط الدولة، صاحبة العبء الأكبر في كل مجالات الحياة، بما فيها الحياة العائلية بكل مفرداتها.

طبيعيٌ أن تؤدي حالةٌ كحالة الدول الاشتراكية المشيدة إلى اصطدام التجربة الاقتصادية فيها بعوائق كثيرة، تعرقل مسيرتها في بناء الأمة الديمقراطية التي تعتمد على الحاضنة الشعبية بمختلف انتماءاتها. ويأتي تراجع القناعة الشعبية بالتجربة في مقدمة تلك العوائق.

ثالثاً- ماذا بخصوص اقتصاد السوق الاجتماعي؟ شكلت تجربة اقتصاد السوق الاجتماعي حالةً فريدة في مسار التطور الاقتصادي العالمي، إذا ما تم النظر إليها من زاوية اهتمامها بالقضايا الاجتماعية، إلا أننا قد نصاب بالدهشة عندما نكتشف أنها قد دافعت عن تطوير المنظومة الرأسمالية بخصوصيتها الاستغلالية المتطرفة في القرن العشرين، وتمكنت من حمايتها بصورة فعالة، وخففت من حدة آثار أزماتها الدورية.

إن الفكر الذي أسس لاقتصاد السوق الاجتماعي ظهر من صلب المنظومة الرأسمالية، في وقت كانت فيه الأخيرة تعاني من أخطر أزماتها الاقتصادية )أزمة الكساد العالمي الكبير خلال الفترة 1929 – 1932 (، واتسمت تلك الأزمة بطابع انعدام الطلب، مما أدى إلى انهيار كبريات الشركات في أمريكا وأوروبا. في حين كانت الثورة البلشفية في أوج عطاءاتها وتجني ثمار خطتها الخمسية الأولى في الاتحاد السوفياتي وتلقى ترويجاً قوياً في الغرب الأوروبي. وقد اضطر منظرو الفكر الرأسمالي في ظل تلك المعطيات إلى أن يعملوا على جبهتين، تمثلت الأولى في المطالبة بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لخلق الطلب الفعال، وبذلك تم إطلاق رصاصة الرحمة على الفكر الكلاسيكي الداعي إلى الحرية الاقتصادية للفرد. وتمثلت الثانية في تحويل العلاقة العدائية بين الطبقتين الرأسمالية والعمالية الناجمة عن استغلال الأولى، والتي ترى الماركسية أن حلها في إزالة المجتمع الطبقي من الوجود، أي القضاء على الرأسمالية، إلى علاقة ندية تُحترم فيها الملكية الخاصة والمنافسة، وتمنح بعض الحقوق للعمال، بما فيها حق التظاهر والإضراب عن العمل.

لقد استطاع منظرو الرأسمالية منع الزحف الشيوعي باتجاه الغرب بعد طرحهم لفكر اقتصاد السوق الاجتماعي، وتبنيهم للقضايا الاجتماعية الناجمة عن الاستغلال الرأسمالي، والبحث عن الحلول التي تؤمن تحسين المستوى المعيشي للطبقات المسحوقة من المجتمع إلى جانب استمرار الملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج بكل قوتها. وبهذا الشكل أكد هؤلاء المنظرين حمايتهم للنظام الرأسمالي من الانهيار الذي كاد أن يتحول إلى حقيقة نتيجة انسحاق الطبقة العاملة تحت وطأة شدة الاستغلال الذي أوقف الطلب الفعال على المنتجات بسبب عدم اقتران الرغبة بالقدرة على الاقتناء لإشباع الحاجات. لذلك كانت الدول الرأسمالية الأكثر تطوراً، كبريطانيا وألمانيا الغربية والدول الاسكندنافية هي الدول التي تبنت اقتصاد السوق الاجتماعي. وأظهرت قناعاً تجميلياً للحداثة الرأسمالية في مرحلة صعود الاستغلال الرأسمالي بدرجات خطيرة، وخاصةً في مجال الاقتصاد المالي.

فقد اجتمع النقيضان، الليبرالي الأليف، الذي يشكل المظهر الخارجي للقناع، مع التوتاليتاري الوحشي المتخفي خلف ذلك القناع.

أصبح التظاهر والاعتراض حقاً مشروعاً بفعل القانون، إلا أنه في الوقت ذاته أصبح الاحتكار في الأسواق وتسريح العمال والتهرب الضريبي وتلويث البيئة كلها قضايا مألوفة ومقبولة واقعياً، حتى وإن كان البعض يرفضها أخلاقياً، ولا يمكن أن نقدم تفسيراً صحيحاً لفشل مؤتمرات قمة الأرض في كيوتو اليابانية وريودي جانيرو البرازيلية إلا إذا تم فهمها على أنها نتيجة موضوعية لسيطرة النهم الرأسمالي على حيثيات المؤتمرين، وبالتالي ترتيب القواعد الأخلاقية الضابطة للشأن الإنساني في العالم وفقاً للمصالح التي تفرضها القوى الرأسمالية العالمية في المركز، حيث لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن توافق على الحد من إطلاق غاز أول أوكسيد الكربون للحد من تلوث البيئة، لأن في ذلك آثاراً اقتصادية سيئة على المصالح الأمريكية. فالمصالح الاقتصادية الرأسمالية تمنع بصورةٍ واضحة أو مبطنة الغوص في أعماق المشكلات الإنسانية بدءا بقضايا حقوق الإنسان الأساسية وانتهاءً بالقضايا التي تعد ثانوية.

هذه الحقيقة تضع المرء في صورة الواقع الناجم عن تبني اقتصاد السوق الاجتماعي، وفشل التمكن في ظل هذا الفكر من التوصل إلى تطبيق مفهوم الديمقراطية لتكوين الأمم الحضارية والديمقراطية عوضاً عن الأمم الحداثوية الرأسمالية التوتاليتارية.

رابعاً- إذا ما الحل؟ الحقيقة أن النظام الرأسمالي طور عملية الإنتاج، وحقق بناء على ذلك معدلات نمو مرتفعة وخاصةً في السنوات الأخيرة، إلا أنه لم يستطع بموازاة ذلك ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية، وتطوير مفهوم الديمقراطية ليتجاوز الأطر الضيقة المرسومة له في مراكز القرار الرأسمالية، حيث أن الديمقراطية المزعومة هي ديمقراطية ناقصة تحتكم إلى إرادة السوق والطبقات الاستغلالية في المجتمع الرأسمالي. وجدير بالذكر أن الحداثة الرأسمالية الغربية تسير في نهج زيادة الاستغلال وتوسيع دائرتها باتجاه مختلف أصقاع الأرض بأساليب أكثر تطوراً. والعولمة بمختلف تجلياتها تمهد الأرضية الصلبة للاستغلال العالمي من خلال الاستفادة من منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية، التي يفترض أنها تساعد في عملية بناء المجتمعات والإيكولوجيا وتطورهما نحو حالات راقية ولااستغلالية، وتقضي على الفقر وتدهور البيئة في جميع المجتمعات.

تعددت الأطروحات الساعية إلى إنقاذ البشرية من هول الاستغلال في مرحلة العولمة وحدث نمو في التجمعات المناهضة للعولمة والدوائر الاستغلالية المتطورة، إلا أن تلك الأطروحات لم تتمكن من تقديم بدائل حقيقية تساهم في إحباط النشاط الاستغلالي على الصعيد العالمي.

يرى بعض المفكرين أن الحضارة الرأسمالية الغربية لم تبدأ فجأة في القرن الخامس عشر، وإنما هي امتداد لحضارة تمتد لخمسة آلاف عام، مهدها ميزوبوتاميا، فالحضارة بدأت من هذه المنطقة وانتقلت عبر مراحل عديدة لتصل إلى أوروبا.

ولم تكن منطقتنا مجرد تابع للمركز الرأسمالي الأوروبي الذي نعرفه اليوم، بل إن ميزوبوتاميا كانت مصدر غذاء وغنى على مدى أكثر من خمسة عشر ألف عام، فلماذا تراجع دورها اليوم؟

القضية الأساسية هنا هو جري الرأسماليين وراء الربح، لذلك تظهر قضية البطالة أو ما يسمى بالفائض السكاني، وينتشر الفقر، لأنه حسب المعايير الرأسمالية الحديثة يمكن ولادة المال بالمال ولا حاجة إلى تنمية الزراعة أو حتى بعض الصناعات. وبهذا الشكل تبقى الرأسمالية مسيطرة على المواقف في المجتمعات الحداثوية.

يطرح السيد أوجلان المجتمع اللارأسمالي في مواجهة المجتمع الرأسمالي، ويعتبر المجتمع اللارأسمالي المجتمع الذي تحترم فيه الملكية الخاصة بالدرجات الوسطى، ولا يهدف إلى تحقيق الربح من الربح إلى جانب إهمال بعض النشاطات الاقتصادية الأساسية كالزراعة.

فالاقتصاد المطلوب لتحقيق مفهوم المجتمع اللارأسمالي هو الاقتصاد الذي يساهم في تطوير مفهوم الأمة الديمقراطية، حيث تمنح الأولوية للعملية الإنتاجية الهادفة إلى تحقيق احتياجات المجتمع المادية والمعنوية وتحبط سوء الاستغلال الممارس من قبل الرأسماليين.

وعليه ولبناء الأمة الديمقراطية من خلال التنمية الاقتصادية، تطرح بعض المفاهيم نفسها من أجل أن يتم الترسيخ لها، لعل أهمها:

-1 لا يعتبر أصحاب الورش الصناعية والمزارعون والمنتجون من الرأسماليين.

-2 ليس صحيحاً أن وجود فائض سكاني هو من أجل زيادة عرض القوة العاملة، وبالتالي استرخاصها، وإنما يعود السبب في ذلك إلى جري الرأسماليين خلف النشاطات الاقتصادية والتي تحقق الربح الهائل كما هو حال المضاربات المالية.

-3 إن العديد من المفاهيم الاقتصادية، كنمط الإنتاج الآسيوي هي مفاهيم تؤدي إلى تضييع الحقائق الاقتصادية.

-4 إن الاهتمام بالبيئة الإيكولوجية لا يتم إلا عبر تنوع النشاط الاقتصادي، ومحاربة عملية إخراج الاقتصاد من مفهومه الحقيقي والذي يركز على تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، حتى مع البيئة. إن كل ما سبق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إدراك أن الرأسمالية ليست اقتصادا وإنما هي إخراج للاقتصاد من مفهومه وتحويله إلى مفهوم جديد هو المضاربة وتحقيق أقصى الأرباح دون جهود، وبالتالي القضاء على المجتمع والبيئة والسلطة والسياسة المعادلة والعلم وسواه.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى