السياسة والدين

 السياسة والدين

حسين شاويش

قبل كل شيء يجب الإشارة إلى أن الدين بجانبه الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي هو السياسة بحد ذاتها. طالما أن السياسة هي فن إدارة المجتمع فإن الأخلاق هي الموازين التي تحكم هذا الفن والاقتصاد هو النشاط المادي والمعيشي الذي يستند عليه. الجانب الأخلاقي هو الغالب في ثقافة الأديان بشكل عام. هذا الجانب الأهم والأكثر تأثيرا مرتبط تماما بإدارة الأمور الإدارية وبالتالي السياسية للمجتمع. كل شيء مرتبط بالمجتمع والحياة المجتمعية يدخل في إطار السياسة وبالتالي يجب التأكيد مرةً أخرى على مقولة >الإنسان هو حيوان سياسي< لأنه كائن اجتماعي. من هذا المنطلق فإن الدين هو تعبير أخلاقي ومعنوي وروحي عن السياسة. ولا يمكن فصل الدين عن السياسة من خلال بعض الاصطلاحات أو التمنيات أو الشعارات أو الأسباب المرتبطة بفترة زمنية معينة. حتى معادلة >فصل الدولة عن الدين< والتي انتشرت في أوربا على إثر ظهور الدول القومية بقيادة البرجوازية هي تعبير آخر عن تحويل الدين إلى وسيلة احتياطية للطبقة البرجوازية المسيطرة تحت اسم البروتستانتية أو الإصلاح الديني. أما بعض البلدان التي تدعي بأنها إسلامية مثل السعودية وقطر وتركيا، فقد اتبعت المذاهب السلفية مثل الوهابية والنورجية والنقشبندية….والخ.

كل هذه المذاهب سواء أكانت مسيحية أم إسلامية هي تعبير سياسي عن مصالح الطبقات الجديدة. فإذا كانت البروتستانتية والكالفينية تعبر عن مصالح الطبقة البرجوازية والدولة القومية في أوربا، فإن الوهابية والنورجية وصولاً إلى القاعدة وداعش والشيعية الفارسية تعبر عن مصالح الطبقة الكومبرادورية البرجوازية في الشرق الأوسط. إذا لا يمكن الفصل بين السلطة السياسية والدين في هذه المذاهب جميعاً. كما لا يمكن فصل هذه المذاهب عن الحداثة الرأسمالية. مثلاً؛ غالبية قواد داعش من بقايا البعث العفلقي-الصدامي والبعث السوري والفاشيين الأتراك، بمعنى آخر من القومويين العرب المتأثرين

بهتلر وموسوليني وفرانكو… كما أن أكثرية أعضاء القيادة في حزب العدالة والتنمية من أصول التيار القوموي الإسلامي في الاتحاد والترقي وينتمون إلى الطريقة النورجية أو النقشبندية.

أكثرية الانطلاقات الدينية الكبيرة في التاريخ استهدفت تغيير السلطة السياسية أو إصلاحها. ألم يكن سيدنا ابراهيم الخليل ثورياً ومناهضاً لسلطة نمرود الاستبدادية والقمعية؟ ألم تكن انطلاقة سيدنا موسى ثورة ضد الاستبداد الفرعوني؟ ألم تكن انطلاقة سيدنا زردشت ثورة ضد المذابح التي تعرضت لها شعوب ميزوبوتاميا على يد الإمبراطوريات الدموية؟ ألم تكن انطلاقة سيدنا المسيح ثورة ضد سلطة القياصرة الرومانيين المستبدة؟ ألم تكن انطلاقة ماني ثورة ضد الحكم الاستبدادي الساساني أو الروماني بهدف الإصلاح؟ ألم تكن انطلاقة سيدنا محمد ثورة ضد الأرستقراطية العربية وجاهليتها؟ إذاً الدين هو أحد الأساليب والمناهج الأساسية للسياسة الاجتماعية في التاريخ. هذا بالإضافة إلى الكونفوشيوسية في الصين والبوذية في الهند، كلها حركات إصلاحية اجتماعية تحت غطاء الروحانية الأخلاقية الدينية والمذهبية. أكبر دليل على جوهر الدين السياسي ما نعيشه اليوم في ظل الصراع الإقليمي على الهيمنة فيما بين السنية السلطوية والشيعية السلطوية في الشرق الأوسط. فيما بين الجبهة السياسية الشيعية بقيادة إيران والجبهة السنية السياسية بقيادة تركيا والسعودية.. كاستمرار للصراع فيما بين اليمين واليسار الإسلامي إذا صح التعبير منذ 1400 سنة. لذلك لا يمكن فصل الدين عن السياسة، لأن الدين مثل الميثولوجيا والفلسفة والعلم، هو أحد الأساليب الأساسية لنمط التفكير الإنساني في البحث عن الحلول لقضاياه ومشاكله على مر تاريخ المجتمع الإنساني وكأحد أهم أساليب البحث عن الحقيقة في تاريخ المجتمعات.

على الرغم من هذا كله فإن الأنبياء والرسل ابتعدوا عن توجيه المجتمع نحو السلطة والمال والجاه والمادة كوسيلة للسعادة. بل على العكس تماماً حاولوا دوماً توجيه المجتمع نحو الزهد والتقشف والبساطة والحياة الروحية والمعنوية وبالتالي نحو الحياة الكومونالية المجتمعية. هناك العشرات من الآيات التوراتية والإنجيلية والقرآنية لتوجيه المجتمع نحو الأخلاق والروحانية ولا توجد آية واحدة تدعو الناس إلى التمسك بالسلطة والجاه وبالتالي بالاستبداد والظلم. لأن الأديان «ترى حياة الدنيا لا أهمية لها، بل حياة الآخرة هي الخلود ». جميع الرسل والأنبياء إما كانوا مناهضين للسلطة والدولة، أو وقفوا على مسافة بعيدة عنها.

هنا يجب الإشارة إلى معضلة أساسية ما زال يشوبها الكثير من الغموض والتعكير، وهي كالتالي؛ تحويل الدين إلى أداة للهيمنة السياسية السلطوية شيء والدين كتعبير روحي ومعنوي وأخلاقي عن السياسة الاجتماعية شيء آخر مختلف عنها تماماً! لا يوجد مجتمع لا يتمتع بخصوصية دينية روحية معينة على مر التاريخ. كما أنه لا يوجد مجتمع خارج إطار السياسة كونه مجتمعاً على مر التاريخ. إذا الدين هو إحدى اللبنات الأساسية للثقافة الإنسانية إلى جانب الميثولوجيا والفلسفة والعلم… ولكن اغتصاب الدين والاستيلاء عليه وتحويله إلى أداة للحرب الخاصة ضد المجتمع من قبل الطبقات المهيمنة أو القوى السلطوية المهيمنة منذ آلاف السنين هو السبب الرئيسي في إفراغ الدين من محتواه وجوهره وبالتالي استخدامه كسلاح ضد من أبدعه وأوجده.

دعا الأنبياء والرسل إلى: لا تسرق، لا تكذب، لا تخدع، لا تقتل، لا تغضب، لا تشتم، لا تقطع الشجر،

لا تحرق الزرع، لا تفسد، لا تسكت على الظلم، لا تقبل العبودية، لا تسرف، لا تتحايل، لا تخن، لا تنكر أصلك! هذه الموازين هي الأخلاقيات الاجتماعية العرقية التي تمثل جوهر إدارة المجتمع لشؤونه وتعبر عن إرادته  وبالتالي عن نهجه السياسي وثقافته المعنوية والروحية والفكرية. وهذا في الوقت نفسه الجانب الأساسي المعبر عن الثقافة الديمقراطية في الدين كحقيقة تاريخية معنوية لا يمكن الاستغناء عنها. دعا الأنبياء والرسل إلى إكرام الضيف وإطعام اليتامى ومساعدة المنكوبين وإمداد المستضعفين وهذا تعبير عن الروح الكومونالية

(الجماعية والتعاونية) للمجتمع.

دعا الرسل و الأنبياء إلى الحميمية في التعامل والصداقة النزيهة والجيرة وهذا هو التعبير الحقيقي عن المجتمعية من حيث الجوهر. ودعا الأنبياء إلى زرع الأشجار والرفق بالحيوانات وعدم تلويث الطبيعة، وهذا تعبير واضح عن السياسة الإيكولوجية الاجتماعية. كما دعا كل الرسل والأنبياء إلى الكدح والجهد وعدم التطفل وهذا يعني بأنهم كانوا مع العمل والإنتاج وضد الاستغلال والبطالة، وهذه هي السياسة الاقتصادية و الإنتاجية العاملة للمجتمع. دعا الأنبياء إلى عدم التكبر بل التمتع بالتواضع وهذا تعبير عن المساواة بين الناس على اختلاف خصوصياتهم. دعا كل الرسل والأنبياء إلى عدم الانصياع لأوامر الفراعنة والنماردة والملوك وهذا تعبير عن التمسك بحرية الإنسان. دعا الرسل إلى الشورى واللجوء إلى الحوار والصلح وهذا هو أسطع تعبير عن الديمقراطية الاجتماعية. عندما أشار الأنبياء والرسل إلى أن الإنسان مخلوق على صورة آدم وآدم مخلوق على صورة الرب فهذا يعني بأنهم استوعبوا الإنسان كأعظم قيمة وكمحصلة كل القيم الكونية من الناحية المادية والمعنوية معاً.

الدين كتعبير عن الجانب الروحي والمعنوي والأخلاقي للسياسة الاجتماعية هو في الوقت نفسه أحد المناهج الثقافية للإدارة الاجتماعية. ولكن بعد ظهور المدينة والطبقة والدولة تحول الدين مع مرور الزمن ومع تعاظم السلطة إلى أداة بيد الطبقات والقوى السلطوية التي حاولت دائما وحتى الآن اغتصاب الإدارة الاجتماعية وبالتالي تحويل المجتمعات الإنسانية إلى عبيد. إذا تحولت اليهودية كدين إلى أداة بيد الطبقات الأرستقراطية للقبائل العبرانية من أجل السلطة والسيطرة فإن الصهيونية هي تعبير عن هذه السلطة والهيمنة على الصعيد العالمي والشرق الأوسطي. إذا تحولت المسيحية إلى أداة للتعبير عن السلطة والهيمنة على يد أباطرة روما بعد صراع دامٍ دام حوالي ثلاثمائة سنة بين الإمبراطورية الرومانية والمسيحية الكنسية فإن البروتستانتية والكالفينية تحولتا إلى أداة بيد القوى البرجوازية على الصعيد الأوربي أولاً والعالمي ثانياً. يجب ألا ننسى بأن سيطرة الأوربيين على القارة الأمريكية والأفريقية كانت في البداية عن طريق الإرساليات التي دعت إلى التبشير باسم الدين المسيحي. وإذا تحول الإسلام إلى أداة بيد الأرستقراطية العربية (معاوية ،يزيد) المتمثلة في السلطة الأموية أولاً وبعدها العباسية والفاطمية وبعدها انتقلت إلى يد الطبقات الحاكمة التركية والفارسية فإن السلفية الوهابية السنية المتمثلة في السعودية وتركيا الأردوغانية والشيعوية الفارسية المتعصبة في إيران هي تعبير عن تحويل الدين الإسلامي إلى أداة بيد القوى الظالمة والمهيمنة لفرض العبودية والتخلف والفقر والمذابح على المجتمعات في الشرق الأوسط بشكل خاص وعلى الصعيد العالمي بشكل عام. آخر نسخة مصدقة عن هذا الإسلام السلطوي والمناهض للحقيقة الاجتماعية والإسلام نفسه هي القاعدة والنصرة وداعش وأحرار الشام وحزب أردوغان وسلطات الملالي في إيران والسلفية السعودية.

إن الجهود المبذولة من أجل الوصول إلى صيغة الإسلام الديمقراطي هي نفسها الجهود الحقيقية لإعطاء المعنى الاجتماعي لكلمة الله أو الرب أو الإله. إله المحبة والسلام والأخوة والجمال والأخلاق والطبيعة، بدلاً من إله السلطة والدولة المتمثلة حالياً في الأردوغانية والداعشية والسلفية المتفسخة. بدون تحليل هذه القوى ومدى ألاعيبها في تصفية الجوهر الحقيقي للدين لا يمكن فهم الحقيقة التالية: إن المجتمع أو الإنسان وحده استطاع الوصول إلى إعطاء المعنى للحقيقة الإلهية، لذا لا يمكن الفصل بين المجتمع كتجسيد لأرقى مستوى من التطور الطبيعي وبين الدين والإله كمستوى راقٍ من المعنويات والأمل والسلام والتسامح والمحبة والتعاون. على عكس ذلك فإن آلهة الحرب وسفك الدماء وقطع الرؤوس هم أعداء الرسل والأنبياء من نمرود إلى فرعون وصولاً إلى أردوغان والبغدادي وكل المستبدين والظالمين على وجه الأرض. وبهذا الصدد يقول السيد عبدالله أوجلان ما يلي في كتابه )الفوضى في حضارة الشرق الأوسط والحلول المحتملة(: وبدون القيام بالتحليل السوسيولوجي للميثولوجيا السومرية، التي تشكل دعامة مجمّع آلهة نمرود، لا يمكننا تعريف الثورية الدينية لسيدنا إبراهيم. وبدون تعريفها لا يمكننا إدراك الثورات الدينية لسيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد. ورغم وجود هذا الكم الهائل من الجامعات وكليات فلسفة الإلهيات، ومدارس الإمام الخطيب، ومؤسسات الطرائق والديانات في منطقة الشرق الأوسط إلا أن أيا منها لا تقوم بسلوك فلسفة إلهياتية سوسيولوجية. ذلك أن السِّحْر يَبْطُل إنْ قامت هي بذلك. وحينها «ستسقط القبعة وتنكشف الصلعة ». وسيتبدى أنه تتوارى ظاهرتان في أساس فكرة الإله الواحد، ألا وهما: التعبير عن وحدة القوة في الطبيعة والزعيم والمَلِك الهرميان المتناميان في المجتمع. بمعنى آخر، وبالتطوير المستمر دون كلل أو ملل لأسمى معاني مفهوم المجتمع الحاكم، ومفهوم الطبيعة الحاكمة المرتبط بالمفهوم الأول؛ تم الوصول إلى «الله » ذي الصفات التسع والتسعين. لم يدُر الجدال في هذا الاتجاه أبدا،ً بل وتَسَيَّس الإله، وتَعَسكر أيضا بشكل مباشر، بظهور «حزب الله » في اليوم الحاضر.

محاولات استخدام الدين من قبل الفاشية الجديدة

في الآونة الأخيرة ازداد عدد الأبحاث و الدراسات  حول الإرهاب المتستر وراء الدين المتجسد في داعش والنصرة وأحرار الشام ……..الخ من التنظيمات التي تحاول استخدام الدين لإخفاء وجهها الحقيقي الفاشي والدموي المعادي لكل القيم الإنسانية. حتى وصلت بعض هذه الأبحاث إلى تحقيقات دقيقة حول خصوصيات الشخصية للكوادر القيادية لهذه التنظيمات وأصولها الاجتماعية والفكرية والقوى الإقليمية التي تحتضنها وهناك دراسات أثبتت بأدلة دامغة بأن المخابرات التركية هي التي تدير هذه التنظيمات بشكل مباشر إلى جانب قطر والسعودية تحت غطاء الدفاع عن السنة ضد الشيعة, هذه الأبحاث تؤكد بالصور والأرقام بأن المخابرات التركية تنظم مرور المقاتلين للانضمام إلى داعش عبر مراكز التجنيد المفتوحة في استانبول و عنتاب وأديمان وغيرها من المدن تحت اسم الجمعيات الخيرية و مراكز الإغاثة . كما أن الدعم القطري و السعودي لهذه التنظيمات من الناحية اللوجستية والاستخباراتية هو موضوع بحث في هذه الدراسات. ولكن كل هذه الأبحاث و التحقيقات لم تتجاوز حدود الدلائل التي تهدف إلى إثبات العلاقة المباشرة والتوجيه المباشر بين هذه التنظيمات والقوى الإقليمية التي تقف وراءها. لا شك بأن هذه الأبحاث هامة ولها أهمية سياسية كبيرة في النضال ضد هذه التنظيمات الفاشية الجديدة، ولكن هذه الأبحاث تبقى ناقصة من بعض الجوانب، لأنها لم تتعمق بعد في جذور الأرضية الخصبة لظهور داعش وأخواتها. كما أن الإشارة إلى جذور القاعدة أيضا غير كافية لإيضاح المسألة من كل النواحي على الرغم من أهمية الموضوع من هذا الجانب.

مصطلح الفاشية الجديدة تم الإشارة إليه من قبل القائد آبو عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة أردوغان في عام 2002 حيث قال القائد وقتها في مقابلة مع المحامين «إن حزب العدالة والتنمية هو الفاشية الجديدة » . كما هو معروف بأن الفاشية هي التعبير الدموي الأكثر وحشية عن النظام الرأسمالي العالمي حسب تعبير جورجي ديمتروف وغيره من قواد الاشتراكية العلمية في العالم. وبمعنى آخر هو التقييم السائد للأدبيات الماركسية اللينينية في مرحلة الحرب العالمية الثانية بشكل خاص. لأن النظام الرأسمالي الحداثوي العالمي له وجهان؛ فأحياناً نرى  أحزاباً تنعت نفسها بالاشتراكية الديمقراطية أو حتى بالعمالية وتصعد إلى دفة الحكم عن طريق انتخابات برلمانية تفوح منها رائحة الخداع و الحيلة والديماغوجية في ألمانيا و انكلترا و فرنسا وغيرها من الدول. وأحياناً أخرى نرى حزباً ينعت نفسه بالاشتراكية على شاكلة البعث وما شابه ويصل إلى دفة الحكم مثل صعود هتلر في المرحلة ما بين 1930 _ 1945 . هذه الميدالية ذات الوجهين للنظام الرأسمالي الحداثوي العالمي هي أداة لإنقاذ النظام من الأزمات العميقة التي يعاني منها ليس أكثر، لا شك بأن «الضرورة لها أحكام »، فصعود الأردوغانية وبعدها داعش والنصرة وأحرار الشام كلها تعبير عن هذا الوجه الفاشي الجديد للميدالية في مرحلة دخل فيها النظام أزمة خانقة أكثر عمقاً و تفسخاً من جميع الأزمات الأخرى السابقة. هذه الأزمة ما زالت مستمرة ومتفاقمة وخصوصاً بعد انهيار الاشتراكية المشيدة التي وصلت إلى مرحلة الاصطفاف والانسجام مع النظام الرأسمالي الحداثوي كوجه يساري للميدالية على عكس هتلر كوجه يميني للميدالية، ولكن كلا الوجهين يلتقيان في نقطة واحدة بعد دورانهما مئة وثمانين درجة!!

ما يسمى بالإسلام المعتدل أو بالإسلام السياسي أو الإسلام الراديكالي المتمثل في الأردوغانية والداعشية هو تجسيد الجناح الفاشي اليميني والقوموي للنظام تحت ستار الدين في الشرق الأوسط. لأن الأردوغانية هي الجناح الإسلامي القوموي التركي للاتحاد والترقي كعثمانية جديدة نجحت في تأسيس الدولة التركية القومية في نهاية الحرب العالمية الأولى بمساعدة الإنكليز والفرنسيين والألمان وعلى يد ضباط الجيش العثماني المنتمين إلى الاتحاد والترقي وكجناح متستر بالعلمانية الأوروبية في بداية الأمر. ليس من قبيل الصدفة مقولة هتلر «أتاتورك هو المعلم بالنسبة لي » و ليس من قبيل الصدفة تصريح أردوغان الأخير «إنني أرى تجربة ألمانيا الهتلرية هي المناسبة بالنسبة لنا في نظام الرئاسة « مَن يتخذ مَن مثالاً ونموذجاً له!؟ وليس من قبيل الصدفة تحويل أردوغان إلى رمز للخلافة الإسلامية والصدر الأعظم من قبل أكثرية التنظيمات الفاشية والمتسترة بالإسلام وعلى رأسها داعش والنصرة وأحرار الشام وبعض الطرائق الدينية المشبوهة.

في الوقت الذي كان فيه ممثلو النظام العالمي في ألمانيا وفرنسا وانكلترا يمنعون النشاطات السلمية والديمقراطية الجماهيرية لحزب العمال الكردستاني وحركات التحرر الوطني والحركات الديمقراطية الأخرى في المدن الأوروبية كانوا يفتحون المجال للقاعدة وبعض الطرائق السلفية لكي يعشعشوا وينظموا أنفسهم من كل النواحي في أوروبا والعالم. أكبر مثال على ذلك الطريقة النورجية التركية بقيادة فتح الله غولن، حيث تمكنت هذه الطريقة من فتح أكثر من 180 مدرسة دينية )إسلامية قوموية تركية( في كل أنحاء أوروبا والعالم بدعم مباشر من الإنكليز والأمريكان واللوبي الصهيوني. هكذا تم فتح المجال لظهور الأرضية الخصبة للفاشية الجديدة الأردوغانية والداعشية في الشرق الأوسط. لأن القاعدة لم تعد تفي بالحاجة المطلوبة، حيث تم استخدامها إلى جانب طالبان ضد السوفييت في نهاية السبعينات وحتى بداية التسعينات من القرن الماضي. ولكن المرحلة الجديدة تتطلب تصدير الأزمة بكل عمقها و تفسخها وتجذرها إلى الشرق الأوسط. ولا بد من ظهور فاشية جديدة في مرحلة الحرب العالمية الثالثة كما ظهرت في مرحلة الحرب العالمية الثانية .

الفاشية الجديدة في الشرق الأوسط هي إحدى الإفرازات السياسية والثقافية والفكرية لنظام الحداثة الرأسمالية العالمية. التستر بالدين الإسلامي و خصوصاً المذهب السني لا يغير شيئاً في المعادلة من الناحية الجوهرية لأن الصهيونية أيضاً تتستر بالدين اليهودي ولكنها تمثل الشركات الرأسمالية العالمية بشكل مباشر. بمعنى آخر؛ الأردوغانية والداعشية صعدتا إلى مسرح السياسة والسلطة في الشرق الأوسط بدعم من الشركات الاحتكارية العالمية للحفاظ على مصالحها وتأمينها في المرحلة الجديدة والقرن الجديد. لأن النظام أدرك تماما بأن الأنظمة الإقليمية الموجودة في المنطقة لا تستطيع الوقوف على رجليها كحارس أمين وكشرطي نشيط للنظام. كما أدرك النظام بأن المنطقة في حالة غليان وقد تنفلت الأمور من يديه وتتطور الأوضاع نحو ثورات ديمقراطية حقيقية على يد الجماهير في مرحلة الحرب العالمية الثالثة. لذا شعرت الحداثة الرأسمالية بضرورة توجيه الأزمة بدقة في المنطقة والتخلص من مورثات سايكس-بيكو والحرب العالمية الأولى والثانية وبالتالي تنظيم المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً من جديد حسب مصالحها.

لاشك بأن استخدام الدين )خصوصا الإسلام( من قبل النظام ليس بالأمر الجديد، فهو يمتد إلى مرحلة دخول الإنكليز والفرنسيين إلى المنطقة بعد حملات نابليون 1798-1808. الإنكليز والألمان اعتمدوا على بعض الطرائق الدينية ذات التوجه السلفي-القوموي في تركيا والعالم العربي وكردستان لتنفيذ مخططاتهم الهادفة إلى تأسيس سلطات محلية عميلة على رأس دول المنطقة.

فالمشهد يكاد يبرهن لنا عدم وجود طريقة أو منظمة أو شخصية دينية غير مرتبطة بالدول الإقليمية والنظام العالمي الرأسمالي بشكل مباشر أو غير مباشر.فحتى الإمام خميني الذي دعا إلى محاربة الغرب كان يعيش في حضنهم حتى آخر لحظة قبل مجيئه إلى إيران وسرقة الثورة الشعبية ضد الشاه من الجماهير الثائرة. تكاد تكون سرقة الثورات من إحدى عادات هذا الإسلام السلطوي (المعادي لحقيقة الإسلام نفسه) كما شاهدنا أخيراً في كل من مصر وتونس واليمن وسوريا . فالإخوان بقيادة مرسي كانوا ضد الثورة والمظاهرات المعادية لحكومة مبارك، و لكن بعد انهيار مبارك تقدموا إلى الأمام وعرضوا عضلاتهم وكأنهم هم من قاموا بهذه البطولة!! لا شك بأن أكثرية هذه المنظمات معادية للديمقراطية والتغيير والتجديد وهدفها هو تحريف الثورة عن مسارها وتحويلها إلى ثورة مضادة ليس أكثر. ومما لا شك فيه أيضاً بأن نظام الحداثة رغم تبجحه بالديمقراطية لا يريد أن يرى شرق أوسط ديمقراطي على وجه الكرة الأرضية. الأشكال مختلفة ولكن الأفعال والأهداف واحدة. لأن الأرضية واحدة والذهنية واحدة. الداعشي يلبس مثل الشرقيين، كلابية قصيرة على سروال شرقي، و لكنه يشرب المخدرات ويمارس الاغتصاب و يفجر الآثار ويبيع البشر كأي بضاعة في السوق ويستخدم أحدث تكنولوجيا على الصعيد العسكري والإعلامي ويعيش حياة رأسمالية «أوروبية « في كل فرصة مناسبة ولا يعترف بالمجتمع بل يدعو إلى الليبرالية (الفردية والحرية المزيفة والأنانية )تحت اسم الجهاد. بمعنى آخر لا يوجد فرق بين نمط حياة أحد أمراء داعش وأحد رجال الأعمال الرأسماليين في باريس أو برلين أو واشنطن أو بكين أو موسكو أو استانبول أو أبو ظبي أو دبي أو الرياض أو هولير!! الذهنية واحدة والهدف واحد :السلطة و……السلطة وثم السلطة وما أدراك ما السلطة …..!!الإله عندهم هو الدراهم والنقود، مجردون من أية قيم أخلاقية اجتماعية سواء أكانت شرقية أم غربية ، حتى القيم الإقطاعية البالية معدومة عندهم من ناحية الموازين الاجتماعية للعائلة والعشيرة. اغتصاب الأطفال، التلذذ بالقتل واختراع فنون لقتل الأسرى والمدنيين كلها ممارسات سلطوية –دموية معادية للمجتمع وللدين وللرسل والأنبياء. هذه الممارسات الفاشية الجديدة هي الحداثوية العولمية التي اجتاحت العالم كرياح عاتية مع تطور تكنولوجيا الاتصالات, أبعدت الفئات الشبابية بشكل خاص عن الجذور والهوية والتاريخ والمعنويات والأخلاقيات الاجتماعية العريقة والفلكلور والأرض والكدح والأصالة. وحولتهم إلى هياكل فارغة بعيدة عن الحقيقة الاجتماعية المنتمية إليها، بل حولتهم إلى حثالة والنظام الحداثوي العالمي. هذه هي داعش والنصرة وأحرار الشام. لا يمكن تفسير كل هذه الوحشية والجنون بالدين الإسلامي والمذهب السني وما شابه من التفسيرات والتشريعات السلفية. بل الدين والمذهب هو ستار تكمن وراءه أوساخ وأمراض وزبالة الرأسمالية الحداثوية العالمية التي أسست الدول القوموية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية على شاكلة البعث والصهيونية الكمالية، والآن تريد إصلاحها عبر إعطائها هرمونات ليبرالية. كل هذا أدى إلى ظهور مركب اسمه الداعشية والأردوغانية ومن الناحية الفكرية هذا المركب هو صيغة الدين السلطوي +القوموية. ومن الناحية الاجتماعية هي أكثر الفئات الاجتماعية المتأثرة بالحداثة الرأسمالية التي تعيش بدون جذور وأصول وهوية وخارجة عن المجتمع و كوسموبوليتيكية. ومن الناحية الاقتصادية هي الفئات المتطفلة المنقطعة عن الكدح والتي تعيش على حساب كدح الآخرين والسرقة والاستغلال. ومن الناحية الدينية هي الفئة التي تستخدم الدين كأداة لأغراض سلطوية وأجندات سياسية بأسوأ الأشكال وأكثرها متناقضة مع حقيقة الدين والمذهب نفسه. هتلر أيضاً اعتمد على الفئات الوسطية والبرجوازية الصغيرة وحثالة البروليتارية في ألمانيا. حيث وصفتهم مدرسة فرانكفورت الفلسفية ب »جموع الحيوانات الشقراء » ولكن لا يمكن نعتهم بالحيوانات، لأن الحيوان بريء من هذه الممارسات ضد أبناء قطيعه. الفاشية الجديدة الداعشية تعتمد على جموع الحثالة المهلوسة التي تركض وراء جنون التظاهرات الشوفينية في ملاعب كرة القدم والمهرجانات السلطوية والاحتفالات الفنية التجارية الهيبوب والديسكو وعصابات المافيا التي تتاجر بالمخدرات وأجساد الناس والراكضين وراء متابعة مسلسلات مراد علمدار والمخدوعين بالشعارات القوموية والرموز السلطوية على شاكلة أردوغان وصدام و……. توركيش…و….! بعض من هذه الفئات تتبنى مناهضة الغرب والعلمانية والتمدن الأوروبي بشكل علني ولكنها تعيش نمط حياة رأسمالية حداثوية أكثر من أي إنسان في أوروبا.

ففي سوريا أكثرية الرموز والشخصيات التي انضمت إلى جبهة النصرة وداعش في بداية الأمر هي التي كانت تمارس القمع والإرهاب ضد الشعوب في سوريا مع أجهزة البعث القمعية، أو من العائلات والأوساط التي كانت تستفيد من النظام البعثي في سوريا –كرئيس بلدية أو قائد شرطة أو مدير ناحية أو رئيس مافيا أو ما شابه ذلك … وفي العراق أيضا كانوا يشكلون القاعدة الاجتماعية والعشائرية الأساسية لصدام ، بعض منهم كانوا ضباطاً برتب عالية في الجيش الصدامي الذي كان يمارس المذابح ضد الشعوب العراقية.

أما في كردستان فهم ينتمون إلى الأوساط التي انغمست في الخيانة والعمالة للدول الاستعمارية حتى أنوفهم وينكرون أصلهم جملةً و تفصيلاً، اللهم إلا إذا طلب منهم أسيادهم استعمال انتمائهم الكردي «لغاية في نفس يعقوب .«

هكذا إذاً تتضح معالم اللوحة أمامنا بأن الأردوغانية والداعشية )السياسية منها والعسكرية( :هي وجه العمالة والخيانة والتآمر على تاريخ المنطقة وقيمها الإنسانية، لأنها تمثل الحداثة الرأسمالية بأفظع أشكالها الدموية وبأسوأ أشكالها تفسخاً.

إن أحد الأسباب الأساسية التي ساعدت في تمدد داعش والنصرة وغيرها من التنظيمات في العمق السوري هو غياب معارضة سورية ديمقراطية منظمة ومؤثرة وفاعلة منذ البداية. أما السبب الثاني فهو ظهور مظلة سياسية ودبلوماسية مدعومة تركياً وقطرياً وسعودياً وهوليرياً وأوروبياً تدافع عن هذه المنظمات الفاشية الجديدة لكي تعيق المعارضة الديمقراطية الحقيقية التي ظهرت في روجآفا وتوسعت وتعمقت بعملية الدفاع المشروع والمقاومة الشعبية بقيادة وحدات حماية الشعب ) )ypg ووحدات حماية المرأة ) ypj ( .أما السبب الآخر فهو عدم استيعاب الوضع من قبل الجماهير المنتفضة ضد البعث بشكل كافٍ وخلق نوع من الضبابية والتشويش بواسطة الإعلام البترودولاري الداعشي ) على سبيل المثال : الجزيرة القطرية وروداو الأردوغانية (. وعلى الرغم من كل هذه العوائق استطاعت المعارضة الديمقراطية الحقيقية بقيادة حركة المجتمع الديمقراطي و pyd أن تسلك النهج الصحيح وتكشف الوجه الحقيقي للثورة المضادة وتملأ المدن والساحات والميادين بصوت الثورة الأصيل والحقيقي وذلك من خلال تقديم تضحيات وبطولات تاريخية هزت العالم كما هو الشأن في كوباني .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى