الأزمة السوريّة والحل الفيدرالي الديمقراطي

الأزمة السوريّة والحل الفيدرالي الديمقراطي

اللجنة الحقوقية

يدور نقاش كبير في الآونة الأخيرة حول ماهية النظام الاجتماعي والمعيشي الذي سيساهم في حل المشاكل الراهنة وكذلك تلك المشاكل المتراكمة تاريخياً للمجتمع في سوريا. هناك حديث عن العديد من الخطط التي يتم إعدادها في الداخل السوري وهناك أيضاً خطط يتم التطرق إليها في الخارج فيما يخص المستقبل السوري.  حيث يتم تطوير وصياغة البدائل المتعددة والمختلفة، وتجري مفاوضات سرّية وخفية خلف الأبواب الموصدة بين مختلف القوى الفاعلة في الملف السوري. القوى الدولية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا تقومان باستخدام شتى الأساليب  لتطوير حجج وأسباب بغرض تشكيل نظام يراعي أهدافها ومصالحها في سوريا. ومؤخراً انتشرت العديد من الإشاعات القوية التي تفيد  بأن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا تعملان سوياً حول صياغة دستور سوريا الجديد. ومن جانب آخر هناك القوى والدول الإقليمية مثل إيران وتركيا والسعودية والتي تنشط أيضاً في الملف السوري. وكل هذه القوى الخارجية  تسعى جاهدةً وراء خلق هيكل جديد لسوريا بحيث تحقق مصالحها بعد رحيل نظام بشار الأسد. ولكن ومن خلال العديد من الأمثلة الظاهرة للعيان الحلول المرتبطة بالقوى الخارجية لن تجلب السلام والديمقراطية المنتظرة والمنشودة للشعب السوري. وبكل تأكيد فإن هذا لا يعني الرغبة في تأسيس نظام اجتماعي سوري منفصل عن خارجه أو معزول عن الإنسانية. فالمقصود هنا عدم نفي الدعم والمساعدة الخارجية أو عدم نفي التفاعل مع المحيط السوري. فالعلاقة مع العالم الخارجي وتناقضاته دائماً ما ستكون حاضرة في سوريا من دون أي شك. ولكن المطلوب هنا أن تراعي هذه العلاقات مع العالم الخارجي مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول والشعوب,  وتراعي عدم الاستخفاف بالشعب السوري وعدم استخدام المحنة السورية لفرض نظام التبعية والعبودية على المجتمع السوري. جميع هذه الأمور ضرورية وإلزامية دائماً في العلاقات الخارجية والتفاعل مع المحيط الإقليمي والدولي.

من ناحية أخرى فإن إحلال نظام استبدادي مركزي قومي لمؤسسة الدولة السورية لن يجلب الحلول الديمقراطية لسوريا لأنه باختصار سيكون نظاماً مشابهاً لنظام البعث الحالي. فوصول الأزمة السورية لهذا المستوى من الفوضى والمشاكل المعقّدة كان بسبب تأسيس نظام دكتاتوري استبدادي من قبل الدولة القومية, الأسلوب الحالي لإدارة الدولة السورية أوصلها لهذا الطريق المسدود. ولكن من المؤكد بأن هذا الشكل لمؤسسة الدولة قد بات جزءاً من الماضي وانتهت صلاحيته. فبحكم ظروف منطقة الشرق الأوسط وكذلك بحكم التمدن والتحضر الذي يشهده عالمنا الراهن فلن يتم السماح  بعد اليوم بكذا هياكل استبدادية غير ديمقراطية تحكم الشعوب وتستبدها.  ويمكننا القول بأن زمن  بناء سلطات قمعية  وفرض حكمها على الشعوب والمجتمعات بالقوة قد انتهى, سواءً أكانت هذه السلطات إثنية, أم دينية, أم مذهبية, أم طائفية أم حتى عائلية.  فنحن نشهد في الوقت الحالي انهيارا للكتل الكلاسيكية للسلطة الاستبدادية والقمعية, وبالتالي لن يكون من المجدي أو من المقبول أن تظهر كتل حديثة مماثلة لتلك الكتل الكلاسيكية المستبدة.

ونتيجة للأوضاع والتطورات التي تشهدها المنطقة والعالم بشكل عام فالخيار الأمثل يكمن في تطوير نموذج الدولة الديمقراطية أو نموذج الفيدرالية الديمقراطية لسوريا المستقبلية.  فمن خلال نموذج الفيدرالية الديمقراطية سيتم تجاوز استبدادية السلطة المركزية والقومية, وسيتم التوصل لإمكانية الحل الديمقراطي للمشكلات المجتمعية في سوريا بشكل أفضل.  بالتالي ولكي نقوم باستحداث حلول دائمة للمشكلات الراهنة فالمطلوب  وبشكل ضروري تحقيق نموذج الدولة الديمقراطية والفيدرالية الديمقراطية. وبالطبع هذا سيقودنا تلقائياً إلى رفض وإلغاء نموذج الدولة القومية. وبالاعتماد على نهج الفيدرالية الديمقراطية  كأساس, ينبغي إعادة هيكلة نظام الدولة  والمجتمع في سوريا بناءً على الأسس الديمقراطية فيما يخص الأبعاد السياسية, الحقوقية, الدفاعية, الاجتماعية, الاقتصادية, وحتى الأبعاد العقلية للمجتمع السوري.

الأساس التاريخي للفيدرالية

عند تأسيس أي نظام اجتماعي تكون المفاهيم والنظريات المستخدمة ذات أهمية كبرى. كل مفهوم إنما هو تعريف لظاهرة اجتماعية, كل نظرية تفسر أسباب آراء المجتمع أو فهمه للطبيعة. المحتوى والمعنى الذي يتم تحميله للمفاهيم في غاية الأهمية.  يكثر استخدام بعض المفاهيم كالاستقلالية, الحرية, الديمقراطية, الحق والعدالة. لكن كل شخص يفسّر معنى هذه المفاهيم وفقاً لأهدافه بحيث تشكل له ظلاً يغطي ويستر بها ذنوبه وعيوبه.

في العلاقات المجتمعية وفي الطبيعة لا يمكن الادعاء بوجود استقلالية مطلقة فهذا حدث غير ممكن. كل شيء ظاهري أو مخفي مرتبط ببعضه البعض وفقاً لعلاقات محددة. قانون جدلية الطبيعة يفرض وجود كل الأشياء على أساس ترابطها ببعضها. فالطبيعة والمجتمع يتغيران ويتطوران بالانتفاع والإفادة من بعضهما البعض. وهذا بشكل من الأشكال يفرض العلاقات المتبادلة. وهنا ليس من المهم معرفة سبب وجود هذه العلاقات المترابطة والمتوالية لبعضها البعض. ولكن الأهم من ذلك هو معرفة كيفية وجود هذه العلاقات وكيف تسير وتعمل. وهل هي ديمقراطية من وجهة النظر المجتمعية أم لا.  في وقت من الأوقات تم الحديث كثيراً حول السيادة والاستقلالية المطلقة للدولة القومية. وبملاحظة الأحداث المدهشة والمتلاحقة التي تجري مؤخراُ يتبين لنا بشكل واضح بأن مقولة السيادة والاستقلالية المطلقة هي عبارة عن مقولة مجردة وغير واقعية. فكل الدول القومية تتكئ على بعضها مثل أحجار الدومينو. اهتزاز أحد هذه الأحجار يؤثر على جميعها وأحياناُ يحدث لها أثر الزلزال. وخصوصاً في يومنا هذا فظروف الرأسمالية العالمية فرضت على هذه الدول القومية أن تكون وحدة واحدة وكل دولة قومية تشكل جزءاً من هذه الوحدة.

في الوقت الذي تتعايش فيه الشعوب والمجتمعات سوياً, لا يمكن لأحد أن يعيش لوحده بمعزل عن الآخر. فدائماً تتواجد روابط حيوية بين الشعوب. الميزة الأساسية في الإنسان هي أنه كائن اجتماعي. فالإنسانية تستطيع من خلال صفتها الاجتماعية الوصول لأهدافها وغاياتها المثلى وتستطيع تحقيق أحلامها. ومنذ أول إنسان قبلي وصولاً للنماذج القومية في يومنا الحالي فإن المجتمعات الإنسانية والبشرية كانت تسعى دوماً للتجمع وكانت تحتاج للتضامن فيما بعضها. وأكبر دليل على ذلك هو بناء معبد كوبيكلي تبه ( في مدينة الرهّا ) من قبل الإنسان القبلي في التاريخ البدائي. فمعبد كوبيكلي تبه ليس ذلك المكان البسيط الذي يستطيع عدد صغير من الأشخاص بناءه بسهولة. فإذا ما أخذنا بالاعتبار الظروف الصعبة  والإمكانيات الفنية المحدودة في تلك الحقبة من الزمن سنرى بالتأكيد أن بناء هكذا أثر وهكذا صرح كان بحاجة لعقل معماري وجهد بشري مهم. وإلا لكان من الصعب بناء هكذا أثر تاريخي. سواء بسبب ظروف الطبيعة أو بسبب الأنشطة الاجتماعية الملزمة فقد كان هناك حضور دائم للترابط, الشراكة, التضامن والوحدة في المجتمعات. على مر التاريخ كان هناك حضور دائم لأشكال التضامن والتنظيم المجتمعي من خلال ما يشبه الكونفيدراليات البشرية منذ عهد القبلية, القبيلة, العشيرة ووصولاً للأمم والقوميات وحتى النقابات العمالية. وإلى جانب هذه الكونفيدراليات كان هناك حضور دائم للأحداث كالصراعات والانفصالات والعنف والشجار والنزاع. ولكن هنا يبقى السؤال: كيف تأسست هذه الاتحادات أو التضامنيات الشبيهة بالكونفيدراليات. وكيف كانت تستجيب للاحتياجات المجتمعية آنذاك. وهل تأسست وفقاُ لمقاييس وأسس محددة كالعدالة أو أهداف ديمقراطية مثلاً ؟

على مر التاريخ وبشكل عام يمكننا افتراض وجود نوعين من الاتحاد أو نوعين من العيش المشترك. النوع الأول هو الاتحادات الديمقراطية بشكل طوعي أو التي تتشكل نتيجة للحاجات الأساسية للشعوب وبشكل خاص لمواجهة التهديدات أو الهجمات من أطراف خارجية  فقد كانت الأقوام من القبائل والعشائر تتجه للاتحاد والمقاومة سوياً. وبعد التخلص من تلك التهديدات والهجمات كانت هذه التجمعات البشرية تعود لشكلها الأولي قبل الاتحاد أو كانت تتجه لتحويل اتحادها المؤقت إلى وحدة دائمة وتقوم بتطوير أشكال ديمقراطية كأسس للعيش المشترك. الوحدة المجتمعية الديمقراطية التي كانت تتشكل بناءً على إرادة الشعوب كانت وفقاً لأسس الرغبة والإرادة في العيش المشترك. وهنا تكمن النقطة المهمة والحساسة في عدم الإضرار بتطلعات وأهداف العيش الحر, وعدم الإضرار بهوية وشخصية هذه الشعوب والسعي لبناء الثقة المتبادلة لاحترام الشعوب لبعضها.

النوع الثاني من الاتحادات هو عبارة عن أنظمة الطبقات الحاكمة والدول المركزية والتي تفرض سلطتها بالقوة على رقاب شعوبها والشعوب المجاورة لها وبالتالي تستعمرها. وبناءً على هذا تقوم هذه الطبقات والدول المركزية بالعمليات  والحملات العسكرية ضد هذه الشعوب والتجمعات التي لا تقبل سلطتها. فتمارس إبادات جسدية وثقافية بحق هذه الفئات. وبعد أن تذعن هذه الفئات لهيمنة القوة المركزية يتم تحويلها لخدم وعبيد لهذه السطات والطبقات. وهنا طبعاً لا يوجد أي نوع من أنواع الوحدة الديمقراطية أو المشاركة الطوعية الاختيارية. وبالتالي إذا لم يتم القضاء نهائياً على هذه الفئات سواءً بالتصفية الجسدية أو دمجها بشكل من الأشكال فإنها سوف تنتظر الفرصة السانحة للقتال والمقاومة من جديد. القمع والمقاومة هي حلقة دائمة كانت ولا تزال ميزة متكررة لحضارة السلطة المركزية.  هذه السياسة إضافة لأنها لا تقدم أبداً حلولاً للمشاكل فإنها في الوقت نفسه تشكل مصدراً للحروب, الانفصال, النزاعات, الأحقاد والعداوة.

في يومنا الحالي عندما نناقش النظام الاجتماعي للفيدرالية الديمقراطية في روج آفا- شمال سوريا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار دائماً بأن الهياكل التنظيمية والأنواع المختلفة للنظم كالفيدرالية, الكونفيدرالية والحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية ليست حالات تم اكتشافها حديثاً كما يظن البعض. فمنذ بداية التاريخ البشري كان هناك تطبيق للأشكال والعلاقات التنظيمية بصورة ما في المجتمعات. ولكن كان هناك اختلاف وفوارق في الزمان والمكان والظروف. وبالتالي كانت هذه العلاقات التنظيمية على شكل صيغ مختلفة ومتنوعة.

نظام الحكم السومري ولمدة ألفي عام كان مؤلفاً من مدن ذاتية أو شبه مستقلة الحكم. كان لكل مدينة آلهتها, ملوكها, معابدها وإداراتها وأنظمة حكمها الذاتية الخاصة بها. السومريون وضعوا أسس الحضارة التاريخية, ونجاح هياكلهم الإدارية لحضارتهم كان بسبب تفضيلهم لنظم الإدارة الذاتية التي أعطت حيوية أكثر لمدنهم ومعيشتهم. الملك سركون هو الذي قضى على أنظمة الحكم الذاتي للمدن السومرية ليوحد حكم جميعها في سلطة مركزية واحدة. الآشورية, البابلية والأكادية كانت أشكالاً للدولة المركزية آنذاك. ولكن مع ذلك يمكننا القول بأن هذه الإمبراطوريات الكلاسيكية لم تتمكن من القضاء بشكل نهائي على نظم الحكم الذاتية للمدن السومرية. تلك النظم الذاتية للمدن السومرية فقدت أهميتها نوعاً ما, ولكن تلك المدن استطاعت بشكل من الأشكال الإبقاء على وجودها حتى نهاية انهيار الإمبراطورية الآشورية عام 612 قبل الميلاد.

مملكة الحيثيين كانت كونفيدرالية. فقد كان الملك يتخذ القرارات بالاشتراك مع رؤساء القبائل والعشائر من خلال مجلس يسمى بمجلس البانكو. بالإضافة إلى أنه كانت هناك العديد من الإمارات المجاورة التابعة للحيثيين.  فرسالة التبعية المشهورة بين الأمير الميتاني  واتيفازا والملك الحيثي شمولولينينا موجودة كوثيقة تاريخية كشاهد على تلك العلاقة. كذلك قد بعث أدريمي الملك الصغير لإمارة اليلالاه رسالة تبعية إلى الحيثين طالباُ الحماية من هجمات الآشوريين والبابليين آنذاك. ومن هنا يمكننا التوصل لنتيجة أن التبعية في تلك الحقبة التاريخية كانت بمثابة نوع من أنواع الارتباط  وتعادل في يومنا هذا ما يشبه الحكم الذاتي.  ففي علاقات التبعية في تلك الحقبة كان الملك يمثل السلطة المركزية  وكان يحمي الإمارات المحلية ويوفر لها الأمان مقابل مبايعة هذه الإمارات للملك وتقديم الدعم والتبعية له. وحتى علاقات التبعية بين الإمارات المحلية والممالك المركزية في أوربا في العصور الوسطى كانت بشكل عام شبيهة بتلك العلاقة بين الحيثيين والآخرين. وكل هذا يشبه أنظمة الحكم والإدارة الذاتية في يومنا الحالي. يبقى أن نذكر بأن الهيكل الفيدرالي الألماني في فترة الرأسمالية القومية ما كان إلا صفة موروثًة من الكونفيدرالية المقدسة التي حدثت بين روما والجرمانيين يوماً ما.

الدولة الميدية أيضاً كانت عبارة عن كيان كونفيدرالي مكون من مجموعة من العشائر. الميديون عندما قاموا بتدمير نينوى مركز الآشوريين كانوا متحالفين مع قبائل السكوثيين والبابليين. قامت الإمبراطورية الفارسية بتطوير نظام حكم للولايات تحت مسمى المزربانية ( آتروباتين). كان الفرس يديرون الأراضي التي يسيطرون عليها ويحكمونها من خلال والي يتم تعيينه من قبل المركز وفي الوقت نفسه لم يكن هناك تدخل من قبل المركز في الأمور العقائدية والثقافية لتلك المجموعات. في بابل تم الإفراج عن 40 ألف أسير يهودي وتم إرسالهم لبلادهم. كما أن إسرائيل أيضاً وبقيادة عزرا قامت بإعادة بناء هيكل معبد سليمان وتحويله إلى ولاية تابعة للإمبراطورية الفارسية. فنظام المزربانية (آتروباتين) كان أسلوباً سهلاً وذكياً لإدارة إمبراطورية شاسعة الأراضي.

اليونانيون وليحافظوا على الحضارة والديمقراطية اليونانية من الهجوم الفارسي- الميدي قاموا بتطوير ما يسمى باتحاد ديلوس. الاتحاد الديلي ( 477-404 قبل الميلاد) في ظروف تلك الحقبة كان أشبه باتحاد كونفيدرالي ويذكرنا بالاتحاد الأوربي في يومنا الحالي. هذا الاتحاد كان يضم أكثر من 150 دولة للمدن الإغريقية آنذاك وقد كان اتحاداً عسكرياً وسياسياً استمر لغاية عام 404 قبل الميلاد. وفي الأساس قد تم تطويره وتنظيمه من قبل أثينا لمواجهة تهديد الإمبراطورية الفارسية. ولكن فيما بعد حاولت أثينا استخدام اتحاد ديلوس أملاُ في نشر نفوذها وفرض هيمنتها وسلطتها. لذلك فقد دخلت مع جارتها أسبارطة في صراع سمي بحرب البيلوبونيسية والتي استمرت لمدة 30 عاماً وأخيراً انتهت الحرب عام 404 قبل الميلاد بهزيمة أثينا وتفكك اتحاد ديلوس.

كان شكل التنظيم في إمبراطورية روما أيضاً على أساس المناطق والولايات. وتم تصميم النظام القانوني القضائي أيضاً بناء على ذلك. فقد كان هناك نظامان للقانون والقضاء في روما هما : قانون قضاء المواطن وقانون قضاء القبائل. فالذين يعيشون في شبه الجزيرة الإيطالية وخارجها ببضعة أميال كانوا تابعين لقانون قضاء المواطن. أما التابعين لقانون قضاء القبائل فهم من تسري عليهم قوانين موضوعة من قبل المسؤولين المحليين في المناطق القبلية. الولايات تتم إدارتها طبقاً لأهميتها وقدرتها على المقاومة والدفاع. في عام 395 بعد الميلاد وبعد مجموعة من الإصلاحات التي سميت بإصلاحات دقلديانوس تم تشكيل هيكل حكم جديد مؤلف من اثنتي عشرة أبرشية. كانت كل أبرشية تتكون من 4 إلى 13 ولاية. وطبيعة الحكم كانت مؤلفة من 4  مقاطعات, 15 أبرشية و119 ولاية. وتجدر الإشارة إلى أنه إضافة الى حاكمي الولايات في روما كانت هناك زمرة من المتعاونين من أبناء الطبقات المحلية الذين كانوا يشاركون حاكمي الولايات في الإدارة. وعندما تم صلب المسيح كان للمجلس الديني اليهودي سنهدرين ( المجلس اليهودي) المكون من 71 عضواً تأثير أكبر من تأثير والي روما بلاتوستان نفسه.

أغلب إمبراطوريات القرون الوسطى كانت تتضمن أشكالاً  للإدارات المحلية الذاتية. الشكل الإداري في الإمبراطورية العثمانية كان يعتمد على نظام المقاطعات ( السنجق بالتركية) ونظام الولايات. بحيث يتم تعيين والٍ عثماني لكل ولاية تابعة للعثمانيين. وقد وصلت قوة والي مصر علي باشا القللي إلى درجة أنه حارب السلطنة العثمانية ذاتها وكان قريباً من هزمها. السلطان العثماني يافوز سليم اتفق مع الأمير الكردي ادريس البتليسي على الاعتراف بتبعية الإمارات الكردية للسلطان العثماني لقاء منح هذه الإمارات الحكم الذاتي. فقد كانت شؤون القبائل والعشائر تابعة للأمراء الكرد والدولة العثمانية لا تتدخل في الشؤون الداخلية . بالمقابل كانت هذه الإمارات تساعد وتدعم السلطنة العثمانية في الحروب بالمقاتلين وتدفع ضرائب محددة للسلطان.

في أوربا كانت هناك هياكل مستقلة ومدن ذاتية الحكم. الهيكل السياسي لإمبراطورية روما- جرمانيا المقدسة ( 962-1806 بعد الميلاد) كان مجرد حبر على ورق. فعلى الرغم من أن ملوك روما- جرمانيا كانوا يقلّدون إمبراطورية روما القديمة ولكن الحكم المركزي كان ضعيفاً والهياكل الإدارية كانت منقسمة على شكل إمارات محلية مستقلة. نظامها الإداري كان كونفيدرالياً. في عام 1215 للميلاد قام ملك إنكلترا بتوقيع اتفاقية سميت بالوثيقة العظمى وبموجبها يقبل الملك منح الحكم الذاتي للمدن والإمارات المحلية. وتم بموجبها تحديد سلطات الملك وتشكيل ميزان للقوى في مملكة إنكلترا, وتم تحديد صلاحيات وحقوق للإمارات والمدن التي كسبت الحكم الذاتي بموجب الوثيقة العظمى.

في العصر الاستعماري الكلاسيكي لما يسمى بفتوحات الحضارة الرأسمالية كانت إدارة الأراضي التي يتم السيطرة عليها تتم من خلال حكام موالين للقوى المستعمرة. الكومنولث البريطاني المشهور كان يتشكل من المستعمرات البريطانية. فقد تم تعيين حاكم أو والٍ لكل مستعمرة مثل الهند. لكن هذه الإمبراطوريات الكبرى لم تؤسس هياكل الإدارات المحلية والولايات للأغراض الديمقراطية. لقد قامت القوى الاستعمارية بتطوير هذه النماذج من نظم الإدارة لتتمكن من إدارة الشعوب التي تعيش في هذه المستعمرات بسهولة وبدون مشاكل. هنا كان المراد هيمنة أحادية للطرف المنتصر في الحرب. فإرادة الطرف القوي وقوانينه هي التي تسري. وكان من الضروري لهذه القوى في الأراضي التي تسيطر عليها أن تخلق مجموعات محلية وقبلية خاضعة وتابعة لها وتتعاون معها للحفاظ على الأمن. هذه النماذج من الهياكل الإدارية كانت ضرورية للقوى الاستعمارية لتسيطر بسهولة على مستعمراتها ولسنين طويلة دون مواجهة أخطار أمنية.

وهنا تجب الإشارة بأن الاتحادات الطوعية والديمقراطية التي تشكلت بين الشعوب والمجموعات المختلفة كانت بغرض مواجهة الأخطار الخارجية. فمستويات المقاومة للشعوب أو قواتها المنظمة كانت العامل المؤثر في تطوير نماذج ذاتية الحكم أو كونفيدرالية.

تاريخياً يمكننا القول إن نموذج الدولة القومية هو أكثر النماذج التي أحدثت أنظمة حكم مركزية. بداية هذا النوع من الحكم هو الثورة الفرنسية التاريخية. فالثورة الفرنسية كانت ثورة شعبية بكل معنى الكلمة. ولكن مع الزمن ومع سيطرة البورجوازية تحولت هذه الثورة إلى دكتاتورية. كان هذا ميلاداً لمفهوم جديد لإدارة الدولة. المصالح السيادية للدولة تشكلت على أساس أن الأمة فوق أي اعتبار. كان الإدراك السائد وقتها بأن الإرادة المطلقة للأمة هي الإرادة السيادية العليا للدولة وكل شيء يتم باسم سيادة الدولة واستقلاليتها.  في السابق كانت السلالات الحاكمة تقوم بتأسيس الدول.  فمالكو الدولة هم العائلات الكبيرة والقوية سياسياً. فالدولة الأمويّة, العباسية, السلجوقية, العثمانية والصفوية خير مثال على هذه السلالات. والأهداف الأيديولوجية لتلك الدول كانت الدين, وإداراتها كانت عبر سلالات عائلية حاكمة. لم يكن أحد من هؤلاء يدّعي تأسيس دولته على أساس أنها عربية, فارسية, تركية, كردية الخ. فالسلالة الأيوبية إثنياً كانت سلالة كردية ولكنهم لم يذكروا أصلهم الكردي أبداً بل كان هدفهم الأساسي هو الحرب والإدارة باسم الأمّة الإسلامية.

تم الحديث عن تأسيس الدولة القومية للمرة الأولى في الثورة الفرنسية. تم تعريف القومية كما يلي: هو نوع من الاتحاد الروحي الثقافي الذي تأسس تاريخياً نتيجة للشراكة في اللغة والأرض والمعيشة الاقتصادية. من الناحية الأيديولوجية فهذا هو التعريف الوطني للدولة القومية. فهذا يعبر عن نوع من الاتحاد الروحي لقومية واحدة, لتاريخ واحد, لوطن واحد, للغة واحدة ولثقافة واحدة. هذا المفهوم للدولة القومية انتشر تأثيره في كل أوربا من خلال الثورة الفرنسية وحروب نابليون. وانتشر هذا المفهوم وتم تصديره إلى كل أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الأولى.

ولكن تعريف القومية كظاهرة أيديولوجية وليس كظاهرة اجتماعية أدى إلى ظهور مشكلات كبيرة وتناقضات مجتمعية. لأن الكثير من القوميات الحديثة التي ظهرت في أوربا وفي بقية أنحاء العالم لم تدخل في نطاق هذا التعريف. على سبيل المثال إذا ما أخذنا دولاُ مثل روسيا, الهند, إنكلترا, بلجيكا, سويسرا, اسبانيا, تركيا وسوريا فسنلاحظ أن ظاهرة القومية في كل هذه الدول لا تتوافق مع التعريف المذكور للقومية. ففي كل هذه القوميات لا تتوفر عناصر اللغة الواحدة, أو التاريخ الواحد, أو الثقافة الواحدة, أو الوطن الواحد, أو حتى نوع الاتحاد الروحي. إذاً فهذه الدول القومية لم يتم تأسيس أي منها على أساس حدودها الإثنية الموجودة فعلاُ. الطبقات المهيمنة والبورجوازية أسست حكمها القومي وعرفته على أساس الأراضي التي سيطروا عليها بالقوة نتيجة كسبهم للحروب. القوة الإثنية التي كانت تسيطر على السلطة هي التي كانت تحكم وكانت تعرف نفسها على أنها الممثل القومي لبقية الإثنيات وبالتالي تجبرها على العيش والتفكير والتحوّل وفقاً لمنظورها. وعندما تم تعريف القومية بهذا الشكل ولغرض إثبات نظرية المواطن الجيد فقد كان واجباً على بقية الشعوب والمجموعات الأخرى المنضوية تحت سلطة القوة الإثنية أو الدينية المسيطرة أن تقبل الاندماج والانصهار القومي. الغرض من هذا التعريف واضح وهو خلق نوع واحد من المواطنين. التحدث بنفس اللغة, وفرض مفهوم محدد على الجميع وهو مفهوم التفكير بخدمة الدولة وتقديسها دائماً. الغرض خلق طبقة اجتماعية من المواطنين الصالحين غير مقاومين ولا يخلقون المشاكل والعوائق. يمكننا تسمية هذه الحالة بالغزو العقلي الاستعماري.

هذا التعريف للقومية أدى لظهور خلافات وصراعات داخلية وخارجية استمرت لمئات السنين. الرأسمالية وباسم الحداثة كانت ترغب في صهر كل شخص في بوتقة حديدية واحدة وكانت ترغب بخلق أشخاص متشابهين تماماً وكأنهم خرجوا من مخرطة حديدية واحدة. وأكبر مثال على هذا المبتغى السياسي هو تعريف هتلر للعرق الآري الصافي للشعب الألماني. هتلر فضح وعبر عن حقيقة وجه وجوهر العقلية القومية لكيان الدولة. هذا التعريف المستند للعقلية القومية تسبب في حروب وصهر وإبادات لا تحصى. وكذلك تسبب في الحرب العالمية الأولى والثانية أيضاً.

نتيجة للحرب العالمية الثانية وبعد إدراك حجم الكوارث التي تسببت بها العقلية القومية في تلك المراحل, فقد تجاوزت الرأسمالية العالمية هذه المشكلة وقد كان للنظام الليبرالي الأوربي دور مهم في تطوير إصلاحات مناسبة لهذه السياسة. فقد تم تجاوز الحدود القومية المتحفظة. وتم تأسيس المجموعة الاقتصادية الأوربية كبداية. وفي الإطار السياسي تم تطوير نموذج الاتحاد الأوربي  واتفاقية شنغن. وبهذا فقد نعمت القوميات الأوربية والمجموعات الشعبية بالسلام والاستقرار في آخر ستين عاماً منصرماً في أوربا. بدون شك فالاتحاد الأوربي لم يتجاوز هيمنة الدول القومية بشكل كامل. فالاتحاد مازال يتحمل صبغة الرأسمالية الاحتكارية للدول القومية القوية مثل ألمانيا وفرنسا. التجربة مهمة حتماً ولكن حظوظ النجاح تبقى غير مضمونة.

الفيدرالية في عصر الدول القومية

التعريف الحديث للفيدرالية: هي الدولة التي يتم فيها تقاسم الصلاحيات والمهام بين السلطة المركزية والسلطات المحلية أو الإقليمية اعتمادا على الدستور. في الدول ذات الأنظمة الفيدرالية يتم تحديد مستوى وشكل العلاقة بين الهيمنة المركزية وبين السلطات المحلية والإقليمية من خلال القوانين الدستورية. السلطات المحلية أو الإقليمية يكون لها حقوق ذاتية وصلاحيات للإدارة في جوانب أساسية سياسية, اقتصادية, اجتماعية, ثقافية وأمنية. وهذه الصلاحيات يتم تحديدها عبر الدستور. الأقاليم الفيدرالية لها أجهزة تشريعية وتنفيذية وكذلك قضائية. في يومنا الراهن هناك 21 دولة تتم إدارتها وفق نظام فيدرالي ومنها دول كبيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية, روسيا, ألمانيا, اسبانيا, إيطاليا, جنوب أفريقيا والهند الخ..

مع أن الفيدرالية لها معنى عام ولكن أشكال التطبيق تختلف من دولة إلى أخرى. وبحسب الظروف والأوضاع التاريخية, الاجتماعية, الثقافية وحتى الجغرافية  لتلك الدول فقد تكون الفيدرالية ضمن إطار واسع أو إطار ضيق. وقد تكون الفيدرالية حسب الأقاليم إما سياسية أو إدارية أو جغرافية أو ثقافية.  الفيدرالية, الكونفيدرالية والحكم الذاتي هي أشكال سياسية ولها صفات حقوقية دستورية. نطاق وطبيعة هذه الصفات تتحدد من خلال النضال نتيجة التناقضات المجتمعية.  الفيدرالية تتحقق نتيجة للحاجة إلى حلول تفرضها ظروف اجتماعية محددة.  لذلك يجب أن نسعى لمعرفة ما هي هذه الظروف الاجتماعية التي تفرض الحاجة للفيدرالية.

الدول القومية هي عبارة عن احتكار لتنظيمات السلطة والرأسمال. المركزية هي أساس اتجاهاتها وأساليبها. ويمكننا القول بأنها شخصية لها بنية غير ديمقراطية. ولكن الأحداث لا تجري دائماً بحسب رغبة هذه الدول المركزية. ففي بعض الأوضاع لا تتمكن هذه السلطة المركزية من ردع المقاومات المحلية أو التشكيلات المستقلة. لذلك قد تضطر للقبول بعلاقات على أساس المصالحة الديمقراطية في حال فشلها في ردع المقاومات المحلية بالقوة. وهي تضطر للقبول بالحلول الفيدرالية, الكونفيدرالية أو الحكم الذاتي بشكل خاص عندما لا يكون ميزان القوة لصالحها. وقد نستطيع الملاحظة بأن الكثير من الدول التي تحكم فيدرالياً اليوم عاشت مراحل تاريخية مشابهة لما ذكرناه قبل قليل. وسيكون من المفيد أن نذكر بعض الأمثلة البارزة في هذا الخصوص.

بداية تأسيس الولايات المتحدة الأميركية كان وفق هيكل كونفيدرالي. المستعمرات الثلاث عشرة الأميركية التي نالت استقلالها من إنكلترا اجتمعت في اتحاد كونفيدرالي.  بيان فيرجينيا في عام 1776  أشار إلى الحقوق الأساسية والحريات. الاتفاقية المسماة الكونفيدرالية وبنود الاتحاد الدائم للعام 1777   تم التصديق عليها من قبل كونغرس الولايات ( مؤتمر الدولة) وتم التوقيع عليها رسمياً عام 1778 . النقاشات حول الفيدرالية والكونفيدرالية استمرت قرابة عشر سنوات. قام جيمس ماديسون بشن حملة قوية لتحقيق الفيدرالية. في عام 1787  اجتمع ممثلو الولايات المتحررة من الاستعمار لتأسيس اتحاد كونفيدرالي ولكن الطبقات البورجوازية من الصناعيين في الولايات الشمالية قامت بفرض ثقلها وتمكنت من تحويل النظام الكونفيدرالي إلى نظام فيدرالي. الاتحاد الذي تأسس بداية بشكل طوعي تحول فيما بعد إلى اتحاد إلزامي دستوري. السلطة المركزية بدأت تضغط على الولايات وبالتالي اضطرت الولايات المتحررة من الاستعمار البريطاني إلى القبول بالمركزية. مع أن بعض الولايات قامت بالاحتجاج والتذمّر ولكن مع مرور الزمن تم احتواء ردود أفعالها وتم دمجها في النظام الفيدرالي.

الكونفيدرالية السويسرية تم وضع أساساتها في عام 1291 . الكانتونات الثلاثة المقاومة لنفوذ إمبراطورية روما- جرمانيا المقدسة اجتمعت ووقعت وثيقة الكونفيدرالية فيما بينها. ومع مرور الزمن انضمت كانتونات سويسرية أخرى بشكل طوعي للاتحاد الكونفيدرالي. شهد عام 1847  صراعات ومعارك بين المؤيدين للكونفيدرالية والمؤيدين للسلطة المركزية. وانتصر المؤيدون للمركزية وتم وضع دستور جديد عام 1848  وبموجبه تم تحويل النظام الكونفيدرالي إلى نظام فيدرالي.

الاتحاد الوطني الألماني تأسس في عهد بسمارك عام 1871  بقيادة بروسيا وذلك بفضل تطويرها وتبنيها  لسياسات حربية, حيل دبلوماسية, دسائس, وأخيراً عقد اتفاقيات. بروسيا وكونفيدرالية شمال ألمانيا اضطرت للكفاح والصراع لفترة طويلة من أجل تحقيق الاتحاد الفيدرالي الألماني. الإمارات المحلية كانت تتميز بكيانات مستقلة وكانت منقسمة لإمارات إقطاعية عديدة متصارعة فيما بينها لسنين طويلة. وانقسمت أيضاً لمذاهب كاثوليكية وبروتستانتية. السلطات المحلية لم ترغب في التنازل عن حقوقها في الإدارة. وقد تمكنت من الحفاظ على بعض من حقوقها الإدارية ولكن في النهاية ونتيجة الحروب والضغوط المستمرة نجحت الطبقات البورجوازية الحديثة في صهر هذه السطات المحلية ضمن النظام الفيدرالي للدولة مع منحها بعض الحقوق الإدارية.

إذاً عندما ندقق في تاريخ الدول الفيدرالية سنرى بأن الشعوب والمجموعات التي قاومت السلطة المركزية بشدة تمكنت في النهاية من فرض حقوق إدارية معينة على السلطات المحلية أو المركزية. أو نلاحظ بأن هذه الشعوب والمجموعات البشرية كانت تتجه للدخول في اتحادات واتفاقيات لمجابهة التحديات والأخطار الخارجية التي تهددها. من دون شك فإنه يمكننا القول بأن الدول ذات الأنظمة الفيدرالية تتمتع بالمرونة وبثقافة التوافق والتسامح بشكل أكبر مقارنة مع الدول المركزية ذات النزعة القومية. أما في الشرق الأوسط  فالوضع مختلف, لا يمكن أن نرى مثالاً واحداً لدول تأسست اعتمادا على ثقافة التوافق أو اعتمادا على عناصرها المحلية الداخلية. أما الدول التي تشكل استثناءً مثل الإمارات العربية المتحدة التي تتشكل من 7 إمارات محلية متحدة  فهي لم تتشكل بالاعتماد على عناصرها المحلية الداخلية. ولكنها تشكلت من قبل الاستعمار البريطاني الذي كان يرغب بصنع كيانات موالية لسلطته في ذلك الخليج. تم تأسيس الإمارات العربية المتحدة وفقاً لاتفاقية الساحل المهادن أو المتصالح. وكانت موالية للسلطة الإنكليزية في شرق الهند في الفترة 1873- 1947.  وبعد هذه الفترة أصبحت تدار من قبل وزارة الخارجية الإنكليزية. وفي عام 1971  وبعد انسحاب إنكلترا من خليج البصرة قامت هذه الولايات السبع بتشكيل اتحاد فيدرالي فيما بينها باسم الولايات العربية المتحدة. وباستثناء هذه الحالة يمكننا القول بأن كل الدول القومية التي تأسست في الشرق الأوسط هي دول تميزت بالشخصية الفاشية والتي كانت على الدوام تمارس سياسة الإنكار والإبادات الجماعية والتصفية. كل الذين تناوبوا على السلطة لم يقبلوا إرادة أي شعب أو مجموعات أخرى باستثناء أنفسهم. ولم يسمحوا للفئات الأخرى بمشاركتهم في السيادة أو السلطة أو إدارة المجتمع وكانوا يتخيلون أي مشاركة كأنها نهاية لهم  ولسلطتهم. هذه السلطات الفاشية ترى بأنه لا يوجد أحد آخر غيرهم يحق له المشاركة في السلطة أو الإدارة وتعتقد هذه السلطات الفاشية بضرورة العقاب الشديد والقمع لأي فئة تسعى للسلطة أو الإدارة. أما الأشخاص أو المجموعات التي  تقاوم  سياسة الإنكار والإبادة التي تمارسها السلطات الفاشية فيتم إعلانهم خونة للوطن ويتعرضون للحملات العسكرية  والاعتقالات التي توصلهم لحبل المشنقة.

في العراق وبعد سقوط نظام صدام البعثي تم تأسيس النظام الفيدرالي. ولكن بسبب أن النظام الفيدرالي في العراق بني على أسس أثنية ومذهبية فلم يجلب للعراق الاستقرار والبنية الديمقراطية المنشودة ليومنا هذا. فالعراق مازال يتأرجح بين الضغوط والممارسات المذهبية والطائفية للحكومة المركزية وبين الطموحات الانفصالية لإدارة إقليم كوردستان. فالطرفان يتبنيان اتجاهات مذهبية وقومية ولذلك لم يتمكنا من تثبيت اتحاد  فيدرالي ديمقراطي حقيقي في العراق. الهياكل الفيدرالية التي تستند لعقلية الدولة القومية أو السلطوية إنما يتمخض عنها الانفصال والتقسيم أو خيار الفرض بالقوة وهذا واضح من خلال الممارسات العملية في العراق مثلاً. وبالتالي فلا يوجد حل نهائي للمشاكل وإنما يوجد عراق ممزق بعيد عن الحل الدائم  والنهائي.

كما أن كل شكل لتقاسم الواجبات والصلاحيات بين الإدارة المركزية والإدارات المحلية وفقاً للدستور لا يعتبر نظاماً فيدرالياً. فهناك مجموعات أو أقاليم ذاتية الحكم تتمتع بالصلاحيات أو الحقوق المحلية. الإدارة الذاتية يتم تعريفها على أنها فئة أو مجتمع أو مؤسسة لديها مبادرة لإدارة شؤونها ذاتياً ضمن إطار من الحقوق يتم تحديدها بالقوانين أو النصوص الدستورية. ولكن مفهوم الإدارة الذاتية يكون في إطار أصغر وأضيق فيما يخص الحقوق والصلاحيات مقارنة مع النظام الفيدرالي. الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية تسري على المجتمعات التي تعتبر أقليات  وبالتالي تتمتع بقدر محدود من الحقوق الثقافية والاجتماعية أو أحياناً حقوق سياسية بشكل جزئي. وبحسب الظروف قد تكون حدود الحكم الذاتي أكثر أو أقل.

هنا تجدر بنا الإشارة أيضاً إلى أن أنظمة الحكم أو الإدارة الذاتية نفسها لم تشكل قوة لخلق تام للحلول وهذا يتضح من النتائج المتحققة من خلال هذه الأنظمة. أنظمة الحكم الذاتي الموجودة حالياً ستكسب معنى أكبر عندما تعتمد الإدارة الذاتية الديمقراطية كأساس أكثر من أخذها بالحلول المحدودة  والضيقة الأفق.  يجب فهم الإدارة الذاتية الديمقراطية على أنها قيام الفئات المجتمعية, الوحدات السكنية  والقطاعات الاجتماعية بتنظيم أنفسها بشكل حر  وديمقراطي من خلال شبكة علاقات أفقية. هذا النموذج يمثل كل وحدة مجتمعية  وسكنية تقوم بتنظيم  وإدارة نفسها بشكل حر في إطارها الطبيعي الذي تتسم به.  في نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية الدولة لا تتصدق بالحقوق على أنها منحة  ولا تضع لها حدوداً وأطراً متى ما شاءت. ولا تساوم على هذه الحقوق سواء أكانت كثيرة أم قليلة. فلكل قرية أو مدينة الحق, ولكل مجموعة من عشرة أشخاص وصولاً لفئة مجتمعية كبيرة الحق في إدارة نفسها بكل حرية  وبالقدر الكافي من الخيارات. التنظيم يتم بالاختيار الديمقراطي المباشر للشعوب والمجموعات المحلية. الكونفيدرالية أيضاً  تمثل شكلاً لتنظيم المجتمعات وعلاقاتها والتي تلجأ لها الشعوب والمجتمعات. الدول  والشعوب  والمجموعات  والقطاعات الاجتماعية تجتمع فيما بينها  وتشكل اتحادات كونفيدرالية. السمة الأساسية للكونفيدرالية أنه لا يوجد نص دستوري ملزم للأطراف. تقوم الأطراف بالاتفاق فيما بينها بشكل مؤقت أو دائم وفقاً لغايات محددة,  وعندما تتضارب أو تتعارض مصالحها تنسحب من الاتفاقية. حيث أن أساس معنى كلمة الكونفيدرالية يعني عهد الأخوة. في الماضي كانت القبائل والعشائر تقوم بتنظيم مراسيم أداء اليمين لتوقيع اتفاقية عهد الاخوة أي الكونفيدرالية. عهد الأخوة كان اتحاداً يعتمد المساواة  كأساس بين الأطراف المتفقة. اليوم هناك الاتحاد الأوربي ورابطة الدول المستقلة. وهذه الاتحادات تعتبر بمثابة شكل كونفيدرالي. الشيء الأساسي الذي تعتمده الكونفيدرالية هي المصلحة المشتركة  والحقوق المتساوية. وبشكل عام فقد تشكلت الاتحادات الكونفيدرالية لمواجهة الضغوط  والأخطار الخارجية.

نستنتج مما ذكرناه بأن الشكل التنظيمي لدولة  أو شعب ما ينشأ نتيجة الظروف التاريخية والاجتماعية التي يمر بها. الأحداث التاريخية  للمجموعات البشرية  والشعوب, أشكال علاقاتها وتناقضاتها,  وسائلها النضالية,  موازين قواها, الاقتصاد,  تطورها الثقافي  والاجتماعي,  وبنيتها الجغرافية.  كل هذه الخواص تحدد أنظمة الإدارة لتلك الدول والمجتمعات.  إذاً فالفيدرالية  وأنظمة الحكم الذاتي ليست بدائل اختيارية أو كيفية,  وإنما هي وسائل للحلول  والإدارة تفرضها الظروف المجتمعية  والنضالية للشعوب.

إضافة إلى ذلك لا يوجد شعب من صلب واحد في أية دولة. فجميع أفراد المجتمع لا يتمتعون بشكل واحد للحياة ولا يملكون اللون والميزات نفسها. إن المنطق الفاشي العنصري هو الذي يسعى لخلق شكل أو لون واحد للمجتمع.  فالمجتمع يتكون من أفراد ومجموعات وفئات مختلفة. ميزاتهم الاجتماعية  والثقافية مختلفة ولغتهم أيضاً قد تختلف.  كل مجموعة أو فئة بشرية وضمن إطار عام من القيم الديمقراطية ترغب في العيش وفقاً لغاياتها, طموحاتها, ميزاتها الاجتماعية, الاقتصادية والفكرية.  النظام الديمقراطي والحر يعني شعور وإحساس المجتمع نفسه بهذه الحرية وعيشها. الأنظمة الاجتماعية غير الديمقراطية تعتبر كل أفراد المجتمع متشابهين  وتسعى هذه الأنظمة لخلق نوع واحد من الأفراد لذلك تسمى هذه الأنظمة بالفاشية, غير الديمقراطية, والاستبدادية. بدون شك فرض أنظمة مستبدة على الشعوب بالقوة تتنكر للحقائق يعد خياراً قائماً ويلجأ له الكثيرون. ولكن هذا الفرض بالقوة نتيجته تكون دائماً الانتفاضات والمقاومة. الأنظمة الديمقراطية المعاصرة  ولتحقق أهداف شعوبها في العدالة الاجتماعية, السلام, الأمان, الاحترام الديمقراطي  والاتحاد  قد قامت بتطوير أشكال تنظيمية لإداراتها الذاتية, الفيدرالية, الإقليمية, الوطنية, وإدارة الأقليات. على سبيل المثال فقد تمكنت كل من إسبانيا وإنكلترا من معالجة مشاكلها بهذه العقلية. فإسبانيا فيها سبع عشرة منطقة ذاتية الحكم مثل إقليم الباسك, كاتالونيا وغاليسيا. أما في انكلترا فنرى ويلز, إسكتلندا وايرلندا. وحتى الدولة الصغيرة سويسرا فيها ستة وعشرون كانتوناً.  وتحوي سويسرا ما مجموعه 2942  كوموناً أو بلدية. أما بلجيكا مركز حلف الناتو فتعتمد ثلاث لغات رسمية  وتحتوي ثلاث مناطق كأقاليم ذاتية الحكم. ألمانيا والتي يغلب عليها اللون القومي الواحد والشعب الذي يشترك كثيراً في المواصفات المجتمعية فيها نظام فيدرالي على أساس الولايات. الولايات المتحدة الأميركية تتألف من اثنتين وخمسين ولاية.  مكتب الإحصاء السكاني في أميركا يشير إلى وجود حوالي 84955 إدارة أميركية ذاتية الحكم  وهذا العدد يمثل المقاطعات, البلديات, البلدات الريفية, المناطق التعليمية  والمناطق الخاصة. روسيا تضم 85 إدارة مستقلة ما بين مناطق فيدرالية, مناطق حكم ذاتي أو ثقافي. الهند تضم 25 إقليماً, 7 مناطق اتحادية والعشرات من المجموعات الثقافية التي تتمتع بنوع من الحكم الذاتي. جنوب إفريقيا مكونة من 10 مناطق حكم ذاتي وتعتمد 11 لغة رسمية معترفة. العراق الدولة المجاورة لنا تدار بنظام فيدرالي اتحادي. بدون شك يمكننا ذكر العديد من الأمثلة ولكن من الواضح جداً بأن هناك اتجاه تصاعدي لتبني نماذج الأقاليم الفيدرالية  ومناطق الحكم الذاتي. هذا النموذج بات مناسباً ليس فقط للأقليات والمجموعات الثقافية أو القومية,  ولكن بات خياراً مناسباً للفئات الاجتماعية المختلفة  وحتى للمؤسسات الاقتصادية. فالاتحاد الأوربي أقر في أكتوبر عام 1985 بمدينة ستراسبورغ الميثاق الأوربي للحكم الذاتي المحلي  وذلك لخدمة الأهداف الديمقراطية في أوربا.

قوة الحل الفيدرالي الديمقراطي في سوريا

الدول القومية التي تأسست في الشرق الأوسط عموماً وبشكل خاص في العالم العربي  ونتيجة لواقعها الاجتماعي تسببت بالكثير من المتاعب لشعوبها  ومجتمعاتها.  وهذا واضح  ومفهوم بشكل كبير من خلال التطورات التي حصلت في آخر 20- 30 سنة في هذه المنطقة.  الشعوب العربية التي تنتشر في شبه الجزيرة العربية وصولاً  لجغرافية ميزوبوتاميا ( ما بين النهرين ) لديها تاريخ مشترك  وثقافة وهوية مشتركة منذ مئات السنين. العالم العربي تعرض للانقسام والصراع الداخلي في القرن العشرين بشكل لم يشهد له مثيل في تاريخ هذه الأمة. الإمبراطوريتان الأمويّة  والعباسية كانتا تعتمدان في انتشارهما على نفوذ  وسلطات الفئات العربية القوية. وحتى في ظل حكم العثمانيين استطاع العرب الحفاظ على وحدتهم الثقافية والاجتماعية. وكما حصل مع الكرد فقد تعرض العالم العربي للكوارث  والانقسامات بظهور نموذج الدولة القومية.  تعرضت الشعوب والمجتمعات العربية في هذه الحقبة لمختلف أنواع  وأشكال الاضطرابات من التقسيم لأكثر من عشرين دولة,  خلق العداوات نتيجة خلق حدود اصطناعية, الاستبداد, استعباد الشعب من خلال إغراقه في الجهل, والتحريض على الطائفية, القيام بحملات القتل الطائفي  والمذهبي, إنكار حقوق  وثقافة بقية الشعوب, تعريب الأقليات  ومحاولة دمجها, والقيام بمجازر وحملات القتل  والتطهير. باختصار شهد القرن العشرون مختلف أساليب الاضطهاد والقمع في الشرق الأوسط  وشبه الجزيرة العربية من قبل الدول القومية الاستبدادية.  وسوريا أيضاً تعرضت لمشاكل مماثلة نتيجة وصول نظام البعث إلى الحكم.

والنتائج واضحة للعيان في وضع سوريا الحالي, مدن تعرضت للدمار, مئات الآلاف من الضحايا, ملايين المهاجرين  ومستقبل غامض مازال ينتظر هذا البلد.  وباستثناء الحركة التحررية الكردية فبقية الأطراف منهمكة بالقتال  وليس لديها أي برامج أو مقترحات للحل أو لإيقاف الحرب. فالنظام يصّر على البنية القديمة الفاشية للدولة.  وأفضل عرض يقدمه النظام البعثي هو  وعوده لما تسمى بالمعارضة السورية ببعض المناصب في حكومة ما, علماً بأن الأفراد  والمجموعات الموالية لما  تسمى بالمعارضة إنما تتحرك وفقاً لأجندات خارجية لبعض الدول. كما أن المجموعات التي تدعي أنها معارضة  لا  تملك برامج  ومقترحات واضحة  وجدية فيما يخص الديمقراطية للمجتمع السوري. الهدف الأساسي لهذه المجموعات هو أن تأخذ مكان نظام بشار الأسد  لتستمر بنفس العقلية  ونفس الممارسات الإقصائية  لنظام البعث.

في حين أنه من الضروري فتح صفحة جديدة في سوريا بعد كل هذه الكوارث.  صفحة بيضاء تعبر عن ميلاد جديد لشعب ومجتمع سوري حرّ. بداية يجب أن يشمل التجديد العقلية السورية. الحقبة الجديدة يجب أن تعني للشعب والمجتمع العيش سوياً في سوريا بمزيد من مشاعر الأخوة. الحقيقة هي أن المواقف والممارسات السلبية مثل التمييز, العداوة, الإقصاء, الحرب  والعنف إنما لا تنشأ بسبب الشعوب. الذين يحرضون على هذه الممارسات ويسعون لتحويلها إلى سياسة دائمة هي الدول والسلطات التي تعتمد على السيادة الرأسمالية. الشعوب السورية في المرحلة الجديدة يجب أن تضع حداً لهذا. من الواضح أن هناك حاجة ملحة لنهضة تنويرية في مجال العقلية الفكرية.  يجب أخذ القيم الديمقراطية الجديدة كأساس لخلق حياة وثقافة جديدة تعتمد على مبدأ الأخوّة في المجتمع. هذا التقليد موجود تاريخياً  وبكل قوة في ثقافة الشرق الأوسط. حصر الشعوب في حدود ضيقة وصغيرة, العيش في دولة وسط أسلاك شائكة  وأبراج مراقبة للحدود  لم يكن أبداً خياراً مرغوباً للشعوب. هذا النوع من الحدود السياسية  والعسكرية المرسومة نشأت من خلال اتفاقية سايكس- بيكو. لذلك يجب أولاً تجاوز هذه العقلية  وتجاوز  هذا الفكر.

و انطلاقاً من ذلك فالأزمة في سوريا لا يمكن تجاوزها وعلاجها بالمسكنات  والأسبيرين.  بعد الآن لا يمكن الوصول إلى حل للمشاكل مع نظام البعث,  كما أن المفاهيم المشابهة للبعث أيضاً لن تكون حلاً للمشاكل المزمنة التي تعاني منها سوريا.  ففي سوريا تعمقت التناقضات والصراعات كثيراً. الصراع وعدم الثقة المتبادلة بين المذهبين العلوي والسنّي يمثل مشكلة جديّة تراكمت تاريخياً. أنصار كل مذهب لا يقبلون العيش في ظل سلطة المذهب الآخر وحكمه. فقد انعدمت الظروف المشجعة لذلك. أنصار كل طائفة أو دين أو معتقد يرغبون في أن يعيشوا حريتهم وهويتهم في ظل الظروف الديمقراطية للمجتمع.  والنموذج القابل للتطبيق في هذه الحالة هو الفيدرالية الديمقراطية. لأنه في ظل نظام الفيدرالية الديمقراطية يكون لكل دين  ولكل معتقد كامل الحرية. الإدارة  لا تميل لأي معتقد أو دين أو مذهب, ولا تتحدث باسم أي منها. كل شعب وكل فئة تستطيع أن تمارس حريتها الدينية ومعتقدها بكل حرية.

الفئات الشعبية من كل الثقافات واللغات والهويات تستطيع ممارسة حرياتها وتطوير نفسها  والتعبير عن رأيها بكل حرية. في نظام الفيدرالية الديمقراطية  لا يوجد مفهوم اللغة الرسمية أو غير الرسمية. كل لغة تكون شرعية في كل مجالات الحياة. كما أن لكل شعب أو مجموعة الحق في البحث عن تاريخها وتطوير ثقافتها وحمايتها كضرورة تفرضها الحرية الديمقراطية في الحياة. نموذج الفيدرالية الديمقراطية هو أكثر نظام مجتمعي حقيقي يكفل جميع هذه الحريات.

نظام الفيدرالية الديمقراطية هو النظام الوحيد الذي يكفل للمناطق المحلية, القرى والمدن تنظيم نفسها على أساس الإدارة الذاتية الديمقراطية. لأن الفيدرالية الديمقراطية تتشكل من القرى, المدن والمناطق ذاتية الحكم. كل وحدة أو منطقة سكنية ستعيش وفقاً لهويتها الحرة  وأسلوب إدارتها الديمقراطي الذي ترغب فيه.

في ظل الظروف الحالية لا يمكن الحديث عن وجود للتعاون الاجتماعي أو عن وحدة الأراضي السورية.  فقوات النظام السوري تسيطر على جزء من الأراضي السورية وتسعى للسيطرة على مناطق أخرى من خلال العمليات العسكرية.  ولكن في الوقت نفسه هناك قوى مسلحة مختلفة  ومتعددة تسيطر على مناطق متفرقة من سوريا. هذا الواقع الحالي لا يمكن تجاوزه إلا من خلال المصالحة. الفيدرالية الديمقراطية هي الأرضية الأنسب لهذه المصالحة الاجتماعية.  وبالارتباط  مع هذا الوضع فقد أعلنت الفيدرالية الديمقراطية لروج آفا- شمال سوريا عن نفسها. الفيدرالية الديمقراطية: يمكن تعريفها على أنها اتحادات طوعية تنشأ بين الشعوب  والمجتمعات وفقاً لأهداف اجتماعية ديمقراطية على أساس اتفاقية معاهدة محددة  فيما بينها. الميزة الأساسية للفيدرالية الديمقراطية هي تواجد الأعضاء المشاركين ضمن الاتحاد مع الحفاظ على هوياتهم وكياناتهم القانونية.  فالأعضاء ينضمون للاتحاد مع الحفاظ على حقوقهم الأساسية. ولكن لا يتنازلون عن بنيتهم الحرّة الديمقراطية. لا يكون أحد الأطراف مجبراً. فلا توجد إملاءات ظالمة  وقمعية أو من جانب واحد من قبل السلطة المركزية. اعتماد الفيدرالية الديمقراطية كنظام سياسي وتفضيله مقارنة بالأنظمة السياسية الأخرى إنما ينبع من محتواها الديمقراطي العملي. لأن دستور الفيدرالية الديمقراطية لا يلزم الأطراف عنوةً في حال وجود مظالم. فالاتفاقية بين مختلف الفئات الاجتماعية تكون على أساس القيم الديمقراطية الحرّة والمصالح المشتركة.  بدون شك الدستور يكون ملزماً في نظام الفيدرالية الديمقراطية.  فوجود اتفاقية ديمقراطية للحفاظ على تماسك المجتمعات ضروري وإلزامي. ولكن الجانب الإلزامي  لهذا الدستور يكون لغرض الحقوق  والقيم الديمقراطية الأساسية.  في هذا الخصوص تكون هناك حاجة لجانب إلزامي. على سبيل المثال:  في الدستور الجديد لو تم ذكر التالي ( في النظام الاجتماعي الوطني الديمقراطي لسوريا الجميع لهم الحق في تطوير لغتهم وثقافتهم بشكل حرّ ) فهذا يعني إلزام دستوري.  فكل الفئات الاجتماعية  والطبقات الإدارية التي تعيش في سوريا ستكون ملتزمة  وستتبع هذا الحكم الدستوري. بهذا الحكم سيكون دستور الفيدرالية الديمقراطية ليس الطرف الحامي للمظالم والاستبداد, ولكن سيقف في وجه هذه التصرفات  وسيحتوي على الضمانة اللازمة للحقوق الأساسية لمختلف فئات المجتمع.

بالتالي فالفيدرالية الديمقراطية: نظام اجتماعي ديمقراطي يعتمد على الفئات الاجتماعية, الشعوب والمجتمعات. تستند إلى وجهة نظر عالمية معينة, تستند على فلسفة نظام اجتماعي ديمقراطي ذات قوة فكرية نظرية.  تستند على الاتحاد الطوعي للمجتمعات والشعوب, إنه نظام اجتماعي ديمقراطي يضمن لكل مجموعة العيش بكل حرّية  ويحفظ لها هويتها وكرامتها وفقاً لنظام عادل وعلاقات متوازنة فيما بينها. في ظل هذا النظام لا يسمح بممارسة الحكم  والوصاية على الشعوب  والمجتمعات. ولا يسمح بجعلها تابع يذعن للأوامر وينفذها. فمن ناحية يتم تأسيس روابط قوية وعميقة بين مختلف المجموعات والفئات المجتمعية على أساس الأخوّة والحقوق المتساوية, ومن ناحية أخرى كل فئة أو مجموعة تتمكن من إحياء هويتها وتتمتع بحريتها وتطلعاتها الشخصية.  لهذه الأسباب الفيدرالية الديمقراطية هي الطريق الأمثل لتثبيت الحرية المطلوبة  والضرورية بين مختلف المجتمعات والمناطق. ففي الوقت الذي يتطلب من كل من منطقة ووحدة سكنية الاكتفاء الذاتي من خلال الفيدرالية الديمقراطية يتم تجاوز الإطار المحلي الضيق وكذلك يتم التهرب من الارتباط العالمي والوطني المفرط.  فكل مجموعة تتمكن من الحفاظ على هويتها وكماليتها وفي الوقت نفسه تنضم  وبشكل متوازٍ إلى جسم أكبر يستطيع تحقيق بيئة اجتماعية ديمقراطية أكبر. القرار والنقاش والقول الأخير هنا هو للمجموعات البشرية. الأساس في النظام الفيدرالي الديمقراطي يكون فرض خيار الديمقراطية من الأسفل أي من القاعدة. هذا النظام يعطي اعتباراً مهماً للاختلافات الطبقية والدينية والعرقية الموجودة في الأساس المجتمعي.  إضافة صفة الديمقراطية لمفهوم الفيدرالية ينبع من الفلسفة  والمفهوم لهذا المجتمع الديمقراطي,  بهذه الصفة يتضح الفرق بين النظام الفيدرالي  والاتحادي من جهة  وبين أسلوب الدولة الأوليغاركية ( حكم الأقلية) من جهة أخرى.

و بالتالي ستكسب الأنظمة الفيدرالية والذاتية الديمقراطية أهمية كبرى في العصر الحديث لأنها  لا تعتمد فقط على الدول القومية  وإنما تستمد قوتها من الشعب.  وستكون لهذه الأنظمة أهمية حياتية مصيرية ومعنى كبير في حل المشاكل المجتمعية. هذا النظام سيكون صالحاً ليس فقط في سوريا, وإنما سيشكل حلاً للمشاكل المجتمعية  والتاريخية التي تثقل الشرق الأوسط.

وفي ضوء هذه التعريفات سيكون للهيكل الفيدرالي الديمقراطي الذي سيتم إنشاؤه في سوريا أهمية عظيمة في تنظيم الأسس الواقعية المناسبة لاحتياجات المجتمع والوصول للبنية العملية الصحيحة لتحقيق هذا الهدف. المهمة المثيرة للاهتمام والتي يجب اعتبارها أولوية في هذا الهيكل هو الحد من حجم آليات الإدارة المركزية  ووضع حدود واضحة لحكمها.  فليس من المقبول كما كان سائداً في الماضي أن يكون للمركز السلطة المطلقة أو 99 % من السلطة في الدولة. فالسماح من جديد بإنشاء دولة مركزية لها السلطة المطلقة سيعيق من جديد التحرر المجتمعي. الهياكل الكلاسيكية التقليدية للدولة المستبدة بدأت تتلاشى  وتنهار. فالهدف الأساسي ليس إحلال أنظمة أخرى مشابهة لتلك المنهارة المتلاشية, بل الهدف هو تطوير البنية الديمقراطية المجتمعية. فإذا ما قمنا بتحديد نسب السلطات مثلاً فسيمنح النظام الفيدرالي الجديد للمركز ثقلاً يعادل الثلث, أما ثقل المناطق والمجموعات والقاعدة الشعبية فسيشكل نسبة الثلثين من السلطة بشكل تقريبي.  ففي الأساس الميزة الرئيسية للهياكل الفيدرالية هي توزيع قوة المركز, بحيث تستطيع كل منطقة وكل مجموعة أن تدير نفسها بنفسها. لقد أصبح من غير المعقول كما في السابق أن يتم وضع الخطط واتخاذ القرارات من قبل مركز واحد  أو من قبل مجموعة صغيرة من السلطويين. فالخطط  والقرارات الأساسية يتم اتخاذها من خلال صيغ التوافق  والإجماع التي تطورها القوى الفيدرالية فيما بينها.  فالركن الأساسي للقرار  والإدارة هو للمجموعات  والمناطق الفيدرالية. الإدارة الفيدرالية مسؤولة فقط عن تأمين الانسجام  وتطوير التنسيق بين المناطق الفيدرالية. أي أنها تلعب دور مركز التنسيق. فلا تتدخل في الأمور الخاصة بالمجتمع والتي لا تخصها. لا تتدخل في الشؤون الداخلية للمجتمع.  ولا تشكل طرفاً في الأنشطة السياسية. ولا تقوم بدور المتحدث نيابة عن أي مجموعة أو فئة مجتمعية ولا تساعد على تفوق طرف على طرف آخر.  حيث تحافظ على حياديتها ووقوفها العادل المتساوي من جميع فئات المجتمع.  فهي تؤدي الواجبات التي أعطيت لها من قبل السلطات الديمقراطية.

الإدارة الفيدرالية سيكون لها ثلاث وظائف رئيسية. أولها : توفير الأمان في حال التعرض لخطر أو تهديد خارجي. يمكن أن نقول عن هذه المهمة حراسة الحدود مثلاً. وعند تنفيذ هذه المهمة يجب عدم الإفراط في حشد ميزانيات مالية كبيرة  وجيوش ضخمة. الدروس الأخيرة التي نشهدها في الشرق الأوسط هي أن معظم الدول لم تفلح في حماية حدودها بشكل رادع.  فنظام صدام كان لديه جيش كبير  وميزانية ضخمة  ولكنه لم يصمد أمام التدخل العسكري الأميركي  شهراً واحداً. هذه الحقيقة باتت واضحة من خلال الأحداث الجارية في كل من مصر, سوريا وليبيا. وحتى الجيش التركي أصبح عاراً على الدولة. فالجيش التركي يخطط دائماً للانقلاب العسكري ليستولي على السلطة. حيث أن الجيش لم يساهم في تحقيق الأمان للمجتمع التركي بل كان دائم التوظيف لهذه القدرة العسكرية الكبيرة من أجل ممارسة الاستبداد  والقمع على المجتمع, ودائماً يقوم بالانقلاب على السلطة الشرعية وينشئ سلطات موالية لقيادات الجيش. إذاً الجيوش الكبيرة لم تساهم في حماية الدولة وتوفير الأمان للمجتمع  وأصبحت تشكل تهديداً داخلياً ضد النظام الديمقراطي  وضد تطلعات الشعب. ويمكن اعتبارها قوة استعمارية داخلية. ومن خلال الأمثلة عن تركيا  وأنظمة البعث في المنطقة سنلاحظ بأن الجيوش أصبحت عدواً حقيقياً لشعوبها.  وبدلاً من أن تقوم بحماية الدولة من التهديد الخارجي فقد أضحت أكبر خطر داخلي ومصدراً للتهديد  والمشاكل داخلياً.

فئات الشعب الواعية التي تعيش في ظل نظام اتحادي ديمقراطي حرّ هي التي تشكل وسيلة الأمان والحماية للدولة  والمجتمع. في هذا النوع من المجتمع الديمقراطي ليس هناك حاجة لهذه الجيوش الكبيرة. وفي حال وجود تهديد محتمل فإن آليات وردود الفعل للمجتمع الديمقراطي تحرك روح التعبئة للشعب ليقوم بحماية نفسه  وأفراده. فالمقاومة في هذه الحالة تنشاً ليس نتيجة وجود الجيش وإنما نتيجة للإرادة الحرّة للأشخاص والمواطنين الذين يرفضون الخضوع للظلم والاستبداد. أما الجيش فيكسب معناه الحقيقي عندما يساهم في تحقيق هذه التعبئة  وهذا التنظيم لدى الأفراد. في أوربا الكثير من الدول الصغيرة لا تمتلك جيوشاً. سويسرا دولة صغيرة وليس لديها جيش ومع ذلك لم تدخل في صراعات وحروب لسنوات طويلة  ونجحت في العيش والاستمرار كدولة حيادية ومحترمة  ومسالمة في شتى الظروف. من خلال الأمثلة  والتجارب السابقة نستنتج بأن وجود الجيش النظامي من عدمه يمثل موضوعاً جدياً قابلاً  للنقاش. وإذا كان هناك حاجة ضرورية للجيش لغاية الأمان فيمكن استمرار وجود الجيش  ولكن كمؤسسة صغيرة متواضعة. قد تكون هناك حاجة لوجود مركز دفاعي  ليقوم بمنع التسريبات الحدودية لبعض النوايا المبيتة , أو ليقوم الجيش بمهمة التوجيه والتنظيم لقوات الدفاع في إطار مؤسساتي في مواجهة التحديات والتهديدات الخارجية.

الوظيفة الرئيسية الثانية للإدارة الفيدرالية الديمقراطية هي: تنسيق الأنشطة والقطاعات الاقتصادية الكبيرة مثل: البترول, المياه, المواصلات, الطاقة, التجارة الخارجية. والتي تخص عموم المجتمع  وتتجاوز صلاحيات وحدود المناطق الصغيرة. فالإدارة الفيدرالية مسؤولة عن المصادر والثروات الوطنية وحمايتها وتوزيعها بشكل عادل وتطوير الانسجام المطلوب المشترك لإدارتها. كما أن الإدارة الفيدرالية مكلفة بإنشاء صناديق مشتركة وعرضها للاستخدام المجتمعي حين تظهر الحاجة لهذه الصناديق. الإدارة المركزية  والتنفيذية في هذه الحالات ليست صاحبة القرار بل هي  قوة تطبيقية.

الوظيفة الرئيسية الثالثة للإدارة الفيدرالية الديمقراطية هي: متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها آليات المجتمع الديمقراطي مثل السلم  والحرب, الانضمام للمواثيق الدولية أو الانسحاب منها, تحديد السياسة الاستراتيجية  والتأكد من وضعها قيد التنفيذ. هنا يجب الانتباه لنقطة مهمة وهي أن البيروقراطية الإدارية لا تحدد السياسات الدولية  ولا تتخذ القرارات.  فقوة البت في القرارات وتحديد السياسات هي من حق المجتمع  ومؤسساته الديمقراطية. السلطة التنفيذية للفيدرالية الديمقراطية هي المكلفة بتطبيق هذه السياسات والإيفاء بمتطلباتها العملية. من الواجب القيام برسم حدود الصلاحيات والوظائف الرئيسة للإدارة الفيدرالية الديمقراطية على هذا الشكل المذكور أعلاه.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى