معركة مع أولاد الدولة

معركة مع أولاد الدولة

الاسم الحركي: زردشت

الاسم الحقيقي: سعيد جاويش

تاريخ الانضمام: 1995

تاريخ الاستشهاد:

2004 /6/14

زاغروس – كفر

ولد الرفيق زردشت )سعيد( في قرية قره جوخ )بروج( الكردية الكوجرية النائية والمحاطة بالسهول والتلال والأحجار البازلتية وبقايا الكهوف والقرى العائدة إلى مرحلة العصر الحجري الحديث وما يسمى بالعصر النيوليتي. لم يذهب سعيد إلى المدينة القريبة ديريكا حمكو والشبيهة بقرية كبيرة أو قصدها إلا بعد أن أكمل دراسته الابتدائية وأصبح عمره ثلاث عشرة سنة. ولكنه ذهب إلى السينما في شركة البترول الوحيدة والقريبة من القرية حيث كان أبوه حارساً فيها لعدة سنين، ولكنه عندما كان جالساً أمام الشاشة مع أخيه الأكبر منه سنا فجأة ظهر على الشاشة حصان وكان ريغان كوبوي يركب عليه، حينها وقع سعيد في الدهشة والحيرة لما شاهده على الشاشة والتصق بأخيه الكبير وبانت عليه علامات الخوف وقد كان وضعه ملفتاً للنظر من جانب الحاضرين ولكن الأمر كان طبيعياً، لأن سعيد كان ما يزال طفلا! وبعد هذه الحادثة فكر سعيد في إنشاء سينما على هوى أحاسيسه وحسب مخيلته الطفولية.

جمع سعيد عدداً من الأطفال وفتح ثقباً كبيراً في علبة معدنية رقيقة وبدأ يضع الصور الكاريكاتورية الملونة والتي حصل عليها من الدكان الوحيد الموجود في القرية حينها، وكان يحرك الصور على التوالي وبشكل سريع أمام الثقب الذي فتحه في العلبة المعدنية مع بعض الأصوات غير المفهومة كتمثيل لدور البطل في الفلم. كان الرفيق زردشت )سعيد( يركض وراء السيارات الآتية إلى القرية عبر الطريق الترابي وكأنه يركض وراء حصان أو كبش أو طير ويريد أن يلتصق بها ويخرج من القرية ولو لمرة. كان أبوه رجلا مارس كل الأعمال الخارجة عن القانون حسب تعبير الدولة القومية، مثل عبور الحدود فيما بين ديريكا حمكو وزاخو بدون دستور أو إذن من أية مرجعية تابعة للدولة إلى جانب تهريب البضائع وتسهيل مرور الهاربين من الدولة لأسباب سياسية وقضائية.

لذا كان سعيد يستمع إلى حكايات أبيه المناهضة لتبعية الدولة والداعية إلى الابتعاد عنها. بالإضافة إلى انضمامه كطفل صغير إلى السهرات الليلية للحكواتي حجي محو واشتراكه في لعبة جاف كرتوك )الغميضة( وبوك – زافا ) العريس والعروسة( مع عدو وقمري وخوخة في ساحة القرية تحت أشعة القمر السحرية الصيفية.

وعندما أكمل سعيد دراسته الابتدائية في مدرسة القرية المبنية من الحجارة البازلتية المجهزة بأشكال هندسية رائعة على يد المعلم الأرمني، ذهب إلى مدينة ديريكا حمكو لكي يكمل دراسته الإعدادية هناك. وفي يوم ذهابه حضرت له أمه بيكية وخجة علبة من الجبن الكوجري وعلبة من اللبن وبعض البيض القروي وفرشاً من الصوف، بالإضافة إلى بعض الحاجات الضرورية. ولم تنسَ خجة وضع )حمايلوك( المجهزة من قبل الملا إبراهيم تحت كتف ابنها سعيد لكي لا يصيبه الأذى في غابة المدينة.

وقد كانت الأم بيكية وخجة فرحتين وتهللان لابنهما الذي سيذهب إلى عالم آخر سعياً وراء العلم والنجومية حسب اعتقادهما.

وقد كان الأهل يستشعرون في أعماق قلوبهم خوفاً من المستقبل المجهول في المدينة كونها مسكن )أولاد الدولة ( ولا تشبه القرية الكوجرية النائية ومحيطها الكومينالي الطبيعي. ففي هذه القرية هناك ألعاب مشتركة بين الفتيان والفتيات دون تمييز وهناك مجالس مشتركة بين الرجال والنساء دون أية عوائق وعلى قدم المساواة وبشكل طبيعي لا يوجد أي أثر لتجارة الخبز والماء والربا، بل حسب اعتقادهم كل هذه الأشياء ملك للجميع ونعمة من الطبيعة ورب العالمين! أما في المدينة فإن كل شيء حتى الماء والحجارة والتراب والعشب والنظرات والعواطف والصداقة والحب والعشق تحول إلى بضاعة تباع وتشترى في الأسواق.

بعد أن أخذ سعيد مكانه في سيارة جيب عائدة لمرحلة الاستعمار الفرنسي على المنطقة قال سائق الجيب أيسف توما السرياني من قرية خانيك الواقعة على نهر تيغريس )دجلة( لخليل ) أبي سعيد( : هل ستبعث ابنك للدراسة في المدينة؟ فرد عليه العم خليل بصوت فيه الكثير من الافتخار والكبرياء: نعم يا كريفي أيسف، نحن في زمن القلم والدفتر ولقد ولى زمن الفأس والسيف! فرد عليه أيسف بمزاحية المرح: ) إن أولاد الكواجر أذكياء ويتعلمون بسرعة وبقوة الجبن واللبن( وقد انتعش قلب العم خليل بهذا الكلام وكأنه شرب كأساً من الخاثر )دَو( الكوجري تحت أشعة الشمس في شهر تموز. بعد أن وصل سعيد مع اثنين من شباب القرية )محه وخشة( إلى الغرفة التي استأجروها في بيت مراد رزقو نرمو السرياني في حي المسيحيين بديريكا حمكو نظموا أثاث الغرفة وبدؤوا بحياتهم الجديدة العزابية بعيداً عن الأمهات والأخوات والخالات والعمات. وقد كانت زوجة مراد المسيحية سارة تحترم أولاد القرى الكوجرية وخاصة سعيد وتقدم لهم بعض المأكولات السريانية المطبوخة بعناية فائقة، وقد كانت بنت سارة ابتسام الصغيرة تنادي أولاد القرية ) وَرك سعو، محو، خشة( وهي تضحك وتمرح مع الضيوف الجدد داخل حديقة المنزل، وقد كانت هذه الأسماء جذابة لابتسام بدلاً من )سعيد ومحي الدين وخشمان( نعم النكهة الطبيعية ولذة الكلمة والمرح القروي المدهش بدلاً من الجفاف الرسمي لأسماء الدولة والمجتمع المديني المصطنع تجذب هذه الفتاة المدنية. كان سعيد يذهب مع محه وخشة إلى مدرسة )ثانوية يوسف العظمة( في ديريك وكان يلاحظ أن أولاد المدينة يتكلمون العربية كلغة رسمية لدولة البعث الشوفينية والقوموية بطلاقة، ولكنه كان يلقى صعوبة في ذلك. إلا أن سعيد قطع شوطاً في مجال القراءة والكتابة، ليس فقط باللغة العربية بل باللغة الانكليزية أيضاً. وكان يقول لمحه وخشة ما يلي: ) ياهو الانكليزية تشبه لغة أمي بيكية وخجة وأختي حزنة وسينم( طبعاً من باب المزاح ولكنه كان مؤمناً بذلك من صميم قلبه.

حلت أيام الفطر السعيد فحمل سعيد ومحه وخشة فطورهم المؤلف من الجبنة والبيض القروي وتوجهوا نحو المدرسة، ولكن بعد أن ابتعدوا عدة دقائق عن بيت مراد رزقوا نرمو، فوجئ سعيد بهجوم من قبل عدة صبيان يحملون السلاسل والسكاكين والهراوات ويرددون كلمة هجوم….. هجوم … هؤلاء كوندي )قروي( وقد كانت صدورهم عارية ووجوههم وحشية ونظراتهم حاقدة وكأنهم جحافل من جيوش الروم والعثمانيين والجندرمة وسرايا البعث الدموية. لقد كان المنظر غير طبيعي ومفاجئة كبرى للرفيق سعيد ومحه وخشة ولكن بعد عدة ضربات بالسلاسل والهراوات والسكاكين استعاد سعيد قوته وتذكر مقولة الأمهات: ) هناك أولاد حرام في المدينة لذا كونوا متيقظين تجاههم ( وبدأ بمقاومته ودفاعه المشروع ضد هذه العصابة التي تأسست على أرضية ثقافة المدينة والدولة بعد صراعٍ ضارٍ تمزقت فيه ألبسة سعيد ومحه وخشة وتناثرت أقلامهم ودفاترهم على الشارع الضيق وتعالت الصرخات من الحي المسيحي وهي تقول: ) أمداد …. أمداد، لقد قامت عصابة قتو ابن محمه سور بضرب أولاد القرية( فركضت سارة وابنتها ابتسام نحو موقع الحادث. لقد كان المنظر مروعاً ورهيباً، حيث كان الدم يسيل من رأس سعيد ووجهه بينما كان محه وخشة مسطحين على الأرض لا يستطيعان النهوض وفي هذه الأثناء قامت الخالة سارة بإيصال الخبر إلى زوجها مراد وبدوره قام بإيصال خبر هذا الحادث الأليم إلى قرية قره جوخ، وقد انتشر الخبر مثل الصاعقة في غضون نصف ساعة بعد ذهاب سينم إلى نبع القرية )كانيا دارا( لجلب المياه العذبة لحاجات البيت. معركة الرفيق سعيد )زردشت( هذه لن تكون الأولى والأخيرة مع أولاد الدولة. بعد سماع نبأ الحادثة ذهب العم خليل وقادة وحسو نادرة إلى ديريكا حمكو وأصر سعيد على ترك المدرسة والتخلص من هذه العبودية في المدينة والطيران في فضاء قريته الجميلة بكل حرية حسب ما تخيله في تلك الأيام. أحضر العم خليل ابنه إلى البيت بغرض الاستراحة لعدة أيام والرجوع إلى المدرسة ثانية. تعالت أصوات الصراخ والعويل من بيت العم خليل بعد دخول سعيد إلى المنزل بجراحه التي تمت معالجتها من قبل الدكتور. كانت تلك أصوات الأمهات بيكية وخجة وخشري وأصوات حزنة وبسه وسينم اللواتي كن يذرفن الدموع ويرددن الجملة التالية تكرارا ومرارا: ) يا أولاد الدولة … يا أبناء الوحوش…. يا أبناء الحرام…. ماذا فعل بكم هذا الطفل المسكين.( نعم، بالنسبة لهم كان كل من يعيش في المدينة ابن الدولة أو بنت الدولة، لأن المدينة في مخيلتهم هي الدولة والعكس هو الصحيح. هذا الإحساس العفوي البسيط والطبيعي قد يبدو ساذجاً للبعض، ولكنه تثبيت حقيقي من قبل النسوة القرويات. ونحن الآن نقرأ ملاحم الدفاع عن الإنسانية القادمة من إمرالي ونتعرف على الحقيقة بأسطع أشكالها، طالما لا يمكننا أن ننتظر من القرويين الكرد أكثر من هذه الإشارة البسيطة والعفوية بأحاسيسهم وآلامهم وصرخاتهم. كانت الأم خجه تقول لابنتها سينم ) يا سينو…! يا مقطوعة الشعر والجدائل، أليس هؤلاء الذين ضربوا أخاك سعيداً هم الذين أسسوا المدرسة في قريتنا وفي مدينة ديركا حمكو المحترقة؟ فلماذا يضربون سعيدي ويمنعونه من الدراسة؟ ليهدم الله )خوده(بيتكم يا أولاد الدولة الوحوش( هكذا ترددت هذه الأصوات في آذان سعيد، ولأول مرة فهم سعيد من أمهاته وأخوته بأن الذين ضربوه بالأدوات الحادة والسلاسل هم أولاد الدولة، أو على الأقل لهم علاقة بها. فكانت الصورة الأولى للدولة في ذهن الرفيق زردشت هي الضرب والتعذيب والإهانة. لذا شعر سعيد بأنه يواجه عدواً يسمى الدولة وأنه موجود في المدينة وقد يفاجئه في كل لحظة بالهجوم المباغت.

تردد سعيد في الرجوع إلى الدراسة في هذه المدينة، ولكن العم خليل أصر على رجوعه ووعده بأنه سوف يتدخل في الأمر ويبعد أولاد الدولة عنه بعد أن يلتقي بالقس أفرام ) رجل الدين المسيحي السرياني( وإمام المسجد في المدينة كما وعد ابنه الصغير بنقله إلى مدينة قامشلو في السنة الدراسية القادمة، لأن أهالي هذه المدينة طيبون ولا يوجد أولاد الدولة فيما بينهم حسب اعتقاد العم خليل.

بعد أن أتم الرفيق زردشت دراسته للصف الأول الإعدادي بنجاح رجع إلى القرية لقضاء العطلة الصيفية الطويلة. وقد كان يكرر حكاية تعرضه للضرب والإهانة على يد عصابة قتو أي أولاد الدولة لأطفال القرية في كل فرصة ومناسبة. كان يقول: إن هذه العصابة )جتة( من أولاد التجار الذين يدفعون الرشوة للمباحث ) استخبارات البعث( وهم أقوياء ويتكلمون بالهاتف مع الشام كما يتفرجون على جهاز يسمونه التلفزيون ويذهبون إلى السينما ويستمعون إلى الراديو، ولكن مذياعهم مختلف عن مذياع أبي، لأن مذياعهم يغني بالعربية والأجنبية بينما مذياع أبي يغني لمحمد عارف جزراوي ومريم خان وكويس آغا! نعم … إنني … أعرف كل شيء الآن! هؤلاء هم أصحاب الدولة ولهم شوارع ودكاكين ومحلات للحلاقة وللتصوير وللقصابين. ولكن محلات القصابين في المدينة وطريقة ذبحهم للخراف تختلف عن طريقة عمل عمي سليمان وحسو جاجا الذي يذبح الغنم ويقطعها بشكل غير دموي ونظيف خلافاً لما يحصل في محلات القصابين في المدينة.

تعلم سعيد الكثير خلال السنوات التي قضاها في المدينة وقد تغير مجرى حياته نوعاً ما، ولكنه ظل عفوياً وبسيطاً في ذهنه وأحاسيسه. بهذه الميزات والشخصية البسيطة العفوية دخل سعيد السنة الدراسية الثامنة في إعدادية زكي الأرسوذي في مدينة قامشلو! ولكنه هذه المرة رأى نفسه أمام عصابة جديدة مختلفة عن العصابة السابقة لأولاد الدولة )قتو(. هذه العصابة اسمها اتحاد شبيبة البعث، إنهم أولاد الدولة ولكن من نوع آخر، فهم يلبسون البدلات وربطات العنق والأحذية المبرقشة ويلعبون كرة السلة وكرة الطائرة ويأكلون سندويش الهمبرغر مع كوكا كولا ويترددون على المركز الثقافي البعثي الحاقد على الكرد في القامشلي ويرفعون التقارير إلى رئيس فرع الأمن السياسي حول أولاد القرية. لقد كانت شخصية الرفيق زردشت بالنسبة إلى هذه العصابة ملفتة للنظر لذا كانوا يتناقشون فيما بينهم ويقولون: إن هذا الولد المسمى سعيد شاويش ينتمي إلى البارتي ) الاسم والاتهام البعثي للشباب الكرد القرويين( لأنه لا يلبس الكرافيتا ولا ينظف حذاءه ولا يأكل الهمبرغر وبدلاً من الكوكا كولا يشرب ال )دَو( )العيران البارد( ولا يتكلم بالعربية مثلنا ولا يمزح ويكفر مثلنا، كما أنه لا يذهب كل يوم إلى باب مدرسة الطليعة ) مدرسة البنات ( ولا يقوم بتلطيشهن، إذاً هو زعيم للحركة الشبابية الكردية.

إنه متخلف وإقطاعي وقروي ولا يجيد الأكل بالأشواك المعدنية ولا يذهب إلى سينما الحداد كي يتفرج على فلم ) أبي فوق الشجرة( لعبد الحليم حافظ. إذاً تَحَوَلَ سعيد حسب تقارير العصابة الجديدة وأرشيف رجل مخابرات البعث إلى زعيم سياسي. ولكن سعيداً كان شاباً صغيراً غير ناضج ولم يختبر التجارب اللازمة للحياة، ولكنه مع مرور الزمن اكتسب شخصية مليئة بأحاسيس الغضب والكراهية للدولة.

حصل سعيد على الشهادة الإعدادية ودخل ثانوية العروبة في مدينة قامشلو، وكان معلم التاريخ محمد داغستاني الوحيد الذي يجذب اهتمامه واحترامه من بين كل المدرسين. أما المدير الأرمني متين الذي كان قد أنكر أصله وتحول إلى أمير أكثر من الأمير نفسه فقد كان غاضباً على سعيد بسبب وشاية عصابة أولاد الدولة المسماة باتحاد الشبيبة البعثية. فبحسب التقرير هذا القروي لا يردد شعارات البعث الشوفينية في الاجتماع الصباحي. أما معلم التربية العسكرية ملكي فقد كان يمارس الإرهاب ضد سعيد وأمثاله ويتهمهم بمعاداة مبادئ العروبة والإسلام والمسيحية، وكأن سيدنا المسيح قد تم صلبه على يد هؤلاء الفتيان القرويين أو أن فلسطين واسكندرونة محتلتان من قبل الكرد.

لقد كان ملكي وحشياً في تصرفاته، فقلما كان يمر أمام الشباب القرويين دون أن يصفعهم بدون أية أسباب، وكان مسيحياً سريانياً من كردستان ولكنه كان يتظاهر بالعروبة ولكي يثبت ولاءه للسلطة رأى في عداوة الكرد أفضل وسيلة. لقد كان ملكي )مدرب الفتوة( نسخة ممسوخة وكاريكاتورية عن الزعماء العرب الذين يبدون العداء الشديد للكرد والحركة الكردية لكي يثبتوا ولاءهم لتركيا وأمريكا وإسرائيل. أما المدرب الآخر ميخو فقد كان مختلفاً تماماً عن ذاك الكلب المسعور ملكي.

كان سعيد يعيش في منزل عائلة كرية، وعندما وصل إلى الصف النهائي في المرحلة الثانوية كان قد اكتمل ونضج في الكثير من النواحي وتعرف على حركة حزب العمال الكردستاني من خلال أخيه الأكبر والذي وقع أسيراً إثر مصادمات مع العدو التركي أو ما يسمى ) أولاد الدولة( في شمال كردستان. كما كان يتذكر زيارات الرفيقات والرفاق للقرية والتي كانت تتكرر في كثير من الأوقات. ويتذكر آلام أمه عندما وقع أخوه في الأسر سنة 1990 .

في السنة الأخيرة من الدراسة قرر سعيد أن ينضم إلى الكريلا بعد انضمام ابن أخته أيمن إليهم وانخراط بريفان بنت أخته في النشاط السياسي رغم صغر سنها. بعد سنوات توفي العم خليل كما تغير الوضع كثيراً؛ فمن جهة كانت هناك تطورات إيجابية جداً يمكن أن نسميها باليقظة والانبعاث الكردي التاريخي في عصر الهيمنة الوحشية للنظام العالمي الحاكم، ومن جهة ثانية كان هناك توسع ثقافي أنكلو- سكسوني تحت اسم الحداثة يهدف إلى هدم كل الأخلاقيات الاجتماعية وإحكام سيطرة الانحلال الخلقي والتفسخ فيما بين المجتمع وخصوصاً الفئات الشابة.

انضم الرفيق الشهيد زردشت إلى النشاط السياسي أولاً، وذلك بعد مراسم الشهيدين مدني ) عمر إبراهيم( وفرحان حاجي شرف )فرحان( في القرية، ولكنه لم يطمئن إلى نشاطه هذا، بل حاول القيام بالعمل وبكل طاقته وإرادته، لأنه كان يثق بنفسه كثيراً. وكان يتعرف على أخبار أخيه المعتقل في السجون التركية من خلال زيارات الأم خجه إلى السجن بصعوبة.

التحق الشهيد زردشت بصفوف الكريلا بعد استشهاد ابن أخته أيمن دشتان في دشتا سلوبي مع الرفيق يلماز أوزون، وقد أعطى قراره النهائي مع بنت أخته بريفان وذهبا إلى ساحة الحرب الساخنة في المرحلة نفسها تقريباً أي في نهاية عام 1995 وبداية عام 1996 . واختار جبال جيلو وسهول جارجيلا مسكناً له، وقرر أن يحارب أولاد الدولة حتى النهاية وبشكل محترف.

لم يخرج من جبال جيلو وسهول كفر حتى لحظة استشهاده في قرية وزيرآفا التابعة لمنطقة كفر عام 2004 في 13 حزيران.

لقد كان الشهيد زردشت يرى في محاربة أولاد الدولة الجدد ))الجيش التركي(( عملاً مقدساً ومسؤولية اجتماعية وشخصية بالنسبة له. كان يقول لبيريفان: إن أخي سوف يخرج يوماً ما من السجن وسوف يأتي إلى هنا وسنلتقط معاً صورة تذكارية وسنرسلها إلى أمي بيكية وخجه وأختي حزنة وسينم وسيفرحون كثيراً لهذا الأمر. عندما خرج أخوه من السجن بعد سنوات عديدة سأل عن زردشت ومصيره ولكنه لم يتلقَ الجواب النهائي، لأن العائلة والأصدقاء لم يكونوا يريدون أن يعرف الحقيقة من الوهلة الأولى، فقد خرج للتو من السجن وتحول إلى إنسان عاطفي أكثر من اللازم حسب اعتقادهم وقد لا يتحمل شهادة أخيه الصغير الذي حارب أولاد الدولة واستشهد على هذا الدرب بعد مقاومة بطولية مع رفيقه حيدر كوي. ولكن في نهاية الأمر عرف هذا المعتقل والسجين حقيقة المسألة وحضر مراسم تعزية أخيه زردشت وابن عمه خشمان وابن أخته أيمن تحت الخيمة نفسها مع الجماهير الوطنية الغفيرة التي أتت من كل أنحاء القرى المحيطة بالمنطقة عام 2006 .

بعد الإعلان عن استشهاد الرفيق زردشت ذهب أخوه الأكبر إلى مدينة قامشلو كي يرى المنزل الذي كان الشهيد يدرس فيه، والتقى بسكان المنزل الذين تكلموا عن شخصية زردشت وخصوصياته في سنواته الدراسية. وفي هذه الأثناء دخلت امرأة المنزل مع طفلين صغيرين، ولد وبنت، و كان عمرها لا يتجاوز الثلاثين، وعندما عرفت بأن الزائر الغريب وصديق العائلة في الوقت نفسه هو الأخ الأكبر للرفيق زردشت )وفي الحقيقة هو رفيق دربه( أرادت هذه المرأة أن تسأل عن مصيره بعد هذه السنين الطويلة فقالت موجهة سؤالها إلى الزائر: أين أخوك سعيد الآن هل مازال في الجبال؟ فرد الزائر: إنه رفيقي واستشهد في معركة مع أولاد الدولة أي الجيش التركي. بعد هذا الجواب لم تتمالك المرأة الشابة نفسها وبكت بكاءً طال عدة دقائق. بعد ذلك أضاف الزائر: يا أختي مهاباد نحن لا نبكي على الشهداء بل نسير على خطاهم. فردت مهاباد: نعم إنه شهيد ويستحق التقديس مع بقية الشهداء، إلا أنه كان بالنسبة لي إنساناً ذا مكانة خاصة، لأنني كنت أعشقه وأكن له حباً كبيراً ليس له مثيل. عندما فهم الزائر الحقيقة ومغزى الكلام قال: يا أختي العزيزة أنت الآن سيدة وأم لطفلين كما أن هذا الشاب قد حصل على مرتبة الشهادة ولا يجوز التكلم بهذا الشكل حول الشهداء وضمن جو عائلي …. وما شابه، ولكن إذا كنت تريدين أن تكوني صميمية في احترامك وحبك للشهيد فما عليك إلا أن تنضمي إلى صفوف النضال من أجل الحرية كامرأة تحترم صديقاً لها في يوم من الأيام. وبعد أن دخل أخوه ساحة الجبل في 28 شباط 2008 التقى مع الرفاق الذين عاشوا مع زردشت، حينها سأل عن الرفيق زردشت والخصوصيات التي كان يتصف بها بين صفوف الكريلا وعن المعركة التي استشهد فيها. فعرف بأن الرفيق زردشت والرفيق حيدر كوي استشهدا معاً إثر مؤامرة مدبرة من قبل أولاد الدولة وما يسمون بالجيتم، تلك اليد السوداء والخائنة والبكو عوان الذين لا يتركون جسد المجتمع الكردستاني سالماً.

ما زالت هذه العصابات التابعة للدولة التركية تحيك المؤامرات ضد الشعب في كفر وجولمرك حين تسمح لهم الظروف بذلك. كما عرف بأن هؤلاء الأوغاد الذين شربوا من شراب الدولة وسمها قد وقعوا في يد الكريلا ونالوا جزاءهم، كما أن كلاً من الرفيقين زردشت وحيدر تحولا إلى ملحمة خالدة لجبال جيلوا وكفر وشلة دزه بينما ذهب أولاد الدولة إلى مزبلة التاريخ. وهكذا كسب الرفيق زردشت المعركة وانتصر على أولاد الدولة في نهاية المطاف. كما أنه كسب من خلال مجرى هذه المعركة خصوصيات شعبية عريقة منسجمة مع الخصوصيات الثورية الآبوجية والتي احتضنتها الجماهير في كل من كفر وشلة دزه وديرلوك ومحيط جبال زاغروس.

لقد أثبت الرفيق زردشت بأن الإنسان ليس وليد الساعة واليوم الذين يفتح فيهما عينيه على الدنيا ويقول لها مرحبا، بل هو وليد التاريخ والأحداث والأرضية الاجتماعية والذهنية والمعنوية التي يترعرع عليها.

فكلما استطاع الإنسان أن يتغذى من هذه الأرضية استطاع بالقوة والطاقة اللازمتين تغييرها نحو الأفضل. لذا استطاع الشهيد زردشت أن يمثل هذه الحقيقة ويكسب المعركة ويصل إلى قلوب الشعب ويرقى إلى مستوى الخلود.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى