تاريخ كردستان في الألف الثاني قبل الميلاد
تاريخ كردستان في الألف الثاني قبل الميلاد
عبدالله شكاكي
مقدمة :
بعد التطور المذهل لعلم الحفريات (أركيولوجيا)، وعلم السلالات (إثنولوجيا)، وعلوم الإنسان (أنثروبولوجيا)، ومن ثم تطور علم الآثار الذي فتح الباب للبحث والدراسة والإطلاع على التراث الإنساني. وبالتالي نشوء علم التاريخ بفروعه المختلفة (الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي)، وبعد قيام المختصين من العلماء بجهود مضنية وإجراء التحريات اللازمة في المواقع الأثرية. شملت أغلب أصقاع الأرض تبين أن المهد الجغرافي والتاريخي لنشوء أقدم الحضارات الإنسانية على وجه الأرض هو ميزوبوتاميا (بلاد الرافدين) بقسميه السفلي المتمثل بالحضارة السومرية والأكادية، والعلوي المتمثل بحضارة الشعوب الجبلية الزاغروسية من كوتية ولوللوية وخورية في الألف الثالث قبل الميلاد ويليها حضارة الشعوب الزاغروسية الآنفة الذكر الممتزجة مع الشعوب الهندو آرية وهي الحضارة الكاشية والخورية الميتانية إضافة إلى الحضارة الآشورية في الألف الثانية قبل الميلاد ومن ثم الحضارة الميدية في الألف الأول قبل الميلاد وتبين ذلك بشكل جلي بعد دخول ميزوبوتاميا مرحلة التدوين في نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد وبسبب فيضانات نهري دجلة والفرات وروافدهما بشكل دوري وما يجلبهما من طمي الذي يكسب التربة خصوبة عالية فقد كانت شعوب ميزوبوتاميا السفلى سباقا إلى التحول نحو الزراعة وحياة الاستقرار وبناء القرى والمدن ومن ثم تشكيل دولة المدينة والابتعاد عن حياة البداوة ومهنة الرعي. ونظراً لحاجة الحضارة المدينية إلى جملة من المواد الأولية اللازمة لبناء أسس الحضارة المادية فقد توجه أنظار حكام مدن ميزوبوتاميا السفلى نحو ميزوبوتاميا العليا وجبال زاغروس وطوروس، وهذا الأمر أدى إلى حدوث مصادمات وأزمة حقيقية بين سومر وأكاد من جهة وسكان زاغروس السلف الأول للكرد، وهذه الأزمة فرضت على الزاغروسيين إنشاء تحالفات واتحادات عشائرية لمواجهة تحديات دول جنوب ميزوبوتاميا، حيث شكلت تلك التحالفات الأرضية اللازمة لتكوين المجتمعات الكوتية واللوللوبية والخورية في الألف الثالثة قبل الميلاد، وكان زمام المبادرة بيد التحالف الكوتي التي قادت تحالفات الشعوب الزاغروسية ووجهت ضربة قاسية إلى الدولة الأكادية، ودمرت عاصمتها نيبور، وأبصرت شعوب زاغروس النور وتذوقوا طعم الحرية، وفتح عصر جديد دعي بالعصر الكوتي، وأقيمت دولة الكوتيين بزعامة القائد الكوتي إنريدا بيزير، ومن ثم فتحت الأبواب لقيام دولة مماثلة لشعب اللوللو باسم دولة خمازي، ودولة أور كيش الخورية.
إن قيام الدول الثلاث كانت بداية دخول أسلاف الكرد إلى النظام الدولتي في الألف الثالث قبل الميلاد، وهذا الإنجاز فتح الطريق أمامهم للقيام بدور تاريخي أعظم مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد. وإذا كانت زمام المبادرة بيد الكوتيين في الألف الثالث قبل الميلاد واستعمل ملوكهم لقب »ملك الجهات الأربع « فإن نجم الخوريين قد صعدت بقوة لاستلام الدور الريادي في الألف الثاني قبل الميلاد على جغرافية عموم كردستان والنصف الشمالي من سوريا حتى البحر المتوسط، إضافة إلى بروز تجمع بشري جديد يتصف بديناميكية سريعة، مكونة من اتحاد قبائل جبلية زاغروسية ممزوجة بعناصر آرية وافدة لتشكل دولة قوية في بابل بعد أن تقضي على سلالة حمورابي وتحكم ميزوبوتاميا ستة قرون باسم دولة (كاردونياش) الكاشية. وسنأتي على قدر من التفصيل حول تاريخ الشعوب الزاغروسية التي شكلت السلف الأول للكرد، وكانت لها دورا حضاريا هاما في الألف الثالث قبل الميلاد واستمرت بشكل أكثر فاعلية في الألف الثاني قبل الميلاد، إضافة الى المجموعات الآرية الوافدة التي اختلطت مع الشعوب الزاغروسية لتشكل السلف الثاني للكرد.
١ – لوللو Lollumiyan
إن اللوللويين الذين تحرروا من الحكم الأكادي إثر سقوط عاصمتهم أكاد بيد الكوتيين، وشكلوا دولتهم حافظوا على استقلالهم السياسي، وأقاموا علاقات سياسية جيدة مع مملكة إيبلا (تل مرديخ جنوب حلب) في وجه طموحات مملكة كيش، ومن ثم اتسعت رقعة المملكة اللوللوبية (خمازي (Xemazî تحت قيادة الملك ساتوني، لكنهم ومع دخولهم الألف الثاني قبل الميلاد تختفي أخبارهم على المسرح السياسي ولم يرد ذكرهم إلا نادرا، لكنهم استقروا بشكل دائم في اقليم زاموا (جنوب كردستان- جم جمال، سليمانية، شهر زور) على شكل حكم ذاتي تحت سيادة الدول التي حكمت المنطقة بعد المرحلة الأكادية، وترد ذكرهم في كتابات الفرعون المصري تحوتمس الثالث بجانب الميتانيين الذين كانوا لهم علاقات قوية مع مصر في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. كما ترد ذكرهم طيلة الألفية الثانية، والجدير ذكره أن التحالف اللوللوبي- الكوتي التي تأسست في الألف الثالث قبل الميلاد لمقاومة الغزوات السومرية والأكادية استمرت لغاية سقوط نينوى ٦١٢ ق.م وتأسيس الامبراطورية الميدية، وأن عددا من ملوك آشور كانوا يحملون ألقابا لوللوبية مثل أداسي، لوباي، بازاي، لوللاي، وذلك قبيل انتشار الثقافة السامية في شمال ميزوبوتاميا.
لكن المكتشفات الأثرية لا تشير إلى ذكر اللوللوبيين في المسرح السياسي الدولي إلا نادراً. حيث يرد في كتابات العاهل الآشوري أدد نيراري الأول ( ١٣٣٠ – ١٢٩٠ ) ق.م بأنه وجه حملة عسكرية إلى شرق بلاده لمحاربة القبائل اللوللوبية، وكذلك يشير شلمانصر الأول ( ١٢٩٠ – ١٢٦٠ ) ق.م في كتاباته بأنه واصل غزوات أبيه وأرغم قبائل اللوللو على الخضوع له ودفع الجزية، ويستمر الغزوات الآشورية في عهد خلفه توكولتي نينورتا الأول ( ١٢٦٠ – ١٢٤٠ ) ق.م لإخضاعهم ومن ثم ينقطع أخبار الهجمات الآشورية على بلاد اللوللو لمدة قرن، ثم يتجدد في عهد العاهل آشور ريش إيشي، ونستنتج بأنهم كانوا يرفضون الخضوع لأية سلطة ولا يقبلون حياة العبودية، ولكن يبدو أن نجمهم قد أفل، لكنهم حافظوا على وجودهم واستقلالهم المحلي تحت أمرة عدد من الملوك منقسمين إلى كيانات صغيرة أو عشائر لكل منها حاكم وإله، حيث يرد في رسالة موجهة إلى ملك شوششارة (حاليا شمشارة- جنوب كردستان) تعبير « الملوك اللوللوبيين »مما يدل على انقسامهم إلى كيانات، ويتكرر ذلك التعبير أيضا في رسائل الملك الآشوري تيغلات بلاسر الأول ( ١١١٤ -1076 )ق.م.
الحياة الاقتصادية اللوللوبية اعتمدت بشكل أساسي على الرعي وتربية الحيوانات، وكان اهمامهم بالزراعة ضئيلا، ولذلك كانت أسواق بيع المنتجات الزراعية خصوصا الحبوب رائجة في بلاد اللوللو، لكن المفارقة أن المكتشفات الأثرية تشير إلى شهرة اللوللوبيين بفن النحت والبناء، فبرز منهم نحاتون ماهرون أبدعوا منحوتات رائعة تم اكتشافها في زهاو ودربندي كاور وشيخان وهورين (جنوب كردستان)، فاستقدم الآشوريون النحاتين اللوللوبيين لتشييد هياكلهم ومنحوتاتهم في مدنهم خصوصا في عهد الملك آشور ناصر بال ( ٨٨٤ – 860 ) ق.م الذي كان أكثر ملوك آشور ولعا بإقامة النصب ونحت التماثيل وحفر النقوش في سبيل رفع شأن مدينته كلخ، إن ظاهرة خروج فنانين ونحاتين من مجتمع رعويليست طبيعية فهي من اختصاصالمجتمع الزراعي المستقر، ويبدو أن اللوللوبيين كانوا مزارعين مهرة أيضا لكن المعلومات عنهم ضئيلة.
٢ – الكوتيون Gotiyan
بعد الانقلاب الذي قاده الذي قاده أوتوخيكال أمير أوروك على نظام الحكم الكوتي في سومر وأكاد واستلام زمام الأمور بعد معارك طاحنة مع قوات الملك تيركان آخر ملك كوتي في سومر، واستشهاد الأخير مع أفراد عائلته حوالي عام ٢١٣٠ ق.م (يحدد جاكوبسون تاريخ المعركة في ٢١ حزيران من عام ٢٤٠٣ ق.م)، انسحب الكوتيون وانتشروا في جهات كردستان والمنطقة المعروفة باسم سوبارتو، وفي الجغرافية التي سميت فيما بعد ببلاد آشور، وذلك اعتبارا من بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وفي نهاية عهد حمورابي ( ١٧٩٢ – ١٧٥٠ )ق.م وتحديدا في عام ١٧٦٠ ق.م قاد حمورابي حملة ضد مساكن الكوتيين في بلاد سوبارتو ونهب ممتلكاتهم، وتبين تفاصيل الغزو من خلال الاكتشافات الأثرية في حوض سد دوكان، وبعد تأسيس النظام الآشوري سجل الملك الآشوري أدد نيراري الأول ( ١٣١٠ – ١٢٨١ )ق.م تقريرا عن انتصاراته على الكوتيين واللوللوبيين والكاشيين ويشير التقرير أن سكان زاغروس ضمن ثلاث مجموعات كانت خاضعة لآشور، ولكن الغريب أن التقرير لم يشر إلى الخوريين، ويشير أدد نيراري في نفس التقرير ايضاً أن والده كان يحكم البلاد الجبلية للكوتيين، ويبدو أن الكوتيين ضمن المجموعات الثلاث كانت الأقوى، ولذلك رفض الكوتيون الخضوع للآشوري المحتل، حيث يسجل أدد نيراري »عقب ذلك نجح الكوتيون الذين يعدون كنجوم السموات ومتضلعين في القتال، تمردوا عليّ وأقاموا العداوة معي « يظهر بين أسماء حكام آشور ألقابا وأسماء كوتية مثل أوشبيا وكيكيا، وهذه إشارة إلى أنهم كانوا يملكون دورا سياسيا،ومن ثم يبدو أن الكوتيين دخلوا في صراع قوي مع الآشوريين، حيث سجل العاهل الآشوري شلمانصّر ( ١٢٨٠ – ١٢٦١ )ق.م في إحدى مدوناته »أن دم الكوتيين يسيل كالمياه من أورارتو حتى كوتموخي (كوماجين) «، ويرد في سجل لخلفه الملك توكولتي نينورتا ( ١٢٦٠ – ١٢٤٠ )ق.م من عام ١٢٥٠ ق.م أن الكوتيين كانوا يسكنون في أطراف نهر الزاب أيضاً وبعد هذه الفترة تتوقف الحملات الآشورية ضد الكوتيين لمدة قرن، ثم تتجدد في عهد الملك آشور- ريش لكن دون جدوى، ويتضح من الرسائل المكتشفة في موقع شمشارة قرب مدينة رانية بوجود مراسلات بين العاهل الآشوري شمشي أدد الأول والحاكم المحلي كواري الخوري الأصل حاكم مدينة شوبات إنليل (تل ليلان – شرق القامشلي) التي كانت العاصمة الصيفية لشمشي أدد، والجدير ذكره أن تل ليلان كانت مدينة عامرة منذ الألف الخامسة قبل الميلاد بدليل وجود فخار المرحلة العبيدية، وكانت مدينة مزدهرة في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد باسم شينة (يعني عامرة بالكردية) وكانت مشهورة بصناعة الخمور وأن غالبية سكانها كانوا خوريين بدليل كثرة الأسماء الخورية ضمن عادياتها، وتفيد رسالة أخرى من نفس الموقع إلى خطورة الكوتيين بسبب تحضيراتهم العسكرية بقيادة الزعيم الكوتي إندوششي في مدينة شيكشاببوم في جهات رانية، ويفهم من تلك الرسائل أن الكوتيين كانوا أقوياء بسبب تحالفهم مع أبناء عمومتهم من اللوللوبيين والخوريين لدرجة طلب العاهل الآشوري عقد اتفاقية سلام مع القائد الكوتي إندوششي، وفي رسالة أخرى يطلب إندوششي من كواري الحاكم المحلي الاشوري والممثل لمدينة شوششارة (شمشارة) »إنني أريد تمثالا لك وآخر لي مصنوعان من الذهب، وعلى الأخ أن يحتضن أخيه « وهنا أيضا يتضح أن كواري ليس آشوريا من اسمه ولأن إندوششي يعتبره أخا له.
يتضح أن الكوتيين لم يتمكنوا من تشكيل دولة متكاملة في الألف الثاني قبل الميلاد، لكنهم وجدوا في أنفسهم القوة ولم يرضخوا أو يستسلموا لأي غازٍ أو محتل، واستمرت مقاوماتهم للغزاة بمفرهم أحيانا وبالتحالف مع أبناء عمومتهم اللوللوبيين والخوريين والكاشيين أحيانا أخرى.
3– الكاشيون Kaşşo- Kassêt- Kaşiyan
تفيد المصادر المكتوبة منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد عن الشعب الكاشي (الكاسيت) بأنهم كانوا القوة الصاعدة الأهم من بين الأقوام الزاغروسية سكان المنطقة الباردة (شماليا- حسب التسمية الأكادية ومنها جاءت مصطلح الشمال)، والذين استقروا فيها منذ الأزمنة السحيقة أقلها بداية الألف الثالث قبل الميلاد وحتى زمن قدوم الاسكندر المكدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وتحديدا في المنطقة المعروفة الآن باسم لورستان في شرق كردستان (إيران)، والتي تقع جنوب شرق بلاد سوبارتو (الموطن الأصلي للشعوب الكوتية واللوللومية والخورية)، وسوبارتو اسم لمنطقة جغرافية وليست تسمية لشعب بعينه، والكاشيون قوم جبلي انتهجوا سبيل الشعوب السوبارية في التحول الاجتماعي حيث شكلوا تحالفا قبليا فيما بينهم وتحولوا إلى شعب في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، ليتمكنوا من ممارسة دورهم إزاء التحولات السياسية التي جرت في ميزوبوتاميا عموما ونتجت عنها تشكيل الدول والامبراطوريات، خصوصا في المرحلة الأكادية التي تبنت سياسة استعمارية في عموم الشرق الأدنى.
وهذه التطورات فتحت الطريق أمام الكاشيين ليأخذوا دورا رياديا في ميزوبوتاميا العليا، وتحديدا في منطقة بابل، ليشكلوا دولة قوية وعصرية واسعة في الألف الثاني قبل الميلاد، باسم مملكة كاردونياش.
والكاشيون يتكلمون لغة خاصة قريبة من اللغة العيلامية، ويعتقد أكثرية العلماء والمؤرخين بأن الكاشيين مزيج من الأقوام الجبلية الزاغروسية والآرية الذين دخلوا إلى ميزوبوتاميا العليابدليل إيمانهم بالآلهة الهندو أوربية مثل ماروتاش (ماروت لدى الشعوب الآرية)، كما يعتقد البعض أنهم قوم جبلي زاغروسي أصيل، لكنهم تأثروا باللغة الآرية من المجموعات الهندو آرية الوافدة اعتبارا من بداية الألف الثاني، وأن اللور الحاليين في شرق كردستان هم بقايا الكاشيين، وإلى اليوم يمتهنون تربية الحيوانات خصوصا الأغنام، ويتكلمون لغة آرية هي اللغة الكرمانجية – اللهجة الفيلية أقدم اللهجات الكردية، ويسكنون على نفس موقع وأرضالكاشيين.
يعتقد أن اِلكاشيين في المرحلة النيوليتية (العصر الحجري الحديث) كانوا يعيشون حياة بدوية أو نصفمستقرة، يعتمدون في معيشتهم على تربية وتدجين الحيوانات وكانوا السباقون في اكتشاف الحصان وتعريفه بشعوب ميزوبوتاميا وسوريا وأوصلوه إلى مصر عن طريق الهكسوس، حيث كان الحصان بمثابة ثورة في تقنية الاتصالات والحروب، كما قاموا باكتشاف عِملية التهجين التي أنتجت البغل الذي يتحمل مشقات عبور الجبال وذلك بتلقيح الفرس من الحمار، إضافة إلى إنتاج النغل بتلقيح الأتان (انثى الحمار) من الحصان، وكانوا يسوقون حيواناتهم صيفا إلى المناطق الباردة في الجبال حيث المراعي الغنية، ويعودون مع قدوم الشتاء إلى الأماكن الدافئة (واستمرت هذه العادة في عموم كردستان حتى وقت قريب)، إن التطور الاقتصاديوالاجتماعي الحاصل أدى إلى تقسيم المجتمع في تقسيم أولي إلى قبائل رعوية وأخرى زراعية، ومن ثم توجه قسم من المزارعين نحو الحرف الصناعية البدائية التي تطورت بشكل ملحوظ، وبرز من بينهم صناع مهرة ومبدعين خصوصا القبائل الشمالية.
ويبدو أن الكاشيين تركوا المجتمع الأمومي في وقت مبكر، ودخلوا طور المجتمع الذكوري (الأبوي) بدليل أن الزوجة كانت تدفن مع زوجها الميت، وذلك حسب ما كشفت عنها التنقيبات الأثرية في (كوي تبه – جنوب كردستان).
التسمية:
وردت التسمية في سجلات أرّبخا (كركوك) على شكل (كوشّو) أو (كوشّو- خاي)، واستنادا على هذه التسمية ذكرت في التوراة بصيغة (كوش)، وذلك بتأثير رجال الدين اليهود الذين مكثوا فترة من الزمن في معتقلات بابل إثر غزوات نبوخذ نصّر لمملكتي يهوذا واسرائيل في القرن السادس قبل الميلاد، وحجز قسم منهم في بابل ونفي الآخرين إلى كردستان، كما ذكرت التسمية في المدونات العيلامية في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد على شكل (كاسّو)، وذكرت في السجلات البابلية على شكل (كاشّو)، وتشير المصطلح كاشّو أو كاسّو في اللغة السومرية بمعنى (الفقير) والكاسيت بمعنى (الشعب الفقير)، وسجلها اليونان أثناء غزوات الاسكندرالمكدوني بصيغة (كوسّاييوي)، لكن أغلب المصطلحات تستند إلى اسم إلههم (كاشّ) .
يعتبر الشعب الكاشي شعب أصيل عاشوا في وطنهم بوئام مع جيرانهم السوباريين، وتعرضت بلادهم مرات عديدة للغزوات من قبل دول المدن في ميزوبوتاميا السفلى مثل أور، أوروك، لكش، وأومّا، إضافة إلى مملكة كيش في ميزوبوتاميا الوسطى حيث تجاوز التطور الاقتصادي حدود دول المدن، لكن الظلم الأكبر ظهرت مع مجيء سركون الأكادي، ومن بعده حمورابي البابلي، وتم استخدامهم كعبيد ولأعمال السخرة، حيث ترد في وثائق بداية الألف الثاني ق م أسماء كاشية عملوا كعبيد وعمال موسميين في مدن ميزوبوتاميا السفلى، ومع قدوم مجموعات القبائل الآرية واختلاطهم مع الشعوب الزاغروسية سكان كردستان القدماء ومنهم الشعب الكاشي، ومع اختلاف الشعبينمن الناحية العرقية واللغوية والثقافية، انصهروا فيما بينهم وتمخضت عنها بروز شعب فتي جديد ذو ديناميكية عالية، فتحررتبلادهم منالسيطرة الأجنبية، وأسسوا بنيان دولتهم، ومن ثم استلموا زمام المبادرة في ميزوبوتاميا السفلى الوسطى، ليشكلوا دولة قوية في بابل دامت ستة قرون، وتعتبر فترة حكم السلالة الكاشية في بابل أطول فترة زمنية قياسا مع فترات حكم السلالات الأخرى في التاريخ البابلي.
ومن الطبيعي أن نعتقد أن الدولة الكاشية الفتية لم تتشكل بسهولة، لكن اصرار الكاشيين للانعتاق واستنشاق نسيم الحرية كان الحافز لخوض غمار حرب ضارية مع النظام الحاكم في بابل، خصوصا في عهد شمشو إيلونا ( ١٧٤٩ – ١٧١٢ ) ق.م خليفة ونجل حمورابي الكبير، لكن الملفت للانتباه أن شمشو إيلونا لم يأت على ذكر الكاشيين إلا مرة واحدة في مدوناته، ويبدو أن العاهل البابلي لم يحسب لهم أية حساب، والمرة الوحيدة الذي ذكرهم كان في السنة التاسعة من حكمه حيث قال أنه انتصر على الشعب الكاشي، وأنه حصّن مدنا كثيرة لردعهم وصدهم عن التغلغل داخل بلاده، لكن نصوصا أخرى تشير إلى وجود مجموعات كبيرة من الشعب الكاشي داخل البلاد البابلية، ولم يكن الثوار الكاشيين بمعزل عن عامة أفراد الشعب، فقد وقف أكثرية الشعب معهم يمدون لهم يد المساعدة بسبب استبداد النظام البابلي، ويستمر الاصطدامات العسكرية في عهد أبي – اشوخ ( ١٧١١ – ١٦٨٤ )ق.م خليفة شمشو إيلونامنذ بداية تسلمه العرش البابلي، ومن ثم يهدأ أجواء الحرب قليلا بين الطرفين على مبدأ استراحة محارب، ويبدو أن العاهل البابلي يئس من الحرب، وأصابه الوهن ولذلك سلك طريقالسلم، ففي رسالة موجهة من أبي – اشوخ إلى تابعه أمير مدينة زيبار يطلب فيها حسن استقبال الوفد الكاشي القادم من بابل وإكرامهم وإهدائهم ثلاثمائة جرة من البيرة، ويستمر المناوشات الحربية بين الكاشيين في عهد العاهل الجديد عمي – ديتانا ومن بعده عمي – صدوقا، لكن الكاشيين رغم تقدمهم الكبير واستيلائهم على مساحات واسعة من أراضي المملكة البابلية، بقي الهدف الأكبر هو السيطرة على العاصمة بابل، وهذا ما حدث في زمن الملك البابلي شمشو- ديتانا ( ١٦٢٤ – ١٥٩٤ )ق.م، عندما جاءت الفرصة السانحة مع قدوم حملة الملك الحثي مور شيلي الأول، وازدياد عدد العناصر الكاشية في البلاد البابلية وتحديدا في قلب العاصمة بابل، ويعتقد أن الهجوم على بابل كان متفقا بين الكاشيين والحثيين، وفي المحصلة ينتهي الهجوم الحثي على بابل ويبدأ السيطرة الكاشية الرسمية عل بابل العاصمة وعموم المملكة البابليةوذلك بعد انسحاب الحملة الحثية، ويتربع على عرش بابل في عام ١٥٩٠ ق.م رسميا الملك الكاشي آكوم كاك ريمي (يعتقد أنه يعني سيف الرحمة) ١٦٠٢)Agum KakRîmî – ١٥٨٥ )ق.مالمشهور باسم آكوم الثاني، وهذه الحادثة ينطبق تماما مع ما حدث في الألف الثالث قبل الميلاد عندما استولى الكوتيون على مدينة نيبور عاصمة نارام سن الأكادي بقيادة القائد الكوتي إنريدا بيزير وما لقي من مساعدة من الشعب السومري والأكادي. بدأ نظام الحكم الكاشي في بابل عام ١٧٦١ ق. م، بقيادة كنداش ١٧٦١)Kandaşş – ١٧٤٦ )ق.م، وكان كنداش الملك الكاشي الأول ومؤسس السلالة البابلية الثالثة، ولقب »ملك بابل، ملك الجهات الأربع، ملك سومر وأكاد ،« وحكم ستة عشر عاما، ثم خلفه في الحكم ابنه آكوم الأول I1745 )Agum – ١٧٢٤ )ق.م، وحكم ٢٢ عاما ثم ابنه كاشتيلياش الأول 3) Kaştîliyaşş I 1723- ١٧٠٢ ) وحكم 22 ، عاما أيضا، ومن بعده أوسي أو أوشّي OSSI ابن كاشتيلياش ( ١٧٠١ – ١٦٩٣ )ق.م حكم ثماني سنوات، ثم ينقطع أخبار تسلسل الملوك حيث لم يعثر على مدونات تغطي الفترة الزمنية بين أعوام ( ١٦٩٣ – ١٦٠٢ ) ق.م، باستثناء اسم ملكين فقط هما أبيرَتّاش Ebîrettaşş ،يعتقد أنه أخ الملك أوشي والثاني يدعى آييرا ناش Ayîrennaşş ، حيث شملت الدولة البابلية مساحات شاسعة من الأرض، كانت حدودها من نهر الفرات غربا وتتجه شرقا لتشمل عموم سلاسل جبال زاغروس، ومن بلاد عيلام جنوبا إلى بلاد سوبارتو شمالا، بعد أن كان مساكنهم الأصلية في أطراف نهر ديالى، وتحديدا في المنطقة المعروفة حاليا باسم الخالص والنهروان في جنوب كردستان، وهذا ما جعل الملوك الكاشيين يتخذون ألقابا فخمة مثل الملوك السومريين والأكاديين من قبيل »ملك الجهات الأربع «، واشتهرت مملكتهم في التاريخ باسم مملكة (كاردونياش Kardoniyaşş ) التي تعني (تسليم النفس إلى الله)، وكان العصر الذهبي للدولة الكاشية في عهد الملك القوي آكوم الثاني ( ١٦٠٢ – ١٥٨٥ ) المشهور لدى الكاشيين باسم (أورشي كوروماش Orşî Koromaşş ) الذي لقب ب «ملك الكاشيين والأكاديين وبابل وملك بادان (على سفوح زاغروس) وهالمان (زهاو) وأشنوناك وكوتيوم «، ووصفه الملك الآشوري باني أبلي ب «الفاتح العظيم «، ثم حكم بعده ثمانية ملوك أو تسعة حكموا عرش بابل مدة خمس وثمانون عاما تمكن العلماء من معرفة اسماء اثنين منهم، وهم كوريكالزو الأول و ماليشيباك الأول، لكن المعلومات عن هذه الفترة ضئيلة جدا بانتظار أن يتمكن علماء الآثار من كشف الستار عن الأعمال التي قام بها هؤلاء الملوك، لكن المحطة الهامة كانت مع جلوس الملك أولام بورياش على العرش البابلي في حدود عام ١٥٠٠ ق.م، الذي قضى نهائيا على السلالة البابلية الثانية التي نشأت في عهد حمورابي وخلفه شمشو إيلونا، وبهذا تمت السيطرة الكاشية الكاملة على ميزوبوتاميا (بلاد الرافدين) السفلى والوسطى، أما في الشمال فقد سلك الكاشيون سبيل السلام والتعايش السلمي مع جيرانهم الآشوريين، وذلك من خلال ابرام معاهدات وتحديد العلاقات واقرار الحدود بينهما خصوصا في عهد العاهلين الكاشي بورنا بورياش والآشوري بوزور آشور الثالث وكذلك بين كرَإينداش وآشور بيل منشيشو في حوالي عام ١٤٢٥ ق.م، وبهذا تقلصت الحروب وسلكت المنطقة درب السلام، ونشير إلى أنه في مرحلة كرَإينداش ظهرت مراسلات عديدة بينه وبين أمينوفس الثالث ( ١٣٩٠ – ١٣٥٢ )ق.م فرعون مصر، وذلك حسبما دلت عليها رسائل تل العمارنة المكتشفة في مصر ضمن خزائن الأرشيف الديبلوماسي لأمينوفس الثالث والرابع، واستمرت المراسلات والعلاقات الطيبة في عهد خلفه كادشمان- إلّيللدرجة عقد مصاهرة ملكية فقد زفت إحدى أخوات كادشمان إلى فرعون مصر.ونشير إلى صعوبة تدوين كرونولوجيا (تسلسل تاريخي) كاملة عن تاريخ كاردونياش وسرد المعلومات في مراحل متعددة، وتضارب التواريخ بين مؤرخيكاشّو لانقطاع الأخبار بسبب ندرة مكتشفات عاديات الكاشيين، لكن المتوفر لدى الآثاريين تفيد بأن ستة وثلاثون ملكاً حكموا كاردونياش، ورتب المؤرخ هيلبريخت قائمة بأسماء الملوك الكاشيين اعتبارا من الملك السابع عشر، وقام ليهمان هاوبت بإجراء بعض التصحيحات عليها وهي كما يلي:
١٧ – كوريكالزو الأول ١٣٧٣ – ١٣٤٨ ق.م، ٢٥ سنة
١٨ – كرَإينداش ١٣٤٨ – ١٣٤٣ ق.م، ٥ سنوات
١٩ – بورنابورياش ١٣٤٣ – ١٣١٨ ق.م، ٢٥ سنة
٢٠ – كرَخارداش ١٣١٨ – ١٣٠٨ ق.م، ١٠ سنوات
٢١ – نازي بوكاش ١٣٠٨ – ١٣٠٧ ق.م، ١ سنة
٢٢ – كوريكالزوالثاني ١٣٠٧ – ١٢٨٤ ق.م، ٢٣ سنة
23- نازي ماروتاش ١٢٨٤ – ١٢٥٨ ق.م، ٢٦ سنة
٢٤ – كادشمان توركو ١٢٥٨ – ١٢٤١ ق.م، ١٧ سنة
٢٥ – كادشمان بورياش ١٢٤١ – ١٢٣٩ ق.م، ٢ سنة
٢٦ – كودور ١٢٣٩ – ١٢٣٣ ق.م، ٦سنوات
٢٧ – ساكاركتي سورياش ١٢٣٣ – ١٢٢٠ ق.م، ١٣ سنة
٢٨ – كاشتيلياش الثالث ١٢٢٠ – ١٢١١ ق.م، ٩سنوات
٢٩ – بيل سوم إيدّينا ١٢١١ – ١٢٠٩ ق.م، ١,٥ سنة
٣٠ – كادشمان خربي ١٢٠٩ – ١٢٠٨ ق.م، ١,٥ سنة
٣١ – أدّو سوم إيدّينا ١٢٠٨ – ١٢٠٢ ق.م، ٦ سنوات
٣٢ – أدّو سوم أشور ١٢٠٢ – ١١٧٢ ق.م، ٣٠ سنة
٣٣ – ميلي شيباك الثاني ١١٧٢ – ١١٥٧ ق.م، ١٥ سنة
٣٤ – مردوخ إبلاإدّينا ١١٥٧ – ١١٤٤ ق.م، ١٣ سنة
٣٥ – زاكاكاسوم إدّينا ١١٤٤ – ١١٤٣ ق.م، ١ سنة
٣٦ – بيل سوم إدّينا ١١٤٣ – ١١٤٠ ق.م، ٣سنوات.
إن إلقاء نظرة سريعة على قائمة ملوك كاردونياش يتبين أن أسماء ستة ملوك في نهاية القائمة هي أسماء سامية جراء التدخل الآشوري في شؤونهم، حيث كانت مملكتهم بجوار المملكة الكاشية، وبدأت التدخلات اعتبارا من عهد بورنا بورياش وذلك بتحريض الآشوريين من قبل أمينوفس الرابع فرعون مصر مع أن بورنا بورياش عقد اتفاقا حول حدود الدولتين وتزوج من موبليطات ابنة آشور أوباليت، ولكن مقتل ابن بورنا بورياش من موبليطاتوحفيد آشور أوباليت من قبل الكاشيين الغيورين تسبب في نشوب الحرب بين المملكتين.
إن نظام الحكم الكاشي في كاردونياش التي دامت حوالي ستة قرون تعتبر أطول فترة زمنية قياسا مع حكم السلالات السابقة، وتميزت بالتحول من أسلوب حكم دول المدن الذي كان سائدا إلى نظام حكم دولة موحدة شاملةلجغرافية محددة شبيهة بالدول الحالية، وكانت السباقة لفكرة العلاقات الديبلوماسية، حيث أقامت علاقات مع نظيرتها دولة مصر، الرسائل الدبلوماسية، حيث اكتشفت في خزائن وبادلت معها تل العمارنة بمصر مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الملوك الكاشيين وفراعنة الأسرة الثامنة عشرة، ومنها رسالة موجهة من آكوم الثاني إلى أمنحوتب الثاني، وتنتهي الرسالة باللقب الملكي »ملك سومر وأكاد، ملك بابل، ملك كاشو، ملك كاردونياش .