معلم وباني الأجيال

معلم وباني الأجيال

الاسم والكنية: محي الدين رؤوف

الاسم الحركي: جاهد

تاريخ الالتحاق: 1985

تاريخ الاستشهاد: 4/12/1989 نهر دجلة

هل كان لي أن أكتب عن تلك الشخصية التي علمتني معنى الحياة ومعنى العيش الكريم، بعيداً عن مخالب الطغيان والعدوان. بعدما نادتني أبجدية الحياة وقادتني لأكون تلميذاً من تلاميذه وهو يناديني بنبضات قلبه الولهان والعاشق للحرية منذ نعومة أظافره ليسقي النفوس بالحياة التي اكتسبت معنى ومغزى جديداً. ذلك من خلال أسلوبه في التعامل مع الحقائق ومكامن الحياة، وهو يستضيف القلوب كرحالة ويتنقل بين كل الدروب التي تأخذ المرء بعيداً مع تلك الخواطر واللحظات التي باتت تمر وهي تتدفق من جديد بين الخيال والحقيقة التي تلاحمت فيها كل المعاني والمبادئ السامية.

قد لا تستطيع الكلمات التعبير عن حقيقة تلك الشخصية التي دخلت عالم الخلود وسكنت القلوب، حينما فتحت عيناها على جمال وبهاء هذه الحياة، تلك الطفولة التي كانت إشارة الظفر ومفتاح الحياة يرفرف على جبينها مع الشهقة الأولى ومع الابتسامة الأولى التي ترافقت مع أول شرارة أمل طفحت على شفاه العمر والمسيرة التي كانت وكأنها بانتظار قدومه الموعود. كل هذه الحقائق، المشاهد واللحظات التي دونها تاريخ شخصية الرفيق (محي الدين) سوف نمر عليها مرور الكرام ونحن نقلب صفحات تاريخها ومسيرتها صفحة تلو صفحة لنستخلص منها أروع الملاحم والبطولات التي سوف تحيا في قلوبنا وأفكارنا طوال الحياة. كما قال القائد عبدالله أوجلان إجلالاً وإكراماً للشهيد:

«اكتبوا رواية أو شعراً لكل الشهداء الذين يحيون في القلوب»

بدأت هذه الكلمات ترن في الآذان وتتطاير في سماء الأحاسيس والمشاعر التي غدت كالبركان تثور من قمم الجبال، وهي تطال بحممها أبراج السماء وخلود الرحاب. إنه الشهيد الباقي، الأبد، المعين والحي في قلوب الملايين، باقي ببقاء الحياة وماضي بمضي التاريخ والعصور وستظل تشهد لها الأوطان، السفوح والجبال الشاهقة التي احتضنت جبروتها وعظمة نضالها وسمو كبريائها بروايات، أشعار وملاحم تنطق بما يجهله البشر والتاريخ المعاصر.

وها هو القلم يمتطي صهوة الخيال، ليطوف بين الأحلام ماضياً مع الزمن الذي يرقد خلف الديار وأمام الأبواب، ليختلس الفرصة المناسبة كي يسطر تلك الصفحات البيضاء كبياض الثلوج والناصعة كقلوب الأطفال، حقيقة الطفل الشغوف والشبل البريء محي الدين وهو يهوى أن يبدأ بإمطار تلك الصفحات بالكلمات والهواجس كما تمطر الغيوم الأفراح والابتسامات على شفاه الحياة. لتهلل الأرض بقدوم الربيع وازدهار الزهور والرياحين التي تزين بساط الأرض وهي تنعش القلوب والنفوس بالأمل والبهاء.

محي الدين ذلك الطفل الذي كُتب له أن يرافق القلم ويتجول مع ما يخبئ له المستقبل، كي يكون رفيقاً للقلم ويمتطي صهوة الحياة التي تناديه، منذ أن فتح عينيه على الحياة وهو يرتشف جمال وبهاء العيش الرغيد، برفقة الحياة الحرة بمروجها ودروبها الحية والتي تتعطش لتلك الكلمات التي تنتظر الشخصية التي سيستضيفها التاريخ لتحل ضيفاً على الأسطر والجوانح البيضاء لتزيدها جمالاً وعفة.

ذلك الوطن الخالد وتلك الجبال التي تستضيف الثلوج وهي تزين ذراها الشماء، والحروف التي تتطاير روعة وبهاء مثل الفراشات بحرية وهي تستنشق عطور الأفئدة الحرة من رسالة الشهادة، لتشد الرحال على مسرح الأحلام وهي تجوب السهول والجبال كي تسطر جدران العمر والحياة بأروع شخصية وأجمل رواية وملحمة تسطرها سواعد وكبرياء أطفال الشمس والنار، ثوار الوطن الخالدين.

بعدما التحمت المشاعر مع الآمال حينها أعطيت القرار بأن أسافر مع الكلمات وأتعمق في بحر حياة الفدائي والمعلم الثوري محي الدين. ذلك الشهيد البطل الذي واكب مسيرة الثورة منذ نعومة أظافره وارتوى من مياه الحياة وهو يستنشق هواء الحرية من سفوح جبال جودي، كبار، هركول وقرجوخ، تلك الشخصية التي تعرف عليها الكثير من القلوب وسمع بها الكثير من العقول. مثل النجوم والأقمار التي طالت السماء وباتت تشع ضياء وهي تهب الحب والمحبة التي لا تتوارى عن الأنظار، بدأت ملحمة الشهيد محي الدين حية في الأذهان لتنال وسام الشرف خالدة تحتضنها آمال الشعوب والأحرار في عالم الخلود.

فتعالوا كي نتعرف معاً على حقيقة هذه الشخصية التي دونت ذكريات الجمال وحقيقة الثورة بأحرف من دم، وسطرت التاريخ من جديد بفلسفة الحرية التي فتح عليها عيناه وهي تزدهر بين ثنايا أفكاره النضرة والتي تهوى العيش. ليس العيش والقبول بالواقع ككل الناس بل الطيران كالنسور والثوران كبركان من نار على جحور وهياكل الظلم القابع في العقول والأفكار. تلك القلوب التي تعشق الحياة الحرة وتناضل من أجل الوصول لتحقيقها واحتضانها من الصميم، لذا فتعالوا معاً نواكب مسيرة هذه الشخصية منذ طفولتها وحتى خلودها في عالم اللانهاية، ونحن نقلب صفحات التاريخ صفحة تلو الأخرى مع تلك اللحظات التي تنبض بها الحياة من جديد ويشع منها الضياء والأمل.

كانت سنوات (1960) بالنسبة للرفيق محي الدين تعتبر بمثابة الشهقة الأولى والميلاد الجديد الذي بات فيه يحتضن نسمات الحياة نسمة بنسمة، من خلال ابتسامته البريئة التي احتضنتها الوجوه والقلوب التي كانت تحيط به من كل صوب، بالولادة التي باتت منبع فرح وسرور جميع أفراد العائلة، ابتداءً من الأب والأم انتهاءً بالأهل والأقارب الذين حمدوا الله وشكروه على تلك البشرى والنعمة التي كانت بمثابة هبة من السماء. السنوات التي أضحت الأرض الأم تنبض فيها بالحياة من جديد، وهي تتزين بالبطولات والأمجاد التي تنطق بها الحياة وهي تتلون بأجمل الألوان وتفوح بأذكى العبر النورانية والإلهية التي تتدفق في لحم الهوية الحرة. اللحظات السعيدة والجميلة والتي غدت فيها الطبيعة ترقص على ألحان البلابل والطيور وهي تحتضن بسمفونية الحنان، الحب والعطاء ابنها الوليد والموعود محي الدين. وهي تستعد رويداً – رويداً لاستقبال هذا الطفل الشغوف والباسم وهو يغادر جنة رحم أمه ليطوف مع أمواج الحياة ويساير موكب الزمن بعينيه اللتين فتحهما وهما تبتسمان وتضحكان مثل بريق النجوم وضياء القمر وهما تحتضنان المستقبل الزاهر في وجه الحياة منذ الشهقة الأولى. وكذلك شفتاه اللتان لم يكن الأمل والبسمة تفارقهما وكأنهما ينبوع من العطاء المعنوي والسماء المزينة بالنجوم والتي تظل ساهرة طوال الليل لتضيء طريق العشاق والأحرار.

نعم لقد توقفت الحياة أمام مسامع الرفيق محي الدين وهي تخاطبه بلغة الحياة والدروب، وهي تحمل له المزيد من الأماني والمهمات التي يتوجب عليه تحقيقها في مسيرة حياته التي تخفي له المزيد من المفاجآت والمعجزات، وها هو يغدو صفحة جديدة لكتاب التاريخ والحياة التي باتت تناديه وتهلل لميلاده الحر منذ اللحظات الأولى من تخطيه عتبة العمر.

بعد تعاقب سنوات العمر وتواكب اللحظات والسنوات جاءت مرحلة الدراسة وها هي المدارس تفتح ذراعيها لكي تحتضن ذلك الطفل الذي ابتسمت له الحياة ونادته العيون لاستنشاق هواء الحرية، العلم والمعرفة من ينابيع الحضارة وهو يتخطى السابعة من عمره. كراس التاريخ ينتظره بفارغ الصبر والعائلة تقوم بتجهيزه مع الزغاريد والأفراح وهو يواكب مجرى التاريخ بين صفوف طلاب وعشاق العلم والمعرفة والساعين لاحتضانها بفارغ الصبر.

طرق محي الدين أبواب المدرسة بعشق وسرور لا مثيل له واحتل مكانه بين رفاقه في الصف الأول الدراسي وقد غدا ابتداء من ذلك الوقت يواكب مسيرة الفكر برفقة القلم والكتاب.

كان يشرب كل كلمات معلميه مثل الماء ويزينها بأزها الألوان والمعاني. جميع هذه المواصفات والخصال التي اتصف بها خلقت له مكانة عالية وكبيرة في قلوب جميع معلميه، محبيه وزملائه من الطلاب. بالإضافة إلى أنه كان طالباً نشيطاً ويهتم بواجباته وينتبه للدراسة كثيراً، بالإضافة إلى أنه كان صاحب إمكانيات كثيرة ويمتلك أسلوباً رفيعاً وشفافاً يتعامل به مع كل رفاقه وزملائه، من دون أن يزعج أو يكسر خاطر أحد في الحياة، لا في المدرسة ولا في البيت. لذا كانت كل الأمهات اللواتي يعرفن أم محي الدين ويعرفن محي الدين وجدارته في الحياة يقلن: «ليحفظ الله ابن برفى، فهو ذكي وشاطر وله صفات حسنة قلما يتصف بها كثير من الصبيان، ليحرسه الله ويحميه لوالديه طوال العمر».

كان الرفيق محي الدين يجتاز درجات العلم ويصعدها الواحدة تلو الأخرى برفقة القلم والدفتر وهو يلتحم مع العلم والمعرفة بكل إحساسه وعشقه اللامتناهي وكأنه يسابق الزمن والحياة معاً. اجتاز محي الدين المرحلة الابتدائية، الإعدادية والثانوية بنجاح وتفوق كبير وحصل على شهادة التدريس. أي أنه سيستطيع ابتداء من الآن فصاعداً أن يُدرّس الطلاب، ومنذ ذلك الوقت بدأ محي الدين ينخرط في تدريس الأجيال. كان طالباً وبدأ يتسلق درجات المعرفة وينهل العلم من معلميه وها هو الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة من الجهد والعطاء والمثابرة يصل لمرحلة يستطيع فيها أن يكون منبع العلم ويقوم بتدريس الطلاب وإرشادهم لطريق الصواب والحياة التي ملؤها الحب، الجمال والمحبة.

في بداية الثمانينيات وبالتحديد في عام 1981 بدأ محي الدين يدرس في إحدى المدارس  الابتدائية في قرية حمزه بك التي تقع في منطقة كوجرا والمرتبطة بمدينة ديريكا حمكو. ولكنه لم يكن مثل كل المدرسين الآخرين، لأنه لم يكن يعلم طلابه القراءة والكتابة وإعطاء الدروس المدرسية فقط بل كان يعلمهم طبيعة العلاقات والحياة الرفاقية الصحيحة والحقيقية التي يمكن إقامتها بين الرفاق والطلاب والتي تستند على الحب والمحبة. استطاع محي الدين ومن خلال تلك الصفات والميزات أن يحتل مكانه كمركز للعطاء ومنبع لإعطاء تجارب الحياة لكل الطلاب من حوله، وذلك عن طريق المواصفات الحسنة والنبيلة التي كان يتصف بها والتي كانت سبباً في تعلق الكثير من الطلاب به.

لأنهم كانوا يشاهدون فيه المعلم الحقيقي الذي يبني الأجيال بكل معنى الكلمة، وهو يعي جيداً جوهر المهمة التي كان يقوم بها، لأن مهمته لم تكن تستند على كسب المال والتقرب بسطحية من العمل الذي كان يقوم به كباقي المعلمين الذين كان كل ما يشغلهم هو كسب معاشهم في كل شهر ولا يهمهم إن تعلم الطلاب أو لم يتعلموا. لأنه كان يمتلك قدرة كبيرة على معرفة ما يجول في داخل كل تلاميذه وهو يحاورهم ويعمل على معرفة مشاكلهم وإيجاد الحلول المناسبة لها عن طريق التقرب المناسب والمجدي في كل خطوة كان يخطوها، ساعياً من خلال ذلك إلى بناء الشخصية الناجحة والقادرة على صنع مستقبلها بنفسها. وفي كثير من الأحيان عندما كان الرفيق محي الدين والذي كان يُنادى من قبل رفاقه بـ محه (Mihê) كاختصار لاسمه حسب العرف الشعبي الدارج في المنطقة يلعب في فريق لكرة القدم، كان كل الطلاب يريدون أن يحتلوا مكانهم في ذلك الفريق لأنه كان يجيد لعب كرة القدم وكان لاعباً ماهراً ويحتل مكانه في فريق كرة القدم لمدنية ديريك والذي كان يسمى آنذاك بفريق (شفان).

في تلك المرحلة كانت للرفيق الشهيد علاقات مع الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي (يميني ـ القوموي) في سوريا ولكنه كان كغيره من شبان تلك المرحلة في حالة بحث عن فكر، أفق وروح جديدة في الساحة الكردية. كان الرفيق محه يملك مكتبة متواضعة من الكتب المتعلقة بالفكر الماركسي وتاريخ كردستان وحركات التحرر الوطني. كان أبوه رجلاً متديناً وينشغل بالتجارة وكانت أمه امرأة معروفة في محيطها الاجتماعي لاهتمامها باليتامى والفقراء وعلاقاتها الكومونالية الأصيلة. كان الرفيق محه الابن الوحيد للعائلة، لذا كان محط الاحترام والتقدير من قبل جميع أخواته اللواتي كن يهتمن به ويسعين لإسعاده في الحياة. وهكذا وضعت العائلة كل إمكاناتها في سبيل تأمين إكمال الابن الوحيد لدراسته وحصوله على الشهادة الثانوية والدخول إلى الجامعة.

كان للرفيق محه علاقات واسعة وطيبة مع الشبيبة من مختلف الثقافات والأديان مثل السريانيين والآشوريين الذين كانوا يعيشون في منطقة ديريكا حمكو. فعلى الرغم من أن الرفيق فتح عينيه على الدنيا في مدينته الصغيرة ودرس فيها، ثم ذهب إلى الجامعة، إلا أنه كان يحن إلى حياة القرية وتلك العلاقات التي كان يبنيها مع القرويين وهو يستمع إلى أحاديثهم ومشكلاتهم وينسجم معهم في الحياة. بعدئذ تحولت هذه الخصوصية في شخصيته إلى أرضية خصبة لكسب ود وحب الجماهير له في نضاله الثوري، خاصة بعد انضمامه إلى الحركة الآبوجية. من هذا المنطلق لم يتطور مرض المثقف البرجوازي الصغير المتكبر والبعيد عن حقيقة المجتمع والنشاط الجماهيري في شخصية الرفيق محه وهو يذهب بين الحين والآخر إلى القرية ويبقى فيها لأيام عديدة عند أقربائه ومعارفه، ولا شك بأن مثل هذا التصرف لدى أي شاب وفي عمر مبكر يكسبه الثقة بنفسه ويخلق لديه روح المبادرة والنضوج.

تعرف الرفيق محي الدين على فكر الحزب في عام 1984 وكان ذلك عن طريق قراءة أدبيات الحزب والقائد عبدالله أوجلان، كذلك من خلال علاقته مع الرفيق أحمد مصطفى الذي (استشهد في غرزان سنة 1987) والذي كان من قرية عين ديوار ومن خيرة الشباب الذين تعرفوا على الحركة في بداية الثمانينيات. وبفضل الرفيق الشهيد عبد الرحمن ماتور (صالح) توثقت علاقة الرفيق محه بالحركة وقرأ وثائق محكمة ديار بكر للرفاق مظلوم دوغان، كمال بير وخيري دورموش وبعض البيانات والأدبيات المترجمة إلى العربية في سنوات 1982  ومن ثم أعطى قراره بالانضمام الفعلي إلى الحركة.

على إثر تلك التطورات التي طرأت على شخصية محي الدين قام بقطع علاقاته مع الحركات الكردية القوموية والمصطنعة تماماً وحول علاقاته الاجتماعية إلى علاقات ذات محتوى أيديولوجي- فكري ووطني ووضعها تحت خدمة الحركة. وعلى إثر ذلك شكل محي الدين محيطاً اجتماعياً وطنياً مؤيداً للحركة من علاقاته السابقة والقائمة على القرابة والمعرفة الشخصية، الطبيعية والتي كانت بمثابة اللحظات الأولى من مسيرته الثورية وانخراطه بين صفوف الحزب. لأن حزب العمال الكردستاني كان بالنسبة له بمثابة حياة وبداية انطلاقة جديدة ويختلف عن كل الأحزاب الأخرى التي تعرف عليها خلال مسيرة حياته حتى الآن، خاصة لما يمتاز به من مميزات وخصال قلما تجدها عند الأحزاب والحركات الأخرى.

رويداً- رويداً بدأت مجاري الحياة تتدفق في ذهنه وفكره من جديد، بعدما نادته الحياة وهي تخاطبه قائلة: لن أناديك من الآن وصاعداً أيها الطفل لأنك أصبحت شاباً ناضجاً  يمشي بخطا سديدة بين مسالك الحياة التي باتت تنتظر منك المضي قدماً على دروب الحرية والمضي خلف راية القيادة والشهداء.

بعدما انخرط الرفيق محي الدين بين صفوف الثورة وارتوى من مياه الحياة بدأ يحمل راية العلم والمعرفة وبدأ يستعد لاستقبال المهام التي سوف توكل إليه في كل لحظة. الغرفة الصغيرة التي كان يسكن فيها محي الدين كانت بمثابة مكتبة صغيرة تتضمن كل الكتب التي كانت تتعلق بالثورة والنضال الثوري، ابتداء من كتب القيادة وانتهاء بالكتب التي تتضمن تجارب الثورات التحررية في العالم. في كل يوم كان محي الدين ومن خلال المطالعة الكثيفة التي كان يقوم عن طريقها بتحليل الإنسان، الطبقات، المجتمع، يكتسب معرفة واسعة وعميقة عن تاريخ وحقيقة الشعب الكردي أكثر فأكثر. فعلى الرغم من أنه كان معلماً ويدرس الطلاب ويستند في ذلك على كتب ومنهاج الدولة التي كانت تشرح فيه تاريخ العرب والتطورات التي حققوها لكنه بعدما تعرف على حقيقة ثورة حزب العمال الكردستاني لم يعد يهتم بكتابات النظام بما تحتويه من مواد، خاصة بعدما غدا يمتلك روحاً ثورية وبدأ يتسلح بفكر وأيديولوجية الحزب والقائد ولم تكن أية قوة تستطيع أن تعيق وصوله إلى تحقيق الانتصار في الشخصية وتحقيق الحرية.

على إثر ذلك انضم الرفيق محي الدين إلى نشاطات الحركة بين الجماهير الكادحة في المنطقة أولاً، ومن ثم انخرط في فعاليات الحركة الساعية إلى تأمين مرور مجموعات الكريلا إلى بوطان عبر الحدود على نهر دجلة فيما بين منطقة ديريك وجزيرة بوطان، خصوصاً بعد حملة 15 آب التاريخية. اكتسب الرفيق الشهيد الجسارة والإرادة في تسهيل المصاعب وكيفية عبور الحدود المصطنعة والمدججة بالأسلاك الشائكة، الجنود، الأسلحة، عن طريق وضع جغرافيا وتضاريس المنطقة تحت خدمة النضال من أجل الحرية على أساس تسهيل عملية مرور الكريلا ووصولهم إلى قواعدهم في جودي وكابار والمناطق الأخرى بسلام.

التقى الرفيق محي الدين مع القائد آبو في ربيع عام 1985 وانضم إلى دورة تدريبية بعد احتفالات نوروز وإعلان جبهة التحرير الوطني الكردستاني. بعدها انضم إلى الدورة التدريبية التي انضم إليها كل من الرفاق اسماعيل إبراهيم، أحمد مصطفى وفراس كوباني الذين كانوا ينتمون إلى الكوكبة الأولى من شهداء غربي كردستان في النضال تحت راية حزب العمال الكردستاني. بعد انتهاء الدورة كلف القائد آبو الشهيد محي الدين بتحمل مسؤولية النشاط الجبهوي للحركة في منطقة ديريك بشكل خاص والجزيرة بشكل عام. وقد أخذ الشهيد هاوار والشهيد خشمان أماكنهم في هذه المهمة الصعبة والشاقة، إلى جانب الرفيق زنار وأحمد بمسؤولية مباشرة من قبل الرفيق محي الدين. وفي هذه السنوات نضجت شخصية محي الدين في مجال بناء التنظيم وفتح العلاقات مع كل فئات الشعب وتسخيرها لخدمة تطوير النضال المسلح في بوطان وماردين وغيرها من المناطق. هكذا توسعت القاعدة الجماهيرية لحزبنا في ديريك، قامشلو، عامودا وغيرها.

علينا القول إن الدور الذي لعبه محي الدين في اليقظة الشعبية المقاومة تحت راية حركة الحرية في منطقة ديريكا حمكو كان بارزاً، لأنه احترف في هذا العمل وعرف كيف يجذب أكثر الفئات البعيدة عن الروح الوطنية إلى صفوف النشاط ويكسب صداقتهم ودعمهم للنضال. وفي الوقت نفسه لعب دوره البارز في مد الجسور فيما بين ساحة بوطان والساحات الأخرى، من خلال إبداء الجسارة، الإرادة والتغلب على كافة الصعوبات، من خلال تشجيع الشبيبة على الالتحاق بصفوف الكريلا.

لذا استطاع أن يجسد في شخصيته صفات الكادر الحزبي الذي جمع بين النشاط الجماهيري الجبهوي والعمل المسلح في الأغوار من جهة والفعاليات التدريبية الأيديولوجية فيما بين الفئات الشابة من الجهة الأخرى.

لذلك قلما كنا ندخل بيتاً في منطقة ديريك ولا نرى فيه صورة الشهيد محي الدين، لأنه تمكن من الوصول إلى قلوبهم بوفائه، حبه وحميميته الصادقة. لقد أدرك وشعر بحسه الثوري بآلام الشعب من خلال انشغاله بمشاكلهم وكأنه كان يبشر بمشروع القائد الكونفيدرالي الكومونالي بصدد تنظيم المجتمع.

لذا كان قريباً إلى الجميع، أطفالاً، شيوخاً، نساءً وشباباً، وهو يحتضن في قلبه أمل الوحدة الوطنية الديمقراطية بين المجتمع الكردستاني كإحدى ثمار المرحلة الأولى للكفاح المسلح والمسماة بثورة الانبعاث. لقد أثبت الرفيق في نشاطه بأن الشعب الكردستاني جدير بالثورة والنضال ومرتبط بالحرية والمقاومة مهما كان حجم الصعاب والتضحيات إن وجد بينه كوادر وفية تعمل بتوجيهات من قيادة حكيمة وصادقة، ابتداء من شخصيته التي تحولت إلى رمز للكادر المرتبط بتوجيهات القائد آبو وقيم الشهداء والشعب.

كلما كان محي الدين يتعمق في معرفة حقيقة الثورة والقيادة كان يتقرب أكثر من معرفة حقيقة شعبه وتاريخه المديد وقد غدا وبكل معنى الكلمة ابناً لكل الأمهات والوطن، خاصة بعدما توجه في سنة 1986-1987 إلى أكاديمية معصوم قورقماز والتقى بالقائد آبو وبدأ يتسلح بفكره ومبادئه في الحياة. الأكاديمية التي تعلم فيها حقيقة القيادة والجوانب الأيديولوجية، السياسية، الفلسفية والاجتماعية. والأهم من كل ذلك التوصل إلى معرفة كيفية بناء ثورة في الشخصية والعمل على اجتياز جميع العوائق والحواجز التي تعيق التطور والتغير في الحياة من خلال الدورة التدريبية التي انخرط فيها والتي كانت بمثابة بحر من العلم والمعرفة واستطاع بناء شخصيته من خلالها وحمل ما اكتسبه من تلك التدريبات لينير جميع العقول والقلوب التي تعشق الحياة والحرية.

استمر الرفيق محي الدين في نشاطه على طرفي نهر دجلة من الجانب الجنوبي الغربي والشمالي معاً، ومزق ذلك الخط المصطنع والمرسوم حسب إرادة القوى الحاكمة العالمية والدول القوموية الشوفينية في المنطقة، وهو يقوم بتحقيق التوحيد فيما بين الشمال والجنوب الغربي على أرض الواقع. وفي بداية عام 1989 أراد محي الدين أن يقود المجموعة الجديدة من الكوادر الذين انتهت دورتهم التدريبية في أكاديمية معصوم قورقماز إلى قواعدهم في جودي عبر نهر دجلة كما فعل في العديد من المرات. لكنه استشهد إثر كمين غادر نُصب من قبل الجيش التركي والعصابات الخائنة التابعة للدولة بعد مقاومة بطولية على ضفاف نهر دجلة وفي موقع قريب جداً من مدينة جزيرة بوطان، مع الرفيق زنار وأحمد الذين استشهدوا معاً في ذلك الكمين وتم دفن جنازاتهم في جزيرة بوطان إلى جانب جنازة الرفيقة بيريفان (بنفش آكال) في مقبرة الشهداء.

كان محي الدين بمثابة الثوري، القيادي والجندي الوفي لشعبه في كل مكان وزمان. بالإضافة إلى أنه كان بمثابة الانطلاقة والصرخة التي تمثل الشعب ومساعيه في تحقيق الحرية، لذا كان الشعب يكن له الحب والمحبة من كل صوب لما كان له من مكانة في قلوب الشعب قبل أن يتعرف على حياة الحزب وبعد تعرفه أكثر فأكثر، لما كان يمتاز به من صفات وخصائص تجعله يحتل مكانه بين الشعب. فأسلوبه الشعبي وتواضعه، على الرغم من أنه كان الابن الوحيد في العائلة وكانت عائلته غنية ولكنك لم تكن تحس بكل هذه الجوانب في شخصيته. لأنه كان يحتضن الشعب بكل ما يعانيه من أسى وآلام في قلبه، فكره ومبادئه. بالإضافة إلى أنه كان يعرف كيف يتعامل مع الصغار، الكبار والنساء كل على حدى، لذا لم يكن أحد يتضايق منه، بل على العكس من ذلك، فقد كان يحتل مكانه في قلوب وعقول الملايين من أبناء الشعب الكردي، الذين كانوا يعرفونه أو سمعوا باسمه. ظهر ذلك وبوضوح أثناء استشهاده عن طريق انخراط المئات من الصبيان والبنات في صفوف الثورة، وتسمية المئات من الأمهات أولادهم باسم محي الدين (جاهد).

اكتسب الرفيق محي الدين ومن خلال مسيرته البطولية والرائدة في النضال مكانة مرموقة، ليكون بذلك عند ظن الشهداء، الشعب والقائد عبدالله أوجلان الذي وصفه لجسارته وخصاله الحميدة قائلاً «الرفيق محي الدين هو عكيد غربي كردستان». لذا نستطيع أن نقول إنه كان صادقاً في كل ما عاهد ووعد به من النضال والتضحية في سبيل الشعب والوطن وهو يقوم بتمرير كل ما كان يقوله وينادي به في الحياة العملية على أرض الواقع، هذا كان السبب في إيمان وثقة الحزب، الرفاق والشعب به أكثر فأكثر. بالإضافة إلى أنه كان يجاهد ويناضل بلا هوادة في سبيل تحرير الشعب والوطن وهو يواكب مسيرة الشهادة والبطولة بعدما سقى بدمه الطاهر أرض كردستان الطاهرة ونال وسام الشرف والكبرياء واحتل مكانة كبيرة في قلوب الملايين من عشاق الحرية.

كان التاريخ يسطر تلك اللحظات ويدونها بأحرف من دماء الشهداء وذلك في 4-12-1989. ذلك اليوم الذي زلزلت فيه الأرض وأمطرت السماء دموعاً وتلاشت السحب وبدأت الغيوم والضباب بالالتفاف حول قمة جودي وكابار وهي تسرع بالتوجه نحو ساحة الحرب وكأنها تأبى أن تحرس تلك المجموعة الفدائية وتساندها في حربها ضد جحافل الطغيان والعدوان.

تلك المجموعة التي قاومت المستحيل والعدوان كي تضمن وصول رفاقهم الذين كانوا على طريق ساحة الحرب إلى أماكنهم بسلام وتلك القلوب التي تلاحمت كحلقة نار وهي تصرخ في وجه الظلم والعدوان لتسابق أمواج نهر دجلة في جريانه وانحداره، ذلك النهر الذي كان شاهداً على مجرى الحرب التي دارت رحاها على أرض الواقع والمقاومة الباسلة التي أبداها الرفاق وبكل تفاصيلها. المعركة التي ملأ صدى طلقاتها وقذائفها الوديان والسهول وباتت تتلاشى مع نسمات الرياح لتلحف مسامعنا بملحمة الفداء والبطولة التي أبداها الرفاق في وجه العدوان والظلم.

كانوا أربعة نجوم وشموع أضاءت الليل المظلم، بددوا بنور أجسادهم كل مسامات الظلام وكأنهم أبوا إلا أن تنكشف حقيقة تلك الملحمة للطبيعة والأحياء مخاطبين إياهم قائلين: إن هذه الحرب هي حرب الحياة والموت، الحياة للطبيعة وجميع الأحياء على سطح الأرض والموت للطغيان والعدوان والظلم.

محي الدين، زنار، أحمد وزوزان جسدوا أروع سمات الشهادة و أعذب الألحان التي غنتها الطبيعة، الكون، الآلهة وأروع الأسماء التي نطقت بها الألسنة والشفاه واحتضنتها القلوب العاشقة. القلوب والنفوس التي لم تترك تلك المجموعة لوحدها حتى في أصعب اللحظات وهي تجابه الموت في ساحات الوغى وتزرع الحياة من جديد بين قلوب الآلاف من أحباب وطلبة الرفيق محي الدين.

 

ابتداءً من الأطفال ومروراً بالنساء والشيوخ الذين كانوا يسهرون طول تلك الأيام وهم يساندون تلك المعركة بقلوبهم وعقولهم ليل نهار ويعيشون وقائعها في صميم هواجسهم وأحاسيسهم. ديريك المدينة التي لم تنم طوال الليل وهي تشهد وقائع تلك المعركة التاريخية ومقاومة الرفيق محي الدين وكل من رفاقه أحمد، زنار وزوزان حتى آخر قطرة من دمائهم الذكية.

لقد كان لتلك المعركة ولاستشهاد كل من الرفاق محي الدين، أحمد، زنار وزوزان تأثير كبير على المنطقة بشكل عام وعلى مدينة ديريك بشكل خاص. وذلك كان واضحاً من خلال انخراط المئات من أبنائها وبناتها في صفوف الثورة واعتناق الكثير من أهالي المنطقة فكر الحزب وفلسفة القائد آبو، خاصة بعد استشهاد محي الدين والمجموعة التي كانت برفقته. وعلى إثر ذلك قامت كل من أخواته السبعة بتوجيه أبنائهن وحثهم على الانخراط في صفوف الثورة بعدما رفعوا اسم الرفيق محي الدين وساروا على نهجه ونهج القيادة والشهداء. فمنهم من ناضل بين الشعب ومنهم من استشهد وسقى بدمه تراب الوطن ومنهم من وقع في الأسر وهم ما يزالون يقاومون الطغيان دون هوادة، وهناك من يحاربون على ذرا جبال كردستان وهم يمتشقون سلاح الحرية ويسهرون على حماية الوطن الغالي كردستان.

وصل الرفيق محي الدين إلى مرتبة الشهادة كأعلى وأرفع مرتبة عرفتها الإنسانية حتى الآن، ليرقد إلى جانب مم وزين، جكو وعارف، زنار وأحمد وبريفان في قلب تراب بوطان المقدسة التي يطل عليها سيدنا نوح بسفينته من أعلى قمة في جودي، ويغني لهم دجلة أغنية «آفا مزن …..سور به خوينه» ويرسل أمواجه إلى ديريكا حمكو وبرية جبل شنكال وشهداء سينما عامودا. وهو يسكب دمه ويجعله خميرة لتحقيق الوحدة  فيما بين الشمال والجنوب، الماضي والحاضر والكادر والشعب.

لذا نستطيع أن نقول إن الرفيق محي الدين كان قدوة لكل الرفيقات والرفاق الذين انضموا من منطقة ديريك ومن غربي كردستان.

باعتباره كان بمثابة المعلم، الباني والقائد الميداني الذي خلق الإنسان وجعله يتعرف على حقيقة وجوده وحقيقة تاريخه، بعدما رسخ كل ما اكتسبه من مجتمعه ومن فلسفة وأيديولوجية القائد آبو. بعدما تسلح بكل الحقائق التي كانت مخفية عنه وهو يسابق الزمن ويركب قطار الحياة التي خلدها في أفكاره وأنار بها قلبه وعقله، ليقود مسيرة البطولة بين ربوع الوطن الخالد وهو يقول «إن كل أقوال القائد بالنسبة لي بمثابة تعليمات ولا بد أن أنفذها بكل حذافيرها رغم كل المصاعب والعراقيل»، وكان يتمنى أن يمتلك عدة أرواح ليضحي بها في سبيل تحرير شعبه المضحي والمناضل والذي يستحق أن يعيش حراً». كانت أمواج نهر دجلة بمثابة تظاهرة وطنية تتدفق وهي تنادي الحرية بألحانها وتردد أغنية آفا مزن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى