السلطة والإدارة الديمقراطية

  السلطة والإدارة الديمقراطية

عبدالله أوجلان

یتحلى التمییزُ بین الشكلِ السلطويِّ والشكلِ الدیمقراطيِّ شبھِ المستقلِّ في ظاھرةِ الإدارةِ الاجتماعیةِ بأھمیةٍ مصیریةٍ أثناء تحلیلِ القضایا الاجتماعیةِ الأولیة. إذ لا مھربَ من فشلِ كافةِ الحلولِ المُصاغة في حالِ عدمِ التمییزِ والجزمِ بالفوارقِ الجذریةِ الكائنةِ بین برادیغما النموذجَین الإداریَّین. وإذا لمُ تُعَیَّنْ الإدارةُ الاجتماعیةُ نفسُھا بحریة فستتسمرُ كافةُ القضایا الأخرى في آخرِ المآلِ في خضمِّ العُقمِ الإداريِّ لتِفُرَغَ من فحواھا، بل وسیؤدي ذلك إلى ازدیادِ وطأةِ القضایا. وإذا استدعى الأمرُ إعطاءَ مثالٍ تاریخيّ فإنّ الاقترابَ الدیكتاتوريَّ السلطويَّ من ظاھرةِ الحُكمِ قد أدى دورَه المُعَیِّنَ في إفلاسِ التجربةِ السوفییتیة. وتتوارى الظاھرةُ عینھُا في خلفیةِ الثوراتِ الفاشلةِ أیضاً. فحصیلةَ عجزِ تلك السلطويّ، إما أنھا تَسَلمََّت السلطةَ الثوراتِ عن الانقطاعِ بأيِّ شكلٍ من الأشكال عن مفھومِ الحُكمِ ففَسُدَت وماعَت، أو أنھا دَحَضَت ظاھرةَ الحُكمِ والإدارةِ كلیاً فانزلقَت صوبَ الفوضویةِ الفردیة لتُصَیِّرَ الھزیمةَ مآلاً لا مفرَّ منھ. تنبعُ القضیةُ الاجتماعیةُ من اعتداءِ السلطةِ الھرمیةِ والدولتیةِ على ظاھرةِ الإدارة. ذلك أنھ، ومن دونِ تَعَرُّضِ الأخیرةِ للاعتداء، ومن دونِ تحریفِھا وتشویھِھا؛ لا یُمكِنُ للظواھرِ الأخرى المذكورةِ أنْ تتحقق، ولو تحققت، فلن تتخلصَ من أنْ تَكُونَ مؤقتة؛ نظراً لعدمِ التمََّكُّنِ من مَأسَسَةِ القمعِ والاستغلال. بمعنى آخر؛ تتأسسُ آلیاتُ القمعِ والاستغلالِ الشاملیَن على المجتمع بالتناسُبِ طرداً مع مدى تحََقُّقِ اغتصابِ الإدارةِ والتعدي علیھا. وھكذا تختنقُ جمیعُ الظواھرِ الاجتماعیةِ في مستنقعِ القضایا الإشكالیةِ بما یُشبھُ فتحَ صندوقِ باندورا.

الھرميّ، كان سیُواجِھُ القضایا الاجتماعیةَ الداخلیةَ مَ بالحُكمِ الطبیعيِّ الذي تَشَرذَ نظامُ المجتمعِ أیضاً، فضلاً عن القضایا التي تتسببُ بھا الطبیعة. وستزدادُ وطأةُ القضایا طردیا فًي ثنایا الثقافةِ المادیةِ والمعنویةِ للمجتمع. فالنزاعاتُ المحتدمةُ بین الكلاناتِ والعشائر تشُیرُ إلى البنُیةِ الإشكالیة. وما الأفكارُ المیثولوجیةُ المتنافرةُ والمصطلحاتُ الإلھیةُ المختلفةُ البارزةُ في العالمَِ الذھنيِّ في مضمونِھا سوى تعبیر عن القضایا الاجتماعیةِ المتزایدة. بمقدورِنا رصدُ كلِّ ھذه الظواھرِ في المجتمعِ السومريِّ بنحوٍ صاعقٍ ولافتٍ للأنظار. فالحربُ الناشبةُ بین الآلھة لیست في حقیقةِ الأمرِ سوى إشارة إلى تنافُرِ وصِدامِ المصالحِ فیما بین السلالاتِ الھرمیةِ المتصاعدةِ وحُكّامِ دولةِ المدینة. كانت نماذجٌ بدِئیةٌ ومصغَّرةٌ من صراعاتِ السلطة، والاحتكاراتِ الاستغلالیة، والقضایا الاجتماعیةِ للصراعاتِ الجذریةِ الكائنةِ في أرضیةِ التناقضاتِ والمشادّاتِ                            الطبقیةِ بین المدینةِ والریف (البرابرة)؛ كانت ستَتَشَكَّلُ خلالَ عامي 5000-3000 ق.م  في میزوبوتامیا السفلى، – لتَشھَدَھا لاحقاً جمیعُ مجتمعاتِ المدنیة. وكانت ستُجَرَّبُ ھناك أولى الأمثلةِ التي ستَظھرُ فیما بعد إلى المیدانِ من قبیلِ: جمیع أشكالِ النزاعِ والوفاقِ الاجتماعیین، الدولة، الطبقة، المشاحنات الداخلیة والخارجیة في المدینة، والسلام.

إلى جانبِ أنّ الإدارةَ السلطویةَ ھي التي خَرجَت فائزةً من ذاك السیاق، إلا أنّ المجتمعَ لمَ یتخلَّ قط عن رغبتِھ في الإدارةِ الذاتیة، بل صَعَّدَ دوما مًن مطالبِھ في الإدارةِ الذاتیةِ في وجھِ الحُكمِ السلطويّ. علما أًنّ العشائرَ والقبائل، التي ھي أكثرُ أشكالِ المجتمعِ انتشارا فًي التاریخ، قد عاشَت في جوھرِھا الإدارةَ الذاتیة، وفَضَّلتَ أنْ تَكُونَ مجتمعاً رَحّالاً یَتجولُ دوما فًي الجبالِ والبوادي والسھوب على أنْ تَذعنَ وتخنعَ للحُكّامِ السلطویین الغرباء. لقد وَضعَت نصُبَ العینِ المرورَ من الإبادةِ حتى النھایة، ولكنھا لم تتراجعْ عن حقِّھا في الإدارةِ الذاتیةِ كحاجةٍ أولیةٍ للطبیعةِ الاجتماعیة. كانت العشائرُ والقبائلُ تعیشُ وھي مُعَبَّأة بٌالوعيِ العمیقِ المُنتبھِ إلى أنّ التخليَ عن الإدارةِ الذاتیةِ یعني الأسرَ وفقدانَ الھویة. وما الظاھرةُ المسماةُ بمقاومةِ البرابرةِ ضد المدنِ في مضمونِھا سوى حربُ المجتمعِ القَبَليِِّ في سبیلِ صونِ ھویتِھ وعدمِ التخلي عن إدارتِھ الذاتیة. ھذا وبالمستطاعِ ملاحظةُ ھذه الظاھرةِ بنحوٍ واسعِ النطاقِ حتى یومِنا الحاليّ. فالمقاوماتُ والھجماتُ التي واجَھَھا المجتمعُ السومريُّ على یدِ الآرامیین الذین ھم قبائلٌ صحراویة (القبائل العربیة البدئیة) غرباً، وقبائلِ الھوریین (الكرد الأوائل) شمالاً وشرقاً، یَرِدُ ذِكرُھا في اللوحاتِ السومریةِ على شكلِ ملاحم ذات تعابیر لافتة للنظر.

قضیةُ الإدارةِ الذاتیةِ للمجموعاتِ العشائریةِ والقبائلیةِ تتجسدُ في ھیئةِ قضیةِ الدیمقراطیة (وتعني في الیونانیة وتعني إدارة الشعب نفسه بنفسه ) خلال مراحل التحول الى قوم أو مِلةٍّ أو شعب. یتوجب تعریفُ الدیمقراطیةِ بصفتیَن ھامّتَین فیھا: أولاھما؛ احتواؤُھا على التضادِّ مع تَمَأسُسِ وتدوُّلِ السلطةِ المسلطَّةِ على الشعب. ثانیتھُما؛ إضفاؤُھا المزیدَ من التشاركیةِ على الإدارةِ الذاتیةِ المتبقیةِ من المجتمعِ التقلیديّ، ومَأسَسَتُھا لثقافةِ النقاشِ والاجتماعات، مُعَزِّزَةً إیاھا بتأسیسِ نموذجٍ مُصَغَّرٍ من البرلمان. تحَُقِّقُ الإدارةُ الذاتیةُ مشاركةَ جمیعِ الوحداتِ الاجتماعیةِ المعنیةِ بوصفِھا شبھَ استقلالیةٍ دیمقراطیّة، وتُؤَمِّنُ تمأسُسَھا. ھذا ونَعثرُُ في دیمقراطیةِ أثینا على المثالِ الملفتِ للنظرِ في ھذا المضمارِ أیضاً باقتفاءِ أثَرِ الوثائقِ المدونة. لا تعُتَبَرُ دیمقراطیةُ أثینا دیمقراطیةً تامة كونَھا لم تتخطَّ العبودیة. لكنھا لا تُعَدُّ دولةً أیضا،ً كونَھا لمَ تَقبَلْ التدوُّلَ الذي في نموذجِ إسبارطة. ھذا المثالُ اللافتُ للانتباهِ على صعیدِ الانتقالِ من الدیمقراطیةِ التامةِ نحو الدولة یَمُدُّنا بالعدیدِ من العِبَرِ التي تَسري على یومِنا أیضاً بشأنِ الدیمقراطیةِ الحقة. فالدیمقراطیةُ المباشرة، أي انتخابُ الإدارةِ بالانتخاباتِ السنویة، وعدمُ امتلاكِ المنتَخَبین أیةَ امتیازاتِ تَفَوُّقٍ على الحَول، وظاھرة الإدارةِ المؤتمِرةِ بالدیمقراطیة، وثقافةُ الاجتماعاتِ التي تُؤَمِّنُ مشاركةَ المواطنین في النقاشاتِ السیاسیة، وبالتالي تحَُقِّقُ تعبئتَھم بالتدریب؛ كلُّ ذلك قِیَمٌ متبقیةٌ من إرثِ دیمقراطیةِ أثینا إلى راھننا. ھذا ولا ریب في وجودِ ثقافاتٍ دیمقراطیةٍ مثیلةٍ شَھِدَتھا المجموعاتُ الأخرى، ولكنھا لمَ تُسكَبْ حِبرا عًلى ورق.

التجاربُ التاریخیةُ التي سعَینا إلى دعمِھا بالأمثلةِ الموجزة تَبسطُ للعَیانِ فوارقَ ظاھرةِ الإدارةِ الذاتیةِ والدیمقراطیة، ومدى انتشارِھا. حیث تعَُرِّف نفسَھا كشكلٍ إداريٍّ لا یتحولُ إلى سلطة، وبالتالي لا یُمھِّدُ السبیلَ أمام القضایا الاجتماعیة، ولا یفتحُ المجالَ أمام ولادةِ القمعِ والاستغلال. من ھنا، فإضفاءُ الشفافیةِ والصفاءِ دوماً على تلك المزایا الأساسیةِ للدیمقراطیةِ أو شبھِ الاستقلالیةِ الدیمقراطیّة، وعدمُ التخلي عنھا في وجھِ فسادِ ورعونةِ الحُكمِ السلطويّ إنما یتسمُ بعظیمِ الأھمیة. فتصییرُ الدیمقراطیةِ قناعاً لشرعنةِ السلطةِ أو الدولة ھو أفظعُ سیئةٍ سترُتَكَبُ بحقِّھا، إذ ینبغي عدم مطابَقةِ الدیمقراطیاتِ مع السلطةِ أو الدولةِ قطعیاً. وخَلطٌ من ھذا القبیلِ سوفیعني استفحالَ القضایا الاجتماعیةِ لدرجةِ عجزِھا عن إیجادِ الحلِّ بأيِّ حالٍ من الأحوال. إنّ الدیمقراطیاتِ التي تحُافظُ دوماً على حیویةِ وانتعاشِ الوعيِ السیاسيِّ والیقظةِ الأخلاقیةِ لدى المجتمعات ھي ساحةُ الحلِّ الحقیقيِّ للقضایا النابعةِ من السلطةِ والدولة. حیث لمَ نَشھَدْ بتاتاً نُظُماً أخرى أبَدَت قُدرتَھا على حلِّ القضایا الاجتماعیةِ دون اللجوءِ إلى الحرب، بقدرِ ما ھي الدیمقراطیة. أما عندما تتعرضُ سلامةُ المجتمعِ وأمنُھ لخطرٍ قاتلٍ على یدِ السلطةِ والدولة فحینھا تَخوضُ الدیمقراطیةُ الحربَ بحماسٍ وعنفوان، ولا تَخسَرُ فیھا بسھولة.

الخطرُ الأكبرُ الذي یُھدِّدُ الدیمقراطیاتِ والإداراتِ شبھَ المستقلةِ في عصرِ الحداثةِ الرأسمالیة یأتي من السلطاتِ الدولتیةِ القومیة. فالدولةُ القومیةُ التي كثیراً ما تمَُوِّهُ نفسَھا بسِتارِ الدیمقراطیة، تُرَسِّخُ المركزیةَ الأكثرَ صرامةً، قاضیةً في الإدارةِ الذاتیة. وتعَملُ المجتمعِ بذلك كلیاً على حقِّ الھیمنةُ الأیدیولوجیةُ اللیبرالیةُ على إقناعِ الحَولِ بكونِ مزیةِ عصرُ » الدولةِ القومیةِ تلك في التضادِّ مع الدیمقراطیةِ ھي وتُسَمّي دحضَ وتفنیدَ الدیمقراطیةِ من قِبَلِ ،« الدیمقراطیة لذا، فالقضیةُ .« الدیمقراطيّ نصرُ النظامِ » الدولةِ القومیةِ بأنھ الحقیقیةُ للدیمقراطیاتِ إزاءَ الحداثةِ الرأسمالیة، ھي عرضُھا فوارقَھا التي تُمَیِّزُھا، وعدم التخلي عن خصائصِھا التي تتطلبُ المشارَكةَ والسیرورة. ما من قضیةٍ اجتماعیةٍ لا تقدرُ الدیمقراطیاتُ على حلھِّا، ما دامَت لا تفرضُ ھیمنةُ السلطةِ والدولة.

یكمنُ الدافعُ الأساسيُّ وراء إفلاسِ الاشتراكیةِ المشیدةِ في شروعِھا بحلِّ قضیةِ السلطةِ والدولةِ عن طریقِ إنشاءِ سلطةٍ ودولةٍ مضادَّتیَن. حیث لمَ تَحسبْ حسابَ أنّ الدولةَ والسلطةَ رأسُ مالٍ متراكم، وأنھَّما ستؤَُولان إلى رأسِ المالِ والرأسمالیةِ كلما ازدادتا فعالیةً؛ بل عانت عمىً نظریاً جاداً في ھذا الموضوع. وبینما ظَنَّت الاشتراكیةُ المشیدةُ أنھا ستَصِلُ الشیوعیةَ بتضخیمِ الدولتیةِ القومیةِ المركزیةِ بما یَزیدُ على أمثلتِھا اللیبرالیةِ الكلاسیكیةِ أضعافا مًضاعَفة، فقد باتت وجھاً لوجھٍ أمام أكثر الكیاناتِ الرأسمالیةً وحشیةً وترویعا.ً من ھنا، فتجاربُ الاشتراكیةُ المشيدة غدت من أهم النتائج  التي تدلُّ على استحالةِ تحقیقِ الاشتراكیةِ من دونِ دیمقراطیة. قضایا المجتمعِ المدنيِّ والإداراتِ المحلیةِ وحقوقِ الإنسانِ وحقوقِ الأقلیات، وكذلك جمیعُ القضایا القومیةِ الكلاسیكیةِ الرائجةِ في راھننا إنما تنبعُ من قمعِ الدولةِ القومیةِ المركزیةِ للدیمقراطیةِ والإداراتِ الذاتیة. بالتالي، فولوجُ ھذه القضایا على دربِ الحلِّ أیضاً غیرُ ممكنٍ إلا بالتغلبِ على أرضیةِ اغتصابِ الحقوق، والتي رَصَفَتھا الدولةُ القومیة. وما الطابعُ الفیدراليُّ للولایاتِ المتحدةِ الأمریكیةِ من جھة، وتطویرُ الاتحادِ الأوروبيِّ لنفسِھ من الجھةِ الثانیةِ تأسیسا عًلى إعادةِ إلى المجتمعِ الدیمقراطیةِ المَسلوبةِ ونقَلِھا شیئاً فشیئاً القِیَمِ المدنيِّ والأفرادِ والأقلیاتِ والإداراتِ المحلیة؛ ما ذلك سوى إشارة إلى أنھا تخلتَّ عن النظریاتِ والتكتیكاتِ الدولتیةِ القومیةِ التي دامَت ثلاثةَ قرونٍ بأكملِھا. ذلك أنّ ھذا السیاقَ الممتدَّ ثلاثةَ قرونٍ بحالِھا قد أفسَحَ السبیلَ أمام حروبٍ ونھبٍ وسلبٍ واستعمارٍ وإبادات وعملیاتِ صھرٍ لا نظیرَ لھا في أیةِ مرحلةٍ من التاریخ. من ھنا، فمثالُ الاتحادِ الأوروبيِّ خطوةٌ تاریخیةٌ على دربِ العودةِ إلى الدیمقراطیةِ ولو بحدود. ومثلما لوحِظَ في مثالِ الدولةِ القومیةِ تماماً، ترجحُ مِ وشعوبھِ لھذا النموذجِ المنفتحِ كفةُ احتمالِ تشاطُرِ دولِ العالَ على الدیمقراطیةِ رویدا رًویدا.ً ولكن، یَبدو وكأنّ الدیمقراطیةَ الرادیكالیةَ ستتنامى أساسا فًي القاراتِ الأخرى من العالمَ. فتجربةُ أمریكا اللاتینیة، مواقفُ بلدانِ الاشتراكیةِ المشیدةِ القدیمة، واقعُ الھند، بل وحتى واقعُ أفریقیا؛ كلُّ ذلك یَبسطُ للعَیان أھمیةَ الدمقرطةِ بنحوٍ متزایدٍ یوماً بعدَ یوم، ویَدفع بعجلةِ التطورِ في ھذا الاتجاه.

الفوضى العارمةُ المُستشریةُ في البلدانِ والمناطقِ الأُمِّ للمدنیةِ المركزیة تظُھِرُ للوسطِ حقیقةَ إفلاسِ الدولتیةِ القومیةِ وتشاطُرِ السلطة بكلِّ نواحیھا وبكلِّ سطوعِھا. فھذه الفوضى أسَقَطَت كافةَ أقنعةِ الدولتیاتِ القومیةِ في فلسطین – إسرائیل والعراق وأفغانستان، وأقنعةِ السلطویةِ التي ترتكزُ بجذورِھا على أرقى أنواعِ الھرمیات؛ وجَزَمَت بكونھِما تُشَكِّلان المصدرَ الأوليَّ للقضایا، وبَسَطَت للمَلأِ ومن جمیعِ النواحي أنّ العنفَ والإرھابَ والحروبَ والمجازرَ التي لا تَعرفُ حدودا تًتغذى على ھذا المصدر. لقد بُرھِنَ كفایةً أنّ الدولتیةَ القومیةَ ومشاطَرةَ السلطةِ لا كفاءة تمتلكانھا سوى ضرب صاحبھِما ونَحرِه كما آلةُ البمَْرَنْغ .

في ھذه الأجواءِ تَظھرُ للوسطِ قوةُ الحلِّ لدى الدیمقراطیةِ الرادیكالیةِ والكونفدرالیةِ الدیمقراطیة. أي أنّ أراضيَ كردستان التي شَكَّلتَ مَھدا لًبزوغِ فجرِ الحضارةِ ماضیاً تُشَكِّلُ ھذه المَرّةَ مَھدا لًبزوغِ فجرِ الكونفدرالیةِ الدیمقراطیةِ والدیمقراطیةِ الرادیكالیةِ والحقیقیة. ثمة قاعدةٌ في الطبیعةِ مفادُھا: كلُّ شيءٍ ینمو مجدَّدا عًلى جذرِه. ویلَوحُ أنّ الدیمقراطیةَ أیضا سًتُحَقِّقُ ولادتَھا كاملةً وبنجاحٍ على جذورِھا المخفیةِ في الثورةِ النیولیتیة. كما ویَبدو أنّ بمقدورِ ھذا المَھدِ، الذي لا تَبرَحُ تَلحقُ بھ ضرباتُ المدنیاتِ المھیمنةِ المركزیةِ جمعاء، أنْ یَعتَنيَ بمَولودتِھ الدیمقراطیةِ أیضا.ً أي أنّ ھذه الأراضيَ والجبالَ، التي خَسرَت منذ أَمَدٍ غابرٍ قوتَھا في الإدارةِ الذاتیةِ ومھارَتَھا في كینونةِ المجتمعِ السیاسيِّ من « الكورتیین » والأخلاقيّ، قد تَكُونُ شاھدا عًلى نھوضِ المَھدِ وبدِئھِم بالمسیرِ مرةً ثانیة. كلُّ شيءٍ في ثقافةِ الشرقِ الأوسطِ أشَبَھُ بالأوعیةِ المتلاصقة. فالحقیقةُ الاجتماعیةُ التي أثَبَتتَ جدارتَھا في میدانٍ ما تتسمُ بمیزةِ الانتشارِ بسرعةٍ ملحوظةٍ في المیادینِ الأخرى أیضا.ً غدا الإسلامُ نظاماً عالمیاً في غضونِ فترةٍ وجیزةٍ تُقارِبُ الثلاثین عاما لًا غیر. وقضیةٌ صغیرة كٌفلسطین، كأنھا تَأسِرُ المنطقةَ بِرِمّتِھا سنواتٍ عدیدة. أما الدیمقراطیةُ الحقة، وشبھُ الاستقلالِ الدیمقراطيّ، والكونفدرالیةُ الدیمقراطیة، والعصرانیةُ الدیمقراطیةُ التي ھي تعبیرٌ ممَنھَجٌ عن جمیعِ ھذه الظواھرِ التي بَلغَت مرتبةً تُؤَھِّلُھا للتعاظم ِ ولتحقیقِ انطلاقتِھا في مَھدِ الحضارةِ وأثناءَ بزوغِ  فجرِ كردستان؛ قد باشَرَت أداءَ دورِھا بوصفِھا بدیلاً منیعاً في وجھِ الحداثةِ الرأسمالیة. ذلك أنّ العصرانیةَ الدیمقراطیةَ بمثابةِ نجمٍ یزدادُ عُلوُّا وًتألُّقاً تجاه ذاك النظامِ الذي یُثبِتُ إفلاسَھ  یوماً بعدَ یومٍ بدروسٍ ملیئةٍ بالعِبَر.

المشكلةُ الأساسیةُ التي ینبغي حلُّھا في العلاقاتِ بین السلطةِ والدولةِ وشبھِ الاستقلالیةِ الدیمقراطیة ھي ما یتعلقُ بقدرةِ كلٍّ منھا في الحفاظِ على الفوارقِ التي تُمَیِّزُھا عن غیرِھا، وترتیبِھا حسبَ الأولویات. وبمعنى آخر، ھي كیفیةُ قدرتِھا على حلِّ قضیةِ السلامِ الاجتماعيّ. إذ نَرصدُ من خلالِ الأمثلةِ التاریخیةِ والراھنةِ أنّ مواقفَ إفناءِ بعضِھا البعضِكلیا لًا تؤدي إلى تحوُّلِ سلطةِ الدولةِ لوحشٍ (لویاثانٍ) اجتماعيّ، وإلى استمرارِ سیاقِ الفوضى العارمةِ مع تجذُّرِه طردیا.ً وكلُّ تجربةٍ في الحلِّ ضمن ھذا الإطار تَكتمُ أنفاسَ من العُقمِ السقیمِ أكثر، وتَستھلكُھ أكثر. ھكذا، لمَ یتبقَّ المجتمعِ سوى بشریة منحصرة في قوالبِ الاستھلاك، ومُتَنَمِّلة تحت نیرِ النفوذِ المطلقِ للدولة. وقد تَكَوَّنَ ھذا الواقعُ تماشیاً مع الھجومِ الشاملِ الذي شَنتَّھ الحداثةُ الرأسمالیةُ ضد المجتمع. أما نقاطُ ضعفِ الثوریةِ الخیالیةِ القاصرةِ عن تجاوُزِ السلطویة، فتسََبَّبتَ في تعزیزِ الحداثةِ الرأسمالیةِ أكثر فأكثر.

بمقدورِ حلِّ شبھِ الاستقلالِ الدیمقراطيِّ التغلب على ھذه البنى المتضخمةِ بأسلوبیَن: الأسلوبُ الثوريُّ والأسلوبُ الإصلاحيّ. التجربةُ التاریخیةُ للأسلوبِ الثوريِّ المرتكزِ إلى الھدمِ الكليِّ لبُنى الحداثةِ الرأسمالیةِ عموماً والسلطةِ تَجَسدَت في المزیدِ من ترسیخِ الدولتیةِ القومیةِ خصوصاً الدولتیةِ القومیةِ السلطویة، وعجزَت عن إحرازِ النجاحِ في خلقِ بُنى المجتمعِ المنادیةِ بالدیمقراطیةِ والحریةِ والمساواة. بینما عجزَت الدیمقراطیةُ الإصلاحیةُ أیضا عًن الخلاصِ من الانحلالِ في بوتقةِ الحداثةِ المھیمنة. النتیجةُ التي ینبغي استنباطھا أیاً كان الأسلوبُ المُتَّبَع، ھي أنّ صُلبَ الأمرِ یتمثلُ في المواظبةِ على وضعِ الخَیاراتِ المؤسساتیةِ والعقلیةِ التي ستطَُوِّرُ نظامَ العصرانیةِ الدیمقراطیةِ في الأجندة، وفي تطبیقِھا میدانیا.ً ھذا ویَطغى احتمالُ الجَزمِ بأنْ یُضطرَّ نظاما كِلتا الحداثتیَن على العیشِ سویةً ربما مئاتٍ من السنین، وتطویرِ الحلولِ الدستوریةِ الدیمقراطیة، سواءً ضمن بنیةِ الدولةِ القومیةِ الانفرادیة أم في ثنایا النظامِ العالمَيِّ العابِرِ للقومیات؛ وذلك كي یتمكنَ كِلا النظامَین من تذلیلِ التناقضاتِ وتعزیزِ العلاقاتِ فیما بینھما. وتطوُّرٌ في ھذه الوِجھةِ قد ینقلُ الماضيَ السلبيَّ إلى مستقبلٍ إیجابيّ.

١- الأمة الدیمقراطیة:

كفاحاتُ الأمةِ المتطلعةِ إلى الدولةِ والدولةِ المتطلعةِ إلى الأمة ھي المؤثرُِّ المِحوريُّ في الواقعِ الدمويِّ للعصر. وتحقیقُ مُلاقاةِ الأمةِ مع السلطةِ والدولة ھو المنبعُ العَینُ لقضایا عصرِ الحداثة والتي إذا ما قارنّاھا مع القضایا الناجمةِ من الدولِ الدیكتاتوریةِ والسلالاتیة سنَجِدُ أنّ القضایا في عصرِ الحداثةِ تنبعُ من أمةِ الدولة، وأنّ ھذا الوضعَ یُشَكِّلُ أكبرَ فارقٍ بینھما. فالدولةُ القومیةُ، التي ھي إحدى أشدِّ المواضیعِ تعقیدا فًي علمِ الاجتماع، تُعرَضُوكأنھا عصا سحریةٌ وأداةٌ لحلِّ جمیعِ القضایا المناھِضةِ للحداثة. بینما مضمونا تًجَعَلُ من القضیةِ الاجتماعیةِ الواحدةِ ألَفاً. والسببُ في ذلك یَعودُ إلى تسریبِھا جھازَ السلطةِ حتى أدقِّ الأوعیةِ الشعریةِ للمجتمعات. والسلطةُ بِحَدِّ ذاتِھا تُفرِزُ المشاكل، وتنمُّ عن القمعِ والاستغلالِ كقضایا اجتماعیة نظرا لًطابعِھا الكمونيِّ لرأسِ المال المُنَظَّمِ في ھیئةِ العنف. ذلك أنّ مجتمعَ الأمةِ النمََّطیّةِ الذي تَرمي إلیھ الدولةُ القومیة یُنشِئُ مواطنین مُصطَنَعین ومُزَیَّفین، مشحونین بالعنف، یبَدون متساوین (حقوقیاً كما یُزعَم)، إذ عُمِلَ على مُساواتِھم ببعضِھم بعضاً بِبَترِ جمیعِ أعضاءِ المجتمعِ بِمِنشارِ السلطة. ھذا المواطنُ متساوٍ مع غیرِه حسبَ التعبیرِ القانونيّ، لكنھ یعاني أقصى درجاتِ اللامساواةِ في جمیعِ ميادين الحياة فردا وكيانا  جماعیا.ً

تنظیمُ الحداثةِ الرأسمالیةِ لنفسِھا كدولةٍ قومیة یؤدي دوراً قمعیاً واستغلالیاً أكبر من تنظیمِھا لذاتھِا كاحتكارٍ اقتصاديّ. من ھنا، فالنقصانُ الفادحُ والتحریفُ الأوليُّ للماركسیةِ خصوصاً والسوسیولوجیا عموما یًتجسدان في القصورِ عن رؤیةِ أواصرِ الدولةِ القومیةِ مع القمعِ والاستغلال، أو في تقدیمِ الدولةِ القومیةِ كمؤسسةٍ اعتیادیةٍ جدا فًي البنیةٍ الفوقیة. بتحلیلِ الطبقاتِ ورأسِ المالِ الماديِّ بنحوٍ مستقلٍّ ولدى القیامِ عن الدولةِ القومیة فإنھ یُعَدُّ تعمیماً تجریدیاً أَعشَما وًغیرَ طَرِيٍّ وعاجزا عًن إفرازِ أیةِ نتیجةٍ اجتماعیةٍ مثمرة. وھذا التجریدُ یتخفى وراءَ فشلِ الاشتراكیةِ المشیدة. أو بالأحرى؛ النتائجُ المرتبطةُ بھذا التجریدِ قد لعبَت دورَھا في فشلِھا.

الذي یَلي تَحَوُّلَ المجتمعِ الأمةُ اصطلاحا ھًي شكلُ الكلاناتِ والعشائرِ وقبائلِ القُربى إلى كیاناتٍ كالقومِ أو الشعبِ أو المِلَّة، والذي غالباً ما یُصَنِّفُ ذاتَھ وفقَ اللغةِ والثقافة. والمجتمعاتُ الوطنیة أوسعُ نطاقا وًأكبرُ حجماً من مجتمعاتِ القبائلِ والأقوام. ولھذا، فھي تجمعاتٌ بشریةٌ تَربطُھا ببعضِھا بعضا رًوابطٌ رخوة. المجتمعُ الوطنيُّ ظاھرةٌ من ظواھرِ عصرِنا بالأكثر. وإذ ما صِیغَ تعریفٌ عامٌّ لھ فبالإمكانِ القولُ إنھ تجََمُّعٌ مِمَّن یتشاطرون ذھنیةً مشتركة. أي أنھ ظاھرة مٌوجودةٌ ذھنیاً. بالتالي، فھو كیانٌ مجردٌ وخیاليّ. وباستطاعتِنا تسمیتھ أیضاً بالأمةِ المُعَرَّفةِ على أساسِ الثقافة. وھذا ھو التعریفُ الصائبُ سوسیولوجیا.ً فبأعمِّ الأشكال، ومن أجلِ التحولِ إلى أمة، یكَفي أنْ یتكوَّنَ عالَمٌ ذھنيٌّ وثقافيٌّ مشترك على الرغمِ من اختلافِ الطبقاتِ أو الجنسِ أو اللونِ أو الأثنیةِ أو حتى اختلافِ جذورِ الأمة. ولزیادةِ تعقیدِ ھذا التعریفِ العامِّ للأمة فإنّ أمةَ الدولة، أمةَ القانون، الأمةَ الاقتصادیة، والأمةَ العسكریةَ (مِلةّ الجیش) وغیرَھا، تعُتَبَرُ تصنیفاتٍ أخرى للمیولِ القومیةِ المُشتقَةِ التي تُحَصِّنُ الأمةَ العامة. وبالمقدورِ تسمیتھا بأممِ القوةِ أیضا.ً ذلك أنّ التحولَ إلى أمةٍ قویةٍ یُعَدُّ غایةً نموذجیةً وأساسیةً للحداثةِ الرأسمالیة، حیث تسُفرُ الأمةُ القویةُ عن امتیازاتِ رأسِ المالِ والسوقِ الواسعةِ وفُرَصِ الاستعمارِ والإمبریالیة. بناءً علیھ، فمن الأھمیةِ بمكان عدم النظر إلى ھكذا أممٍ مُحَصَّنةٍ على أنھا النموذجُ الوحیدُ للأمة، بل وینبغي تناولھا بأنھا أممُ القوةِ ھا لمنبعِ الشوفینیة، والأممُ المُسَخَّرةُ لرأسِ المال. وتشكیلُ المشاكلِ والقضایا یُعزى أصلاً إلى سماتِھا ھذه. أما نموذجُ الأمةِ الدیمقراطیة فھو النموذجُ القابلُ للاشتقاقِ من الأمةِ الثقافیة، والذي یَلجمُ القمعَ والاستغلالَ ویدحضُھما. فالأمةُ الدیمقراطیةُ ھي الأمةُ الأدنى إلى الحریةِ والمساواة. وتأسیساً على ھذا التعریف، فھي تشَُكِّلُ مفھومَ الأمةِ المُثلى للمجتمعاتِ الھادفةِ إلى الحریةِ والمساواة.

عدمُ قیامِ الحداثةِ الرأسمالیةِ وعلمِ السوسیولوجیا المُستقى منھا بتناوُلِ صنفِ الأمةِ الدیمقراطیة إنما ھو بِحُكمِ بُنیتِھما وھیمنتِھما الأیدیولوجیة. ذلك أنّ الأمةَ الدیمقراطیةَ ھي تلك الأمةُ التي لا تكتفي بالشراكةِ الذھنیةِ والثقافیةِ فحسب، بل وتُوَحِّدُ كافةَ مُقَوِّماتِھا في ظلِّ المؤسساتِ الدیمقراطیةِ شبھِ المستقلة، وتدُیرُھا. ھذا ھو الجانبُ المُعَیِّنُ فیھا. أي أنّ طرازَ الإدارةِ الدیمقراطیةِ وشبھِ المستقلة ھو الشرطُ الرئیسيُّ في لائحةِ صَیرورةِ الأمةِ الدیمقراطیة. وھي بجانبِھا ھذا بدیلٌ للدولةِ القومیة. فالإدارةُ الدیمقراطیةُ بدلاً من حُكمِ الدولة فرصةٌ عظیمةٌ للحریةِ والمساواة. في حین أنّ السوسیولوجیا اللیبرالیةَ إما أنھا تُطابِقُ الأمةَ أساساً مع دولةٍ مُشادة، أو مع حركةٍ تھَدفُ إلى تشییدِ دولة. وكَونُ حتى الاشتراكیةِ المشیدةِ سارت في ھذا المنحى ھو مؤشرٌ على مدى قوةِ الأیدیولوجیا اللیبرالیة. أما الحداثةُ البدیلةُ في الأمةِ الدیمقراطیة فھي العصرانیةُ الدیمقراطیة. في حین یُشَكِّلُ الاقتصادُ المُطَھَّرُ على التأقلمِ والتناغمِ من الاحتكار، والأیكولوجیا الدالةُ مع الطبیعة، والتقنیةُ الصدیقةُ للطبیعةِ والإنسان؛ یُشَكِّلُ الأرضیةَ المؤسساتیةَ للعصرانیةِ الدیمقراطیة، وبالتالي للأمةِ الدیمقراطیة.

ظاھرتا الوطنِ المشتركِ والسوقِ المشتركةِ المطروحتان كشرطٍ أساسيٍّ للمجتمعاتِ القومیة لا تعُتبََران سمةً مُحَدِّدةً للأمةِ بوصفِھما عاملاً مادیا.ً فمثلاً، وعلى الرغمِ من بقاءِ الیھودِ بلا وطنٍ حقبةً طویلةً من الزمن إلا أنھم عاشوا مدى التاریخِ في كافةِ الأقاصي الثریةِ من المعمورةِ كأمنعِ أمة. ورغمَ عدمِ امتلاكِھم سوقا وًطنیة إلا أنھم عَرِفوا كیف یصبحون الأمةَ الوحیدةَ الأقوى في أسواقِ العالمَِ جمعاء. ما من شكٍّ في أنّ الوطنَ والسوقَ أداتان تحصینیتان منیعتان جدا مًن أجلِ أمةِ الدولة. وقد شُنَّت أكثرُ الحروبِ عدداً في سبیلھِما. فالوطنُ ثمینٌ جداً في التاریخِ وأشدُّھا دمویةً كساحةِ مُلك، والسوقُ نفیسةٌ جدا كًمیدانِ ربح. أما مفھومُ الوطنِ والسوقِ في الأمةِ الدیمقراطیة فھو مغایر. تَنظرُ الأمةُ الدیمقراطیةُ بعینِ التبجیلِ إلى الوطن، لأنھ فرصةٌ عظیمةٌ من اجلِ ذھنیةِ الأمةِ وثقافتِھا، بحیث من المحال التفكیرُ في ذھنیةٍ أو ثقافةٍ لا مكانَ للوطنِ في ذكریاتِھا وذاكرتِھا. ولكن، یجب عدم النسیانِ قطعیا أًنّ مصطلحَ الوطنِ أو البلدِ، الذي أضَفَت الحداثةُ الرأسمالیةُ مسحةً من الفَتَشیّةِ والبُدّیّةِ علیھ، وصَیَّرَتھ متقدما عًلى المجتمعِ مَنزِلةً، یَھدفُ إلى الربحِ والكسب. إذ كلُّ شيءٍ » من المھمِّ أیضا عًدم المغالاةِ في الوطن. فمفھومُ ینبعُ من مفھومِ الأمةِ الفاشیة. والأجدرُ « في سبیلِ الوطن ھو نَذرُ كلِّ شيءٍ في سبیلِ مجتمعٍ حرٍّ وأمةٍ دیمقراطیة. ھذا ومن الضروريِّ عدم إعلاءِ ذلك أیضاً إلى مستوى العبادة. فلبُُّ الأمرِ یكمنُ في تصییرِ الحیاةِ قَیِّمَةً ثمینة. أي أنّ الوطنَ لیس غایة، بل ھو مجردُ وسیلةٍ بالنسبةِ لحیاةِ الأمةِ والفرد. وبینما تَنساقُ أمةُ الدولةِ وراءَ المجتمعِ النمطيّ غالباً ما تتألفُ الأمةُ الدیمقراطیةُ من التجمعاتِ والكیاناتِ المختلفة، وترى اختلافاتِھا مصدرَ غِنى. والحیاةُ بذاتِ عینِھا ممكنةٌ أصلاً بالاختلافِ والتباین. والدولةُ القومیةُ، التي ترُغِمُ على صیرورةِ نمطٍ واحدٍ من المواطنِ وكأنھ خرجَ من مِخرطةٍ واحدة، مُناقِضةٌ للحیاةِ بجانبِھا ھذا أیضا.ً ذلك أنّ ھدفَھا النھائيَّ ھو خلقُ إنسانٍ آليّ. وھي بمَنحاھا ھذا تنساقُ في الحقیقةِ صوب الفناءِ والعَدَم. أما مواطنُ أو عضوُ الأمةِ الدیمقراطیة فمختلف، وینھلُ اختلافَھ ھذا من مختلف التجمعات. وحتى وجودُ العشائرِ والقبائلِ أیضاً یُعَدُّ مصدرَ غنىً بالنسبةِ للأمةِ الدیمقراطیة.

إلى جانبِ كونِ اللغةِ ھامةً دون شكّ بقدرِ الثقافةِ من أجلِ كینونةِ الأمة إلا أنھا لیست شرطا حًتمیا.ً فالتبعیةُ إلى لغاتٍ مختلفةٍ لیست عائقا أًمام الانتماءِ إلى الأمةِ عینِھا. وكما أنھ لا معنى لوجودِ دولةٍ واحدةٍ فقط لكلِّ أمة كذلك لا معنى للاقتصارِ على لغةٍ أو لھجةٍ واحدةٍ من أجلِ كلِّ أمة. من ھنا، وإلى جانبِ ضرورةِ اللغةِ القومیة، لكنھا لیست شرطاً حتمیا لًا مناصّ منھ. بل وبالمستطاعِ النظر إلى تعددِ اللغاتِ واللھجاتِ بعینِ الغِنى بالنسبةِ إلى أمةٍ دیمقراطیة. لكنّ الدولةَ القومیةَ تعَملُ أساساً بإرغامِ اللغةِ الواحدةِ وبمنوالٍ قطعيٍّ صارم، ولا تتُیحُ الفرصةَ یسیرا لًلتعددِ اللغويّ، وخاصةً لتعددِ اللغاتِ الرسمیة. بل تسعى بجانبِھا ھذا إلى الاستفادةِ من امتیازاتِ كینونةِ الأمةِ الحاكمة.

بالوِسعِ الحدیثُ عن أمةِ القانونِ مفھوما وًوِفاقاً في الأجواءِ التي یتعسرُ فیھا النماءُ على الأمةِ الدیمقراطیة، وتَعجزُ الدولةُ القومیةُ ضمنھا عن حلِّ القضایا. وما الحلُّ في حقیقتِھ « المواطَنةِ الدستوریةِ » الذي یعَُبرَُّ عنھ بصیغةِ سوى حلّ مرتكز إلى أمةِ القانون. فالمواطَنةُ القانونیةُ المُحَصَّنةُ بضمانٍ دستوريّ لا تَتَّخذُ من التمییزِ العِرقيِّ أو الأثنيِّ أو القوميِّ أساسا.ً وھكذا خصائص لا توَُلدُِّ الحقوق. وأمةُ القانونِ تصنیفٌ مُتَنامٍ بجانبھِا ھذا. ونخصُّ في ھذا المضمارِ الأممَ الأوروبیةَ التي تنتقلُ تدریجیا مًن الأممِ المِلیّةِ صوبَ أممِ القانون. الأساسُ ھو الإدارةُ شبھُ المستقلةِ في الأممِ الدیمقراطیة، والحقوقُ في أمةِ القانون. أما في الدولةِ القومیة فالمُعَینُِّ ھو حُكمُ السلطة. في حین أنّ نموذجَ الأمةِ وتمأسُسُھا. ذلك أنھا « مِلةّ الجیش » الخطیر ھو ذھنیةُ تحتوي بین طیاتِھا ذھنیةً لا یُطاقُ العیشُ فیھا، ذھنیةً تفرضُ حدَّ الفاشیةِ على الرغمِ ترُغِمُ على الوظائفِ دوما،ً وتصَِلُ من مَظھرِھا الذي یُوحي بأنھا تمَُثلُِّ الأمةَ القویة. أما الأمةُ الاقتصادیة فھي تصنیفٌ قریبٌ من الدولةِ القومیة. مفھومُ الأمةِ ھذا في البلدانِ التي تَعتَرفُ بالدورِ الرئیسيِّ والمِحوريِّ للاقتصادِ كأمریكا والیابان وحتى ألمانیا كان أكثر رسوخاً في أوروبا ماضیا.ً في حین یتعسرُ القولُ بالنجاحِ الملحوظِ لصنفِ الأمةِ الاشتراكیة على الرغمِ من محاولاتِ تجریبھِ. وھو مثالٌ نُصادفُھ قسمیاً في كوبا، ولكنھ شكلٌ اشتراكيٌّ مشیَّدٌ للدولةِ القومیة. أي أنھ شكلٌ تَحلُّ فیھ الدولةُ القومیةُ التي تَطغى علیھا رأسمالیةُ الدولة مَحلَّ الدولةِ القومیةِ التي تَسُودُھا الرأسمالیةُ الخاصة.

الخاصیةُ التي ینبغي توخي الحساسیةِ والدقةِ البالغةِ فیھا لدى وضعِ نظریةِ الأمةِ في الأجندة ھي حقیقةُ تقدیسِ وتألیھِ الأمة. فالحداثةُ الرأسمالیةُ أَنشَأتَ ألوھیةَ الدولةِ القومیةِ بالتحدید بدلاً من المفاھیمِ الدینیةِ والإلھیةِ التقلیدیة. ھذه نقطةٌ جدُّ ھامة. فإذا ما فسَّرنا الأیدیولوجیةَ القومویةَ بكونِھا دینَ الدولةِ القومیة فسنتمكنُ من الإدراكِ أنّ الدولةَ القومیةَ نفسَھا ھي إلھُ ھذا الدین. والدولةُ بالذات شُیِّدَت في عصرِ الحداثةِ بمنوالٍ یَستوعبُ بین طوایاه زُبدةَ كافةِ مصطلحاتِ الألوھیةِ السائدةِ في العصورِ الوسطى، بل وفي العصورِ ما ھي « الدولةِ العلمانیةِ « الأولى أیضا.ً فالظاھرةُ المسماةُ ب إلا تشییدٌ أو تجسیدٌ عینيٌّ لجمیعِ ألوھیاتِ العصورِ الأولى والوسطى، أو ھي خُلاصتُھا كدولة. ویجب عدم الضلالِ أو الانخداعِ في ھذا الموضوعِ بتاتا.ً ولَئِنْ ما نَبَشنا تحت طِلاءِ الدولةِ القومیةِ، علمانیةً كانت أم عصریة، فستظھرُ من تحتھِ الدولةُ الألوھیةُ السائدةُ في العصورِ الوسطى والأولى. إذا،ً ثمة عُرى وثیقةٌ للغایة بین الدولةِ والألوھیة. وبنفسِ المنوالِ ھناك علاقةٌ متینةٌ جدا بًین مُلوكِ العصورِ الأولى والوسطى من جھة ومصطلحِ الإلھِ من الجھةِ الثانیة. ولدى زوالِ تأثیرِ المَلِكِ كشخصٍ عقبَ العصورِ الوسطى، وتَمَأسُسِھ كمَلَكِیات، ثم تَحَوُّلھِ إلى دولةٍ قومیة؛ قد تنحى الإلھُ – المَلكُِ أیضاً عن مكانھِ لإلھِ الدولةِ القومیة. تأسیساً علیھ، فما یتوارى خلفَ تقدیسِ مؤسساتِ الدولةِ القومیةِ أیضاً، وبنحوٍ مشابھٍِ لتقدیسِ مصطلحاتِ الوطنِ والأمةِ والسوق، ھو الھیمنةُ الأیدیولوجیةُ للحداثةِ الرأسمالیة، والتي تُمَكِّنُھا من حصدِ الربحِ الأعظم. ذلك أنھّ بقدرِ ما تضُفي الھیمنةُ الأیدیولوجیةُ طابعا دًینیاً على تلك المصطلحاتِ المعنیةِ بالأمة تستطیعُ بذلك شرعنةَ قانونِ الربحِ الأعظميّ، وتَجعلھُ قیدَ التنفیذ.

الھتافُ بشكلٍ یَصُمُّ الآذانَ بالشعاراتِ والرموزِ الأساسیةِ لغةٌ » ،« عَلمٌَ واحد » للدولةِ القومیةِ في عصرِنا من قبیلِ دولةٌ مركزیةٌ « و ،« دولةٌ واحدة » ،« وطنٌ واحد » ،« واحدة تَحَسُّسُ العیونِ من الأعلامِ ذاتِ الألوانِ المُغایِرةِ ،« واحدیة الذھنيِّ مَنلیثیاً مارداً مِواستصغارُھا إیاھا، تصییرُ العالَ ومَعطوباً، تأجیجُ نعرةِ الشوفینیةِ القومیة والإعلاءُ من شأنِھا لدرجةِ جعلِھا طقوساً وشعائر تُطلقَُ في كلِّ تظاھُرةٍ وخاصةً في الأنشطةِ الریاضیةِ والفنیة؛ كلُّ ذلك یتوجبُ تقییمُھ بأنھ عباداتُ الدینِ القومويّ. في الحقیقة، عباداتُ العصورِ القدیمةِ أیضاً كانت تؤدي الوظیفةَ نفسَھا. المَرامُ الأصلُ ھنا ھو تأمینُ سَرَیانِ منافِعِ احتكاراتِ السلطةِ ورأسِ المال، وتَمریرُھا إما خِفیةً أو بتقدیسِھا وشرعنتِھا. من ھنا، سنستطیعُ استیعابَ حقیقةِ الواقعِ الاجتماعيِّ بنحوٍ سدیدٍ أكثر إذا ما تناوَلنا جمیعَ المواقفِ والممارساتِ الراھنةِ المبالغِةِ والمُوارِیةِ المعنیةِ بالدولةِ القومیةِ مُؤَطَّرةً بھذه البرادیغما الأساسیة.

الأمةُ الدیمقراطیةُ ھي نموذجُ الأمةِ الذي یُعاني أقلِّ قدرٍ من ھذه الأمراضِجمیعا.ً فھي لا تقَُدِّسُ إدارتَھا، لأنّ الإدارةَ مُسَخَّرةٌ في خدمةِ الحیاةِ الیومیةِ كظاھرةٍ شفافة. والجمیعُ مُؤَھَّلٌ لأنْ یَكُونَ موظفاً إداریاً في حالِ تلبیتِھ متطلباتِھا ومقتضیاتِھا. أي أنّ الإدارةَ قَیِّمة لكنھا لیست مقدَّسة. ومفھومُ الھویةِ الوطنیةِ منفتحةِ الأطراف، ولیس كعضویةٍ أو عقیدةٍ دینیةٍ منغلقة، والانتماءُ إلى أمةٍ ما لیس امتیازا وًلا عَیبا.ً حیث یُمكن الانتماء إلى عدةِ أمم. أو بالأصح، قد تُعاشُ قومیاتٌ مختلفةٌ متداخلة. فبمقدورِ الأمةِ الدیمقراطیةِ وأمةِ القانونِ أنْ تعیشا سویةً بكلِّ یُسرٍ في حالِ وِفاقِھما. أما الوطنُ والعَلمَُ واللغة، إلى جانبِ قیمتھِم العالیة، فإنھم لیسوا مقدَّسین.

الوطنِ المشترك واللغاتِ والأعلامِ والعیشُ في ظلِّ تشاطُر المشتركةِ بشكلٍ متداخلٍ على دربِ الصداقةِ بدلَ التضاد لیس ممكناً فحسب، بل ھو في الآنِ عینِھ ضرورةٌ من ضروراتِ حیاةِ المجتمعِ التاریخيّ. من ھنا، فظاھرةُ الأمةِ الدیمقراطیةِ بكلِّ مزایاھا ھذه تأخذُ مكانھَا ومكانتَھا في التاریخِ ثانیةً كبدیلٍ قويٍّ للدولتیةِ القومیةِ التي ھي آلةُ حربٍ طائشةٍ ومُحَفِّزةٍ على التھورِ بِیَدِ الحداثةِ الرأسمالیة.

نموذجُ الأمةِ الدیمقراطیةِ باعتبارِه نموذجا حًلاّلاً یُنعِشُ ثانیةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعیةِ التي مَزَّقَتھا النزعةُ الدولتیةُ القومیةُ إرباً إربا،ً ویُفعِمُ الھویاتِ المتباینةَ بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة. لذا، فانعطافُ أمةُ الدولةِ صوب الأمةِ الدیمقراطیة سیَجلبُ معھ مكاسب عظمى. فنموذجُ الأمةِ الدیمقراطیةِ یتسلحُ بوعيٍ بتطویعِ أولاً اجتماعيٍّ سدیدٍ للقیامِ الإدراكاتِ الاجتماعیةِ المشحونةِ بالعنف، ثم لتصییرِھا إنسانیة (الإنسان العاقل والمفعم بالعواطف والمشاعر، والذي یشعر بالآخرِ ویتقمصُھ عاطفیا)ً. لا ریب أنھ یُحَقِّقُ ذلك بالتحجیمِ البارزِ لعلاقاتِ الاستغلالِ المُطَعَّمةِ بالعنف، ولو أنھ لا یقضي علیھا كلیا.ً وكذلك بإتاحتھِ الفرصةَ لمجتمعٍ أكثر حریةً ومساواة. إنھ لا یؤدي وظیفتھَ ھذه بالاقتصارِ على استتبابِ الأمنِ والسلامِ والسماحِ بین صفوفِھ فقط، بل وبتخطیھ أیضا لًلمواقفِ المُشَرَّبةِ بالقمعِ والاستغلالِ الأخرىخارجیا أًیضاً، وبتحویلھِ المصالحَ المشتركةَ تجاه الأممِ إلى تداؤبٍ وتضافُر. لدى إعادةِ إنشاءِ المؤسساتِ الوطنیةِ والعالمیةِ بناءً على البنیةِ الذھنیةِ والمؤسساتیةِ الأساسیةِ للأمةِ الدیمقراطیة سوف یُدرَكُ أنّ النتائجَ التي ستسُفِرُ عنھا الحداثةُ الجدیدة، أي العصرانیةُ الدیمقراطیة، ستَكُونُ بمثابةِ النھضة، لیس نظریّاً فحسب، بل ومیدانیا أًیضا.ً أي أنّ بدیلَ الحداثةِ الرأسمالیةِ ھو العصرانیةُ الدیمقراطیة، والأمةُ الدیمقراطیةُ الكامنةُ في أساسِھا، والمجتمعُ الاقتصاديُّ والأیكولوجيُّ والسِّلميُّ المنسوجُ داخلَ وخارجَ ثنایا الأمةِ الدیمقراطیة. السبیلُ الصائبُ والأخلاقيُّ والسیاسيُّ على الإطلاقِ للنفاذِ من أزمةِ رأسِ المالِ الماليِّ العالميّ ھو الإنشاءُ السریعُ للأممِ الدیمقراطیةِ الجدیدةِ بمزایاھا الحلاّلةِ بنحوٍ متفوقٍ وخارقٍ، عوضاً عن الدولةِ القومیةِ بذاتِ نفسِھا، والتي باتت جوفاء أو أفُرِغَت من محتواھا راھناً، وعوضا عًن اتحاداتِھا الإقلیمیةِ والعالمیة، وبالأخصِّ ھیئة الأمم المتحدة. وھو إقامةُ الأمةِ الدیمقراطیةِ مقامَ الدولةِ القومیةِ الواحدیة، أو اعتبارُھا حالتَھا المُحَوَّلة. وكذلك تطویرُ النماذجِ الإقلیمیةِ (الاتحاد الأوروبيّ یسیرُ في ھذا المنحى نسبیا)ً والعالمیةِ أیضاً بشكلٍ متداخل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى