كردستان من العصر الميلادي حتى القرن العاشر

كردستان من العصر الميلادي حتى القرن العاشر

عبدالله شكاكي

تصدّر المشهد السياسي في كردستان خلال القرنين الأخيرين قبيل حلول العصر الميلادي سيطرة دولة البارث ) 250 ق.م – 226 ب.م( وريثة الأخمينيين، مقابل الدولة السلوقية ) 65 – 312 ( ق.م وريثة الاسكندر المكدوني وكانتا في صراع دائم من أجل امتلاك كردستان وعموم الشرق ، ومع الجمود والضعف الذي أصاب الدولة السلوقية خصوصاً بعد معركة مغنيزيا بين أنطيوخس الثالث والجيش الروماني سنة 190 ق.م وكان في عداد جيش أنطيوخس فرقة مؤلفة من ألف فارس ميدي )كردي( وانتهت لصالح الرومان ، حينها بدأ نجم امبراطورية جديدة يشع صوب الشرق ليأخذ مكانة الدولة السلوقية التي بدأت بالانهيار بعد أحداث سنة 69 ق.م في كردستان وأسدلت الستار عن الدولة السلوقية عام 65 ق.م .

أما دولة البارث فقد توسعت كثيرا وشملت من الفرات حتى نهر السند ، وكان الوضع السياسي في كردستان بين مستعمرة وشبه مستقلة أو حكم ذاتي نتيجة الصراعات المستمرة بين القوى الاستعمارية البارثية – السلوقية والبارثية – الرومانية ، ففي جنوب كردستان كانت حكومة أديابين وعاصمتها أوربيلوم )هولير( وفي شمال كردستان كانت حكومة كردوئين وعاصمتها آمد ، وبجوارها كانت حكومتا الأرمن والبونتوس اللتين لعبتا دور الاحتياط واقتناص الفرص للسيطرة على كردستان خصوصاً مع انهيار الدولة السلوقية التي رافقتها فوضى عارمة ، فقد احتلت قوات ديكران ملك الأرمن مملكة كوردوئين وتابعت إلى جنوب كردستان وسوريا حتى وصلت إلى عكا ، ورافق ذلك انتشار اللصوص وقطاع الطرق من قبل العصابات العربية بسبب الفراغ الأمني ، وهذا ما شجع البارث للقيام بحملة نحو غرب الفرات واحتلالها ووصلت قواتهم إلى أقصى غرب كردستان حيث جرت معركة حامية بين البارثيين والرومان في موقع قريب من جنداروس باتجاه الشمال )جبل الأكراد- عفرين( وذلك في حزيران من عام 38 ق.م وكان النصر للرومان وقد كان الكرد في الغالب يتحالفون مع الرومان وكان لهم وجود وانتشار قوي في جبل الأكراد وسهل آمكي )العمق( منذ القرن الثامن قبل الميلاد وورد ذكر الكرد في أحداث تخصهم وتثبت وجودهم عام 307 ق.م في موقع انطاكية قبيل تشييدها بسبع سنوات والكرد مع قليل من اليونان أول من سكنوا مدينة انطاكية ، أما الأرمن فكانوا يناصرون البونتوس وأحيانا مملكة البارث ، ومع مطلع العصر الميلادي عُقدت اتفاقية عامة بين فرهاد ملك البارث وكايوس ) 2 ق.م- 4ب.م( تنازل البارث بموجبها عن بلاد الكرد وأرمينيا للرومان .

مرحلة السيطرة البارثية – الرومانية :

مع حلول العصر الميلادي وفي ظل التوازنات الجديدة بين الرومان والبارث تأسست في جنوب كردستان مملكتان كرديتان أحدهما كَرمكان Germikan )جرمى( والثانية أديابين )أوربيل( تحكمهما أسرتان منحدرتان من قبائل الاسكيت الآرية )يرد اسمهم كثيرا في أحداث الألف الأول قبل الميلاد من خلال معاركهم مع الميديين( وقد استكردوا في مراحل لاحقة ، كان يحكم أديابين الملك مونوباز وكان مع أسرته ومملكته تدين الوثنية وتزوج من شقيقته هيلين وأنجبا ولداً أسمياه إيزاتيس )عزت( ومن ثم اعتنقا اليهودية ، وكان في شمال كردستان مملكة كردوئين خاضعة لسلطة الأرمن وقتئذ ، وتمكن مونوباز من طرد الأرمن منها والسيطرة على نصيبين والمناطق المجاورة لها وضمها إلى كردوئين وتعيين ابنه إيزاتيس حاكماً عليها .

حاول نيرون ) 68 – 54 ( م الاستيلاء على كردوئين ووجه حملة عسكرية إليها وضم قسماً منها لإمبراطوريته وهي ماردين وفارقين وكوماجين )سمسور- أديمان، كَركَم- مراش، دولوك- عينتاب( ثم تخلى عنها بموجب اتفاقية مع مملكة البارث وهدأت الأمور لأكثر من خمسين عاماً ، وفي شهر نيسان من عام 114 م قاد الامبراطور تراجان ) 117 -98 م( حملة عسكرية بنفسه إلى شمال كردستان لإخراج القوات البارثية التي احتلت الممالك الكردية والأرمنية ، انطلقت الحملة من انطاكية ماراً بجنداروس )جندريس( وكوروس )قلعة هوري( وكلاهما في غرب كردستان )مقاطعة عفرين( واحتلت كردوئين وأرمينيا وعاصمتها ديكرانوكيرت )فارقين( وطردت القوات البارثية منها ، وقد أدى هذا الأمر إلى عداء البارث للممالك الكردية والأرمنية وسحب الاعتراف والامتيازات من ملك الكرد عزت الثاني وأمراء آخرين في جنوب كردستان ، واتخذ الكرد الاستعدادات اللازمة للمواجهة وجهزت 6000 فارس رابطوا على أطراف الزاب الأعلى مما أجبر البارث على الانسحاب من كردستان ، وفي عام 115 م احتل تراجان مدينتي نصيبين وإديسا )رها( ، وعند تنصيب الامبراطور هادريان ) 138 – 117 ( م أصبح نهر الفرات الحد الفاصل بين البارث والرومان .

وفي سنة 136 م تعرضت شمال كردستان وميديا لهجمات قبائل الآلان من جبال القوقاز فتصدى لهم ملك أوربيل وآزره ملك البارث أرشاك السادس والعشرون )وولاش- فولاجيسس الثاني( وقتل في تلك الحملة عام148)م

ثم توج فولاجيسس الثالث ووقّع صلحا مع الامبراطور أنطونيوس ، وفي عام 161 م انفجرت المعارك من جديد بين البارث والرومان بقيادة الامبراطور ماركوس أورليوس على أرض كردستان وفيها انهزمت القوات البارثية وبقيت كردستان تحت الحكم الروماني ، وفي عام 175 م نصب كاسيوس نفسه قيصراً على روما وكان محبوباً جداً من قبل الشعب وينحدر من أسرة كانت تقيم في مدينة كوروس )حاليا تابعة لناحية شرا- عفرين( لكنه اغتيل من قبل بعض ضباطه ، وفي عام 199 م أصبحت إقليم أوسرين )رها( وجنوب كردستان وعاصمتها نصيبين مقاطعات رومانية. قضت شعوب كردستان طيلة المرحلة البارثية – الرومانية مضطربة بين الاستقلال والاحتلال والحكم الذاتي فكانت مجبرة على التحالف مع البارث تارة والرومان تارة أخرى ، وأحياناً مغازلة الطرفين في آن معاً لتدارك الحروب والكوارث أو القيام بالانتفاضات في وجه المحتلين ، وحدثت آخر انتفاضة عام 220 م اشتركت فيها كركوك وأربيل والميديين واستمرت هذه

آثارمملكة كوماجين )جبل نمرود- آديمان(

الحالة حتى سقوط المملكة البارثية عام 226 م عندما انسحب البيت الساساني من التشكيلة البارثية الحاكمة )الآشكان( وتمكن أردشير التغلب على أرطبان )أردوان( الخامس آخر عاهل بارثي واستلام كافة سلطات الدولة وأصبح نداً للرومان .

مرحلة السيطرة الساسانية – الرومانية :

استمرت الحروب بين البارث والخلديين والرومان ، وبرز في هذه المرحلة أردشير بن پاپكان الذي ينحدر من نسل كي قباد )دياكو( ، وكان يكره الپارث لأنهم كانوا يحبذون الثقافة الهلينية ، ويكره الفرس لأنهم حرموا جده ساسان من حقه في الميراث وامتلاك العرش ، وقتل أردشير ملك الپارث وقضى على دولته وأسس دولة دُعيت الدولة السّاسانية ) 635 – 226 ( م ، يسميها بعض المؤرخين «الدولة الفارسية الثانية » ويعتبرون الدولة الأخمينية التي أسسها كورَش عام 552 ق.م بالدولة الفارسية الأولى .

أبدى أردشير اهتماماً كبيراً بالديانة الزرادشتية وجعلها الدين الرسمي للدولة ، وبالتالي اهتماماً بالعنصر الآري ، وتمكن من تقوية الشعور الوطني لدى الإيرانيين ، ولهذا اشتهرت دولته بحروبها المستمرة مع الرومان ، حتى نهاية القرن الثالث الميلادي ، وعرفت دولته لدى العرب ب »دولة الأكاسرة » ، وأردشير هو أول من لقب نفسه «شاهنشاه » أي ملك الملوك واستمر هذا التقليد حتى قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية سنة 1979 م على يد آية الله الخميني .

بعد أن قضى أردشير على مملكة البارث ، وأنهى صراعه مع أخيه على السلطة باستعماله مرتزقة يونان ، بنى مدينة طيسفون )المدائن( وجعلها عاصمة لملكه ، وكان يقول: «العدل أساس الملك ، والملك يستند على الجند ، والجند بحاجة إلى المال ، ولا مال بدون زراعة ، والزراعة تقوم على العدل » ، وهذا هو جوهر دين وفلسفة زرادشت الذي يقدس العمل والزراعة والرأفة بالحيوانات والطبيعة وآمن بالزرادشتية ، حيث انتشرت الزرادشتية في عهده وعموم المرحلة الساسانية وتقول الروايات الفارسية أن والده پاپاك كان كاهناً زرادشتياً ، وقد استبشر الكرد خيراً مع رحيل البارث ومجيء أردشير الذي تربى جده لدى قبائلهم لكنه سار على درب البارث واعتبر كردستان ميراثاً له ، وقد وقعت كردستان في هذه المرحلة تحت السيطرة الساسانية ، وقد احتفظ الرومان بشمال كردستان ومن ضمنها آمد حتى عام 297 م .

يذكر أن أردشير واجه مقاومة عنيفة من قبل ملك الكرد )كرتان شاه مادگان( حيث كان الفرس يعرفون الكرد باسم )مادگان نسبة للميديين( ، وعندما تنازل أردشير عن الملك لابنه شاه پور ) 271 – 240 ( م تتالت الغزوات الساسانية على مختلف مناطق كردستان في الجنوب والغرب والشمال وكأن سيناريو الغزوات الآشورية في مرحلة ما قبل الميلاد تتكرر من جديد ، لكن الساسانيون تعرضوا لمقاومات شديدة خصوصا في كردوئين )آمد( مما أجبر شاه پور على الانسحاب مقهوراً ، وفي هذه المرحلة استغلّ ڤاليريان امبراطور الروم الفرصة وأغار على مملكة كردوئين وقتل ملك الكرد في مقاومة الجيش الروماني ، وهذا ما أجبر الكرد على القيام بالمصالحة مع الساسانيين لتخفيف الضغط الروماني .

يبدو أن هذا الأجراء أثار حفيظة الرومان خصوصاً بعد أن تم تنصيب دقلديانوس ) 304 – 284 ( م امبراطوراً جديداً ، حيث وجه الأخير حملة عسكرية مدعومة من ميترادات ملك الأرمن الذي سيطر على بلاد مادي نتيجة تنازل الملك الساساني هرمزد الثاني ) 309 – 302 ( م له والذي جعل مدينة توزير )تبريز( عاصمة له ، وقد تدخل الجيش الساساني لإفشال المخطط الروماني وبعد معارك طاحنة بالقرب من مدينة حران )ولاية الرها( انتصر الرومان بقيادة كاليريوس على الجيش الساساني وجرح ملكهم نرسي ) 302 – 293 ( م مما اضطروا إلى الانسحاب مع التوقيع على معاهدة صلح مخزية تخلت بموجبها الدولة الساسانية عن كافة الأراضي الواقعة غرب نهر دجلة ، وأصبحت دجلة الحدود الفاصلة بين الامبراطوريتين ، وبدعم روماني تأسست مملكة أرمنية على حدود الكرد وحاولت ضم كردوئين إليها .

إيوان كسرى

أما شاه پور الثاني ) 381 – 309 ( م الذي نصب ملكاً وهو في بطن أمه فقد قاد حروبا دموية مع قسطنطين الثاني ملك الروم على الولايات الشرقية من أجل احتلال آمد ، وكان قسطنطين قد قام بترميم سور آمد وتشييد أجزاء جديدة عام 349 (( م من أجل حمايتها من هجمات الساسانيين كما حارب شاه پور جيش يوليانوس امبراطور الروم ) 363 – 355 ( م فقد حاصر قلعة نصيبين سنة 350 م لكنه لم يتمكن من فتحها وعاد خائباً ثم أعاد الهجوم على كردستان بعد عشر سنوات وحاصر مدينة آمد مدة 73 يوما بسبب المقاومة الشديدة وقدم كثيراً من الضحايا حتى تمكن من فتحها ثم هاجم على الجزيرة ، وفي سنة 363 م هاجم الامبراطور يوليانوس على شمال كردستان ووصل إلى طيسفون )المدائن( ثم جنوب كردستان عن طريق جبال حمرين ووصل إلى كركوك وجرت معارك شرسة مع الجيش الساساني وفيها قتل يوليانوس بعد إصابته بجراح بليغة .

انقسمت الامبراطورية الرومانية إلى قسمين: إحداها غربية وبقيت روما عاصمتها ، والثانية شرقية دعيت الامبراطورية البيزنطية وأصبحت عاصمتها استانبول ، وغدت نهر الفرات الحدود الطبيعية والسياسية بين بيزنطة والدولة الساسانية ، أي أن معظم كردستان كانت تحت حكم الساسانيين .

ونشير أن بهرام الرابع ) 403 – 389 ( م المشهور باسم كرمان شاه هو الذي بنى مدينة كرمانشاه ، وفي زمن الشاه قباد ظهرت الديانة المزدكية التي دعت إلى الشيوعية في كل شيء وفي عهد أخيه گاماسپ بنيت مدينة گنجه التي تقع جنوب يريفان )عاصمة أرمينيا( والتي أصبحت فيما بعد عاصمة الدولة الشدادية الكردية التي عمرت من سنة 951 حتى 1174 م ثم احتُلت من قبل جورجيا ، وفي زمن بهرام الخامس ) 437 – 419 ( م عاشت كردستان مرحلة من الفوضى والفتن ولم يتمكن بهرام من السيطرة عليها ، أما في عهد قباد ) 526 – 483 ( م فقد غزا كردستان وسيطر على آمد وأرزروم وبسبب الخسائر التي منّت بها قواته أجلى قسما من أهالي فارقين إلى خوزستان )منطقة الأهواز( ، وفي عهد نوشيروان ) 572 – 526 ( م قضي على الديانة المزدكية وذبح مزدك أمام سراي الحكومة وتطورت الحركة الثقافية في عهده حيث ترجم كتاب كليلة ودمنة وغيرها من الكتب وابتكر وزيره برزك مهر لعبتي الشطرنج والنارد وهو أول من أقام نظام الولايات ، وحارب الامبراطور جوستنيانوس وأخضع غرب كردستان حتى انطاكية وسوريا لحكمه وأجبر الروم للتوقيع على معاهدة مذلة ودفع جزية سنوية من الذهب ، وفي عهده أيضا ولد محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان يزدگرد الثالث آخر شاه من بني ساسان حيث انهارت الدولة الساسانية على يد العرب وبدأت مرحلة السيطرة العربية الإسلامية بدءاً من عام 637 م على كردستان .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى