المعتقدات الدينية في كردستان

المعتقدات الدينية في كردستان

الدين مصطلح كردي قديم وجد في اللهجة الفيلية الكردية القديمة المنبثقة عن الفهلوية، ومشتق من مصطلح «داينا » الميدي وقد ورد ذكره في الكتاب المقدس )آفيستا( ودخل إلى العربية والقرآن مع ظهور الإسلام. وهو ظاهرة مرافقة للإنسان منذ لحظة استقلاله عن مملكة الحيوان، ويعتبر المصدر الأول للثقافة الإنسانية، وقد عبّر عنه ماكس موللر بأنه «جهدٌ من أجل تصور ما لا يمكن تصوره وقول ما لا يمكن التعبير عنه »، ولدى فراس السواح «هو مجموعة من المعتقدات والممارسات التي تنظم سلوك الإنسان تجاه عالم المقدسات، وتزوده برؤية شمولية للكون، وموضع الإنسان في هذا العالم » ، وقد ظهر الدين بداية من إحساس الفرد وحاجته، ثم توسع من خلال أحاسيس الجماعة البشرية أو القبيلة وانتهى بقيام المؤسسات الدينية في المجتمعات ذات التكوين السياسي .

إن تبني الفرد لدين محدد لا تحدده أحاسيسه أو مواهبه أو قدراته العقلية، فالطفل الصغير لا خيار أمامه سوى تبني ديانة ذويه الذين يشاركهم المسكن والمعيشة، أو يمكن القول إن دين الإنسان تحدده الصدفة الجغرافية لمكان ولادته، وهكذا نرى أن كل شخصٍ راضٍ عن ديانته لأنها ديانة ذويه وقومه. وقد كانت الأديان في بداياتها إما طوطمية أو طبيعية أو أرضية من صنع الإنسان، أو إنساناً ذا ميزات خارقة أهّلته قدراته لادّعاء الألوهية.

أما الديانات السماوية فهي التي على رأسها الإله الكوني والذي يكنّى باسم محدد لدى كل قوم مثل: إيل، إيلوهيم، آلوهو، الله، و خودا، ولا يتم التواصل معه إلا عبر وسيط كملائكة أو نبي أو رسول. وقد اعتمد الدين في تكوّنه على ثلاث بنى أساسية هي الأسطورة والمعتقد والطقس ومكونات ثانوية أخرى مثل الأخلاق والشرائع.

1-الميثولوجيا (علم الأساطير) :

هو العلم الذي يدرس ملاحم الخلق والتكوين وقصص الشعوب القديمة التي تتناول عالم الآلهة وأنصاف الآلهة والقوى الخارقة، وهو مشتق من اليونانية mythos )أسطورة، رواية( و logos )علم(، والأسطورة بدورها مشتقة من المصطلح اليوناني )هيستوريا( ويعني قصة خرافية ومنه اشتق ) History ( بمعنى )تاريخ(، وهو الشكل الأساسي من رؤية العالم لدى الشعوب في أقدم مراحل تطورها وكلما كان شعب ما عريقاً في القدم كان إرثه الثقافي غنياً، والغنى الثقافي يعني امتلاك ذاك الشعب كمّاً هائلاً من الحكايات والأساطير. والأساطير هي الشكل الأقدم من أشكال الإدراك والمعرفة للعالم والذات وهي المقدمة الأولى لظهور الثقافة الروحية لدى الإنسان البدائي. وتتضمن الأساطير قصصاً تعبر عن تفكير الإنسان البدائي حول مشاهداته وأحاسيسه وتفسيراته للطبيعة المحيطة به وتأثيرها عليه، مثل السماء والنجوم، الشمس والقمر، الجبال والغابات، الهواء والنار، الثلوج والأمطار والأنهار، الحيوانات والنباتات …الخ .

فلمّا عجز عن تقديم التفسير المعقول حاول بقدر امتلاكه للقدرات العقلية والحسية تأليف قصة أو ملحمة شعرية حول كل ظاهرة طبيعية في محيطه، بحيث تكون هذه القصة الشعرية مرضية له ولجماعته، وتعبر عن تطلعاته وأحلامه، ويقوم بترتيلها وتداولها شفاهة بين الأفراد وعبر الأجيال، كأسطورة زَروان حول نشأة الكون وأسطورة تموز الذي قُتل ثم بُعث إلى الحياة من جديد، وأسطورة خلق الكون البابلية )إينوما إيليش(، وأسطورة الطوفان التي تهدف إلى تعريف البشر بسطوة القدر وتحذيرهم من الغضب الإلهي، وتتميز موضوعاتها بالجدية والشمولية للمسائل التي تدور في عقل الإنسان مثل أصول الإنسان والحيوان والنبات والموت والعالم الآخر …الخ.

والملحمة الأسطورية يقوم بلعب أدوارها آلهة وأنصاف آلهة وشخصيات خرافية ويعطى فيها دور ثانوي للإنسان. ويُعتقد أن ولادة الأساطير وبداياتها ظهرت على منحدرات جبال زاغروس- طوروس في العصر الباليوليتي مع الانفصال النهائي للإنسان عن الحيوان وتكاملت مع بداية الزراعة في العصر النيوليتي، وترتبط الأسطورة بنظام ديني معين وتقوم بخدمته .

2 -المعتقد :

هو الركن الأساسي في الدين، قام بصياغته شخص يمتلك موهبةً وإدراكاً متميزاً استناداً إلى تجارب سابقة لمجموعة من الأفراد أو الجماعات البشرية، وقد برزت هذه الظاهرة لأول مرة في الشرق، لأن شعوب الشرق وخصوصاً في ميزوبوتاميا امتلكت ثقافة واسعة بحكم فعالياتها النشطة في كافة المجالات، وقد بدأت من كردستان حيث برز زرادشت فيلسوفاً ونبياً للشعوب الإيرانية، تبعه )بوذا( في الهند، تلاه )لاو تسي( في الصين، ثم المسيح ومحمد في الشرق الأوسط. ويتشكل المعتقد من عدد من الأفكار والمبادئ الواضحة تفسر الصلة بين الإنسان والإله .

3- الطقس:

يرتبط بالمعتقد ويُعتبر التعبير الشكلي له، ويتألف من مجموعة من الحركات والأدعية والصلوات والتراتيل، وإيقاعات موسيقية ورقصات تعبيرية. وانعدام الطقوس في المعتقدات الدينية يحولها إلى شكل من الفلسفة.

4- الأخلاق :

مجموعة من المبادئ والقواعد والممارسات التي تنظم سلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التي يشكلون أعضاءها، وهي بديل عملي وناجح لأسلوب القوة والإكراه في العلاقات الاجتماعية. ورد في سورة الإسراء )الآية 32 ( من القرآن الكريم : «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا » )قاعدة أخلاقية( .

5- الشرائع :

هي جزء من الأخلاق العامة لكنها مؤيدة بالعقوبات التي تفرضها السلطة السياسية، فالافتراء والكذب والزنا مسائل أخلاقية عامة ولكنها عندما تؤيد بعقوبة مفروضة من الجماعة تصبح قضايا تشريعية رغم انتمائها إلى المجال الأخلاقي، جاء في سورة النور «الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة » )قاعدة تشريعية( . الدين بشكل عام يعني مجموعة الأفكار والتصورات والشرائع والشعائر والحقائق التي تقنع معتنقيها بأنها نزلت من السماء عن طريق وحي إلهي إلى نبي أو رسول، وهو تطور عن الأساطير القديمة ويستند عليها بقوة، ويصعب الفصل بينهما، إنه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي والإبداع الثقافي مثل الأدب والفن والأخلاق وجزء أساسي من ثقافة الإنسان، هو صلة الإنسان مع ربه وبمثابة جرعة مهدئة تعطي راحة نفسية وأملاً في الخلاص من خلال قيام الشخص ببعض الطقوس كالسجود والصلاة التي تترافق مع التراتيل والترانيم الموسيقية حيث ينتقل الشخص من حالة الهم واليأس إلى النشوة والسعادة .

رافقت التصورات الدينية الإنسان منذ بداية مرحلة انفصاله عن عالم الحيوان، ولعدم وجود نصوص مكتوبة تم الاستدلال على أفكاره وِتصوراته عن طريق الرسوم الجدارية في الكهوف السكنية وتماثيل المعابد والأدوات الجنائزية المكتشفة في المدافن في مستوطنات جرمو وكهوف شانه دار في جنوب كردستان، وكهوف الشت )هكاري( وبولانلي )آديمان( في شمال كردستان، وتل حلف في غرب كردستان. وتشير تلك المكتشفات التي تعود إلى العصور الباليوليتية والنيوليتية إلى ديانات رعوية وزراعية من حيث الاعتقاد والطقوس والتي تتركز غالباً حول الإلهة الأنثى لعنايتها بالزراعة، ومع اقتراب نهاية المرحلة النيوليتية يظهر الإله الذكر في المجمع الإلهي، ومع تقدم دور الرجل يتقلص دور الآلهة الأنثى لتنتهي بسيطرة الرجل الكاملة على الأسرة والألوهية. فبعد أن كانت المرأة موضع محبة وتقدير ورهبة وتقديس حيث تنشأ الحياة الجديدة من جسدها وحليب الحياة من صدرها وهي التي دلت البشرية على فنون الزراعة والحرف اليدوية أُهمِل دورها وأُزيحت عن مكانتها الريادية، ففي البداية شاركها ابنها دوموزي )الابن البكر( ومن ثم زوجها إلى أن تم القضاء عليها نهائياً مع ظهور الديانات التوحيدية العالمية حيث تحولت إلى أمَة وجارية وسلعة تئن تحت ثقل نير العبودية وبذلك ينتهي عصر الأمومة .

يعتقد علماء الاجتماع ويؤيدهم علماء الآثار بدليل اللقى الأثرية المكتشفة أن الإنسان البدائي من الجنسين كانا يعملان معاً في تأمين سبيل قوت يومهم من الصيد والالتقاط وجمع الثمار، ولما تعذر ذلك على المرأة بسبب خصوصيتها )الدورة الشهرية، الحمل، الولادة، الرضاعة ورعاية الأطفال( ولم تتمكن من الابتعاد عن كهفها كي لا يتعرض أطفالها لمكروه، ولأن الرجل لم يكن ملزماً بمشاركتها المسؤولية لعدم شعوره برابطة عاطفية تجاه الأطفال كما لم يُعترف له بأي دور في عملية الإنجاب، حيث كان الاعتقاد السائد أن الإنجاب خاصية إلهية وطبيعية للمرأة وحدها، وهذا الاعتقاد فتح أمامها طريق القيادة والألوهية، ولما اكتشف الرجل بعد آلاف السنين أن الإنجاب لن يتم دون مشاركة الرجل شعر بأحقيته في «أبوة » الأطفال، حينئذ بدأ الصراع بينهما وتمكن الرجل أخيراً من مشاركتها في مؤسسة الأسرة وقيادة القبيلة، ساعدته في ذلك قوته الجسدية، وتمكن من الدخول إلى مجمع الآلهة عضواً فاعلاً ومن ثم إزاحة المرأة من منصب الألوهية الرئيسية وقيادة الأسرة. فبعد أن كانت ربة الأسرة والقبيلة والخط السلالي يسير ضمن محور المرأة من الأم إلى الابنة، تحول إلى خط الأب ومنه إلى ابنه، وأصبح رب الأسرة والقبيلة والإله .

كان النظام اللاهوتي الأنثوي )الربة العظمى، الأم الكبرى، الجدة الأولى( يحكم البشر ضمن قوانين الطبيعة بعيداً عن الاستغلال، وكان اهتمامه ينحصر في الزراعة وتدجين وتربية الحيوانات والحرف اليدوية البدائية، ولذلك عاشت البشرية حياة طبيعية هادئة، ومع سيادة سلطة الرجل في المجمع الإلهي وقيام النظام الدولتي بدءاً من سومر انقسم المجتمع إلى طبقتين، طبقة السادة- الكهنة وطبقة العبيد، وتكرر ذلك في العصور الأكادية والخورية …، حيث كان المجمع الإلهي بمثابة مجلس الوزراء في هذه الأيام وعلى رأسه رجل من كبار الآلهة، وكافة الحقائب السيادية من حصة الآلهة الرجال، أما الحقائب الخدمية والترفيهية فكانت للآلهة الأنثى وهذا ما أدى إلى تقليص دور المرأة السياسي والاقتصادي خصوصاً بعد قتل الإله مردوك للإلهة تيامات. ومع قدوم الشعوب الآرية التي كانت تدين للإله الرجل القوي وظهور الأديان التوحيدية زال دورها نهائياً، وقد أغلق آخر معبد للربة في اليونان عام 500 م .

يبدو أن ظهور الإله الذكر على مسرح المعتقدات الدينية في ميزوبوتاميا وكردستان بدأ مع أسطورة الطوفان التي ربما حدثت بين الألف الخامس والثالث قبل الميلاد، حيث قام أوتو نابشتيم )نوح لدى الساميين( بنجدة نفر قليل من البشر وعدة أزواج من الحيوانات، وغرق الباقون بسبب غضب الآلهة حسب ما ترد تفصيلاتها في ملحمة كلكاميش، وتفيد النصوص الأكادية بأن سفينته رست على جبال الكوتيين )جبل جودي المطل على جزيرة بوتان(، اما المصادر الآشورية فتشير إلى رسوّها على جبل نيسير أو كينيبا في جنوب كردستان، وورد في العهد القديم أنها رست على جبل آرارات، وذكر المؤرخ البيزنطي أوزابيوس اعتماداً على المؤرخ والكاهن الكلداني بيروسس بأنها «رست على جبال كاردوخيا والناس هناك يتبركون بها »، بينما حدد القرآن الكريم في سورة هود «وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي ». جميع المواقع المشار إليها في المصادر أعلاه تقع على قمم جبال طوروس في كردستان، وغالبية هذه المصادر تعتمد على الترجمة الخورية لملحمة كلكاميش والتي نشرها الخوريون الذين كانوا يسيطرون على عموم الشرق الأوسط في الألف الثاني قبل الميلاد كما وصل تأثيرهم إلى مصر عن طريق الهكسوس حيث تعتبر غالبية المصادر أن أغلبهم كانوا خوريين، وكون المنقذ رجلاً )نوح( بدأ الآلهة الرجال يتربعون على العرش الإلهي. كان الإله الكردستاني كوماربي أول المتربعين على المجمع الإلهي الخوري في كردستان، وتشير الآثار الخورية المكتشفة في مناطق الجوار مثل خاتوشّا )تركيا( وتل العمارنة )مصر( إلى مجموعة من الأساطير دُوِّن قسم منها باللغة الخورية وأخرى مترجمة إلى اللغة الحثية تتعلق موضوعاتها بفكرة توارث الأجيال للألوهية عبر عصور أسطورية، لتنتهي بسيادة إله الطقس القوي تيشوب، مثل أسطورة «أغنية مملكة السماء » التي ملخصها: أن )ألالو( كان ملكاً يجلس على عرشه في السماء ويخدمه )آن(، وبمرور تسع سنوات ينقلب آن على ربه ألالو ويسقطه عن عرش الألوهية ويجلس مكانه ويكلف )كُومارْبي( للقيام بخدمته ويقدم له كأس الشراب، وبعد تسع سنوات يتكرر الانقلاب ويقود كوماربي حرباً ضد أبيه )آن( فيقصيه عن العرش ويجلس مكانه …وهكذا، لكن كوماربي لا ييأس فيحاول ثانية بلوغ العرش، فينجب ثعباناً ضخماً باسم )خِدَمّو( من الابنة العملاقة لإله البحر )يم( ويحاول تدمير البشرية برمتها من أجل استعادة العرش الإلهي، فيتدخل جميع آلهة السماء متعاونين للسيطرة على )خدمو( حفاظاً على مصالحهم .

حيث يرد في مقطع من الرّقيم : «إذا أبيدت البشرية فلن يحتفل أحد بالآلهة ولن يُقدَّم لهم الخبز والشراب وأن تيشوب سيمسك المحراث بيده و)خِبات، عشتار( ستديران حجر الرحى »، وتفلح عشتار في إغوائه بجسدها والسيطرة عليه، ولكن كوماربي يحاول مرة أخرى بمساعدة إله البحر )يم( الغريب وذلك بخلق مخلوق صخري ضخم لتدمير مدينة إله الطقس )كُمِّيّا(، فتستنفر جميع الآلهة للسيطرة عليه ويتم استدعاء الآلهة الموغلة في القدم لاستشارتهم درءاً للخطر، وفي النهاية تتم السيطرة عليه ويؤول الأمر لإله الطقس تيشوب لأن خصوصيته تتناسب مع تضاريس وجغرافية كردستان الجبلية الباردة التي جعلت منه الإله الأقوى والأعظم .

يبدو أن الأسطورة تستند إلى قصص خيالية من كردستان مفادها أن الولادة الأولى نتجت عن الحجر، كما تفيد بوجود عداوة بين إله الطقس الكردستاني )الوطني( وبين إله البحر )يم( الغريب وعديم القيمة لعدم وجود بحار في كردستان، والذي يحاول التسلل إلى الجبال عن طريق الأنهار بدعوى أنها ضمن مناطق نفوذه. كما عُثِر ضمن التراث الخوري على أسطورة «البطل كورب أرَنْزَخ » والتي تتعلق بنهر أرَنْزَخ )دجلة( حيث لم يتمكن العلماء من صياغة القصة بسبب تلف معظم الرقيمات ، وأسطورة «الصياد كِشّي » الخاصة بالصيادين، حيث فقد الصياد كشي القدرة والحركة لزواجه من الحسناء شينتالي ولم يقدم لها الخبز والخمرة، فيحاول التحرك حسب توصيات أمه باحثاً عن صيد يخلصه من الموت جوعاً، لكنه يفشل وفي النهاية تنقذه الألوهية الأبوية، ودلالة الأسطورة هي أن السلطة الأبوية أقوى من سلطة الأم .

كما انتشر عددٌ من أساطير الخلق ومنها الأسطورة البابلية )إينوما إيليش(، وانتشرت أيضاً في كردستان أساطير متشابهة حول حادثة الخلق الأولى منها ما أورده المؤرخ الأرمني خوريناتسي نقلاً عن كتاب بيبوس سيبيلا بأنه « : كان لنوح قبل الطوفان ثلاثة أولاد يحكمون الدنيا هم: زروان وديدان وهابيدوت، وبعد الطوفان تم اقتسام السلطة بينهم على الدنيا لكن زروان )سماه زرادشت أبو الخلق أو البدء( يتوسع في ملكه على حساب إخوته فنشأ صراع عنيف بينهم وتوقف إثر تدخل أختهم ستيرك بالاتفاق على تنصيب زروان ملكاً عليهم دون أن يورث الحكم من بعده لأبنائه، وكضمان على ذلك تم الاتفاق على أن يُقتل أولاد زروان الذكور حين الولادة، وبعد مقتل اثنين منهم أشفقت على هؤلاء الأطفال فتم إبعادهم إلى الجبل »، ومنهم ينحدر أصل الكرد .

ويشير كتاب آفستا المقدس في إحدى فقرات الكاثات إلى أن كلاً من روحي الخير والشر ويسميهما الروحين الأصليين أو التوأمين العظيمين لأب واحد لم يذكر اسمه هو أقدم أصل للوجود، لكن الناس دعوه الزمان )زَروان( واعتُرِف به كإله للعالم أجمع منذ العصر الميدي، وقد قدم هذا الإله القرابين لمدة ألف سنة لكي ينجب ولداً يسميه آهورا مازدا، لكنه عجز في النهاية وساوره الشك في تقديم القرابين، ولحظة شكه شعر بوجود ولدين في بطنه )يرى المؤرخ السرياني أناهيد في بطن زوجته Xoşêzeg ( فوعد زروان بأنه سينصب ملكاً على الدنيا من يمثل أمامه أولاً، عندئذ شق أهريمن بطنه )بطنها( ومثّل أمام أبيه فقال له زروان من أنت؟ أجابه أهريمن: أنا ولدك. فقال زروان: إن ولدي نوراني وزكي الرائحة أما أنت فظلماني وعفن. ولما مثّل آهورا مازدا في تلك اللحظة منوّراً زكي الرائحة تعرف عليه زروان فوراً وقال له: «كنت أقدم لك القرابين حتى الآن ومنذ اليوم ستقدمها من أجلي »، لكن أهريمن يذكر أباه بوعده وهو تنصيب من يمثل أمامه أولاً ملكاً على الدنيا، فيجيبه زروان بأنه سيهبه مدة تسعة آلاف عام على أن يحكم آهورا مازدا منفرداً من بعده . وننوه إلى أنه ينتشر في كردستان عدد لا حصر له من القصص والأساطير الشعبية حول مختلف القضايا إلى جانب المعتقدات الدينية، منها ما يتعلق ب :

– تشكل الكون: حيث يعتقد بعض الكرد أن الشمس امرأة جميلة في غاية الجمال، والقمر رجل ذو صورة بشعة عليه بقع وكأنه مصاب بالجدري، وآخرون يرون الشمس والقمر على هيئة شابين، ولأن الفتاة لم تستجب لنداء حب الفتى ولم تقبل مهره وردته ببرود صرخ الفتى العاشق بأعلى صوته في وجهها «لتتحولي إلى كائن يستحيل الوصول إليك »، وهكذا انقلبت الفتاة إلى شمسٍ تبهر الأبصار ويستحيل الوصول إليها، وانقلب الفتى إلى قمر .

– كسوف الشمس وخسوف القمر: تسببهما أرواح شريرة بسبب غضب إلهي، ويستوجب طردها أو إبعادها إثارة الضجيج وإطلاق العيارات النارية والضرب على الأواني النحاسية وإشعال النيران وإقامة الصلوات .

– النجوم: لكل إنسان نجم أو كوكب، وموته يعني سقوط نجمه، فعندما يسقط نجم )شهاب( يفسر على أنه إشارة لوفاة شخص.

– قوس قزح: يعتقد الكرد أنه بمرور شخص تحت القوس ينقلب جنسه من ذكر إلى أنثى وبالعكس.

– المطر: قسمة من الله ينفذه النبي سليمان، فيطلب من الطيور بأمر من الله جمع المياه من المحيطات بمناقيرهم وإنزالها في المكان الفلاني، وكبر حبات المطر أو صغرها يعود إلى أحجام الطيور.

– الرعد والبرق: كائنات علوية تجوب السماء وبيدها سوط وتضرب السحب والغيوم، فالرعد صوت الضرب، والبرق شرارة السوط، ولا يجوز إطفاء الحريق الذي تسببه الصاعقة، وإذا ضربت شخصاً يقال إن الله عاقبه، ومن يشاهد هذه الظاهرة يناجي ربه ويطلب الغفران والأمنيات.

– الزلزال: يفسر على أن الأرض فوق قرن ثور، فعندما ينقل الأرض من قرن إلى آخر بسبب التعب يحدث الاهتزاز، أو أن ذبابة حلت على عين الثور فرف جفنه واهتزت الأرض.

كما أن لدى الكردي تصورات فيما إذا قام أحد بإحصاء محصوله أو قطيعه وباح به فإنه يفقد البركة أو تموت حيواناته، لذلك لا يصرح الكردي لأحد بعدد مواشيه أو كمية محصوله الزراعي، كما أنه يوزع باكورة محصوله أو دواجنه أو لبنه على الجيران ليزيد من بركتها، وعلى الجيران أن لا يعيدوا الوعاء فارغاً بل يجب أن يُعاد وفيه شيء ما ولو كان قليلاً من الملح كي لا يجف زرعه أو يشح لبنه. وكذلك كان الفلاحون يضعون حجراً في وسط البيدر قبل رمي القش على الأرض، وبعد درسه بالجرجر كان يجمع فوق الحجر اعتقاداً منهم بازدياد البركة، وبعد ذر البيدر وفصل الحَب يضعون الحجر من جديد ويغربلون الحَب فوقه، وقد يكون لهذه العادة علاقة مع عبادة الحجر في الأزمنة السحيقة وبقيت كموروث ثقافي في ذاكرة الكرد، وعند وضع الحَب في أكياس المونة يضعون بصلة على فوهة أكياس البرغل والطحين لأنها تزيد البركة ولا ينضب الكيس، كما أنهم كانوا يوزعون هدايا الختان المؤلفة من مكسرات محلية، وعند طلوع أسنان الأطفال يوزعون سليقة حنطة وحمص، فالهدايا كانت ملازمة للأساطير، وإن عودة الوعاء فارغاً سيعرض سعادة أسرته للخطر، كما كان من عاداتهم وضع صليب خشبي أو خرزات على كتف الأطفال الذكور وفي رقبة الإناث أو معاصمهن لمنع الأذى والحسد.

آلهة كردستان :

أ ( وهي مجموعة من الآلهة عُبدت من قبل شعوب زاغروس و كردستان , وأهمها :

1- كوماربي : Komarbî

رئيس المجمع الإلهي الخوري، كان مقره مدينة أوركيش، ورد اسمه في النصوص الخورية المكتشفة في مدينة ماري )تل الحريري- سوريا( والتي تعود إلى عام1700ق.م.

2 -نَنَه :Nene

كانت إلهة منطقة دير )جنوب مندلي- جنوب كردستان(، ومنطقة حلوان، كما دعيت نينّي ورد اسمها على حجر كدورو )آثار كاشية( على أنها إلهة بلاد الكوتيين، وكانت الأم الكبرى والأم المنتجة في بلاد سومر وأكاد وكوتيوم، تزوجت من دوموزي، ثم أصبحت ملكة السماء بزواجها من إله السماء )آن( وقد سميت مدينة نينوى باسمها، وما زال الكرد يستعملون هذه الكنية للجدات المسنات، كما شارك ابنها الإله موس في ألوهية منطقة دير باسم «سيد دير »، ظهرت صورتها على أختام تبه كيان ونهاوند )شرق كردستان( والتي تعود إلى الألف الرابع ق.م .

3- تيشوب :Tîşşop

ورد ذكره في وثائق الألف الثالث ق.م، ملك الآلهة وإله العواصف والأمطار في البلاد الخورية )كردستان( وسوريا والأناضول، وهو ابن الإله كوماربي، عزل أباه وأصبح إله السماء، معبده الرئيسي في مدينة كوميا )حوالي مدينة زاخو( وهو زوج الإلهة خبات ودعي «بورياش » لدى الكاشيين، وكان رئيس المجمع الإلهي في ميتانيا وأدخل اسمه في الألقاب الملكية الميتانية، كما عُبد في بلاد خلديا )أورارتو( باسم تيشبا Teyşeba ، وكان له معبد رئيسي في مدينة حلب يتجمع فيه الآلهة يصطفون حسب الدرجات للقيام بطقوسهم ومنها كالوتي , وكان بمثابة الإله )آمون( في مصر .

4- شاوشكا : Şawuşka

أهم إلهة خورية، ورد ذكرها في نهاية الألف الثالث ق.م، وبقي اسمها يذكر حتى نهاية القرن الثامن ق.م، عُبدت في نينوى وعموم البلاد الخورية، وكانت الإلهة الرئيسية في أرّبخا )كركوك( وأربيل، وشاركت تيشوب في أوغاريت وألالاخ )تل العطشانة(، وبجانب الإلهة خبات في حلب وكيزوفاتنا )أضنة( , وامتزج اسمها مع عشتار كآلهة رئيسية في آشور وعموم كردستان , ورد اسمها في نص أكادي باسم «عشتروت الخورية » , وفي نص فينيقي اكتشف في مرسيليا باسم «عثروت خور » كما وجدت ضمن صف الآلهة في «يازيلي قايا » قرب خاتوشا )بوغاز كوي- أنقرة(, كانت إلهة الحرب والجنس, وصفها الملك الميتاني تشراتا بأنها «سيدة السماء » و «سيدة بلادي » وأرسل تمثالها إلى مصر لشفاء الفرعون المصري أمنحوتب الثالث.

5- خيبات :Xîpat

إلهة خورية منذ الألف الثالث قبل الميلاد , كانت تُعبد في البلاد المحصورة بين كركوك وكيزوفاتنا )أضنة( تزوجت من الإله تيشوب , دخل اسمها في ألقاب الأميرات الميتانيات كلو- خيبا و تيتا – خبا أخذ اليهود كنيتها بصيغة حواء, وأصبحت عضوة في المجمع الإلهي الحثي مع إله الشمس في مدينة أرينا )تركيا(.

6 -لوبدا : Lubeda

إله خوري ورد اسمه في كتابات الملك الخوري تيش- أتل، دعي أحياناً بصيغة لوبدَكا.

7- خلدي :Xeldî

كان إله بلاد خلديا التي دعاها الآشوريون باسم أورارتو رغم عدم ذكر كافة النصوص المكتشفة في خلديا اسم أورارتو وإنما ذكرت )نائيري أو بياينيا( الواقعة بين البحيرات الأربع )وان – جيلدر – سيفان – أورميه(، وقد أخذ الشعب الخلدي اسمه من اسم معبودهم )خلدي( حيث بدأت عبادته من القرن الحادي عشر وحتى القرن الخامس قبل الميلاد، ودعي خلدي محلياً باسم )كلدي Keldî ( وأحيانا )ألدي )Eldî وكانت )آروباني( زوجته، ومركز معبده الرئيسي في مدينة موساسير )أرديني( التي يُعتقد أنها تتطابق مع قرية مجيسر التي تقع على بعد 18 كم شمال رواندوز )جنوب كردستان(، ورد ذكره في نص مكتشف من بلاد الخلديين: «زار إشبوإيني ابن ساردوري، ومينوا ابن إشبوإيني مدينة أرديني للامتثال أمام الإله خلدي . »

ب ( الآلهة الهندو- آرية :

هي مجموعة الآلهة التي آمنت بها الشعوب الآرية في موطنها الأصلي )آريا( الواقع جنوب شرق بحر قزوين، ومع دخولهم كردستان في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد واندماج ثقافتهم مع ثقافة الشعوب الزاغروسية والسوبارية )شعوب كردستان الأساسية( اندمجت المعتقدات الدينية أيضاً، خصوصاً عبادة الشمس التي كانت العقيدة الرئيسة لحاجة الشعب الماسة إلى دفء الشمس في وطنٍ يتميز مناخه بالبرودة العالية، ولذلك دُعيت كردستان «وطن الشمس »، وقد عُبدت الآلهة الآرية إلى جانب آلهة كردستان من قبل شعوبها المختلفة وامتد تأثيرها إلى الشعوب السامية المجاورة، فإله الشمس الآري )آسورا( أصبح )شمش( لدى البابليين و )أتون( في مصر، وبالمقابل فإن إله القمر )سن( السامي أصبح إلهاً رئيسياً في حرّان، ودخل الإله نيكال السوباري )الخوري- الكردستاني( إلى مجمع الآلهة السومرية والسورية والأناضولية، والإله )إيا( السومري الأكادي دخل مجمع الآلهة الخورية، ونسرد بعضاً من الآلهة الآرية الأصل :

1 -آسورا :Asora

إله الشمس وخالق الكون ومانح الحياة والمعبود الرئيسي للآريين ومن ثم في عموم كردستان مع دخول الميتانيين وأولياء أمور الكاشيين إلى كردستان، وقد دعي )سورياش( لدى الكاشيين، و )سوار- شوار( عند الميتانيين و)آهورا( لدى الميديين كما ورد أيضاً في الآفيستا، وقدّس الآريون القدماء النار كرمز للإله آسورا- آهورا، كما قدّسوا عصير الهاوما- الساوما.

الإله الميتاني آسورا

2- إندرا : Êndra

إله العواصف والصواعق والأمطار لدى الميتانيين، ورد ذكره في قصائد الفيدا، إضافة إلى أنه كان إله الحرب لدى الميتانيين والحثيين.

3-ميترا (Mîtra):

إله آري الأصل وشكل آخر لإله الشمس انتشرت عبادته بين آريي كردستان، كما أنه إله العقود والاتفاقيات، وهو محارب قوي وجبار، قتل الثور المقدس وخلق من دمه جميع الكائنات الحية، آمنت به الشعوب المجاورة لكردستان مثل الفرس واليونان والرومان، تأثرت الميترائية بالزرادشتية التي تستند إلى الصراع بين الخير والشر ويساعد آهورا مازدا ضد أهريمن، وهذا ما استهوى الجنود الرومان وانتشر بينهم مما حيّر الرومان بين اختيار المسيحية أو الميترائية، دخل اسمه في الألقاب الملكية لملوك البارث- الفرث والأرمن والبنطس، وفي الأسماء الكردية مثل )مهربان، مهرزاد( ودعي يوم مولده )مهرجان- روح ميترا(، انتشرت عبادته لدى أباطرة الرومان وعندما عجزت المسيحية عن القضاء على الميترائية اضطرت إلى مسايرتها ومجاملتها والاحتفال بعيد ميترا الكبير )ميلاد الشمس التي لا تقهر( وذلك في الخامس والعشرين من كانون الأول، ثم اعتبر نفس اليوم فيما بعد عيداً لميلاد المسيح.

4 -فارونا : Varona

إله الأخلاق وسيد النظام في المجمع الإلهي الكردستاني إلى جانب ميترا وإندرا، يحاسب الناس على خطاياهم ويتضرع إليه الناس طلباً للمغفرة واللطف في الحساب، كما أنه إله السماء في الهند.

وإلى جانب الأسماء المذكورة هناك أسماء عديدة لآلهة عُبدت في كردستان مثل )آريا( وإله المطر والمياه )آبام- apam (، وشوماليا )هيماليا- في السنسكريتية( إله الجبال، وأناهيتا )ناهاتيا- ناساتيا( التي أصبحت )ناسيان( لدى القبائل الجرمانية، وكذلك هورفتات )هاروت( وماروتاش )ماروت( الذين ورد ذكرهما في القرآن الكريم. ومع اندماج الشعوب الزاغروسية مع الآريين والساميين والتناوب على حكم المنطقة اقتربت معها الأديان أيضاً وأصبحت مجمعات الآلهة متقاربة ومتماثلة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى