أسباب الأزمة في الشرق الأوسط
أسباب الأزمة في الشرق الأوسط
رستم جودي
1- الذھنیة
لن نتطرق إلى الذھنیة كما في السابق، أي وفق نظریة العلوم الاجتماعیة الموضوعیة، على أنھا البنیة الفوقیة ضمن المجتمع لا تؤثر على التطور بشكل جدي وھي انعكاس للوضع المادي والاقتصادي. فالذھنیة صاحبة تأثیر أكبر من ھذا. فمھما تكن علاقتھا بالوضع المادي إلا أنھا تلعب دورا ھًاما وًرئیسیاً في التطور وتغییر الوضع المادي. لھذا السبب فإن القضیة الاقتصادیة والسیاسیة والعدید من النقاط التي تدفع شعوب منطقة الشرق الأوسط إلى معایشة الأزمة مرتبطة بقضیة الذھنیة. لأنھ عند عدم وجود ذھنیة متفتحة وعدم تحلیل الإمكانات المادیة المتعددة المتوفرة في مجتمع ما ضمن إطار ذھنیة علمیة صحیحة حینھا لا یمكن التحدث عن الغنى وتنمیة مستوىالمعیشةضمن ذلك المجتمع. ھذا ھو الوضع الذيتتم معایشتھ الآن. فالشرق الأوسط یملك جغرافیا واسعة والأرضالزراعیة والكوادر الشبابیة والثروات ومن المفترضأن یتجاوز مستوى معیشة الفرد والشخصفي منطقة الشرق الأوسط من الناحیة الاقتصادیة مستوى معیشة الفرد في كندا وسنغافورة وغیرھا من البلدان. إلا أنھ عند النظر إلیھ في یومنا الراھن نرى بأن نصف شعبھ یعیش تحت مستوى الفقر، وھذا لھ علاقة بالذھنیة. فالذھنیة تعمل كموجھ تحدد أفعال الإنسان في المجتمع وحركة المجتمع أكثر من كونھا مصطلحاً مجردا.ً فالتقرب من القیم ومن المسائل المادیة والحیاتیة یتم وفق القوالب الذھنیة التي یختارھا ھذا المجتمع والفرد. أي أنھ لا یمكن التطرق إلى قضیة الذھنیة كسبب بسیط لولادة الفوضى والأزمة في منطقة الشرق الأوسط.
ومن أجل فھم الذھنیة بشكل جید لا بد لنا من التوقف والتركیز على الدوغمائیة.
أ- الدوغمائیة: ھي التقرب المنغلق للمناقشة والمحاكمة والنقد من المسائل أي قبولھا كما ھي. فالدوغمائیة ھي الطریقة المستندة أو الأسلوب المستند إلى الحفظ والنقل ولیس البحث والتفكیر. ولا یستند إلى التحلیل والبحث ولا یمر من اختبار العقل إنما یتخذ الحفظ والقبول والنقل أساسا . لھذا السبب تقوم الدوغمائیة بسد الطریق أمام التغییر. وحیث تشكل الدوغمائیة قضیة جدیة في منطقة الشرق الأوسط یطرح السؤال التالي
نفسھ: ھل الدوغمائیة موجودة فقط في منطقة الشرق الأوسط؟!
بالطبع لا، فھي موجودة في كل مكان، حتى أنھ بإمكاننا أن نكون دوغمائیین إلى سویة ما. أي ربما یكون ھناك حاجة إلیھا في مرحلة معینة. لماذا؟ مثلاً عندما أقوم ببحث یؤدي إلى أن الوضع الراھن لا یعطیني الطمأنینة ولم یعد تقبلھ ممكنا حًینھا سأبذل مساعي ضد الوضع الراھن لتجاوزه، قد تكون تلك المساعيفكریة أو عملیة، وأدعيبأنھاصائبة، لذلكسأبحثعن إثبات لإقناع من حولي. بالطبع یعتبر ھذا إلى حد ما دوغمائیة. ولكن ینبغي أن تفسح أسالیب العمل المجال لتتم إعادة النظر في طریقتنا ومعرفتنا على الدوام، ومقارنة معلوماتنا مع الحالة الراھنة وتقییمھا لمعرفة إن كانت صحیحة أو لا. أي ینبغي إفساح المجال لذلك، لأن الدوغمائیة في بعضالأحیان تصبح صلبة وقویة وتمنعنا من فتح ذاك المجال. ویصبح الشخص الدوغمائي متحفظا وًیتقربمن الأشیاء الموجودة على أنھا غیر موجودة ویصر على موقفھ. بالطبع العلوم الموضوعیة أیضاً دوغمائیة في الغرب. وھذا لیس بشيء حسن إلا أن الدوغمائیة في منطقة الشرق الأوسط فقط لھا ھذه القوة والتأثیر السلبي على المجتمع وتعیق حركتھ وتطوره وكأنھا تعمل جاھدة على إیقافھ في مكانھ. فما ھو مصدر ھذا؟
ھناك بعضالأمور الملفتة في منطقة الشرق الأوسط ویمكن أن تمثل الجانب الإیجابي للمنطقة إلا أنھا في یومنا الراھن تمثل جانبھا السلبي. فما ھي ھذه الأمور؟! كما ھو معروف تعتبر منطقة الشرق الأوسط مكان الولادة الأولى أي ولادة أولى الأشیاء وظھورھا، حیث ولد الفكر والاستقرار والسلطة والدولة والمیثولوجیا والدین فیھا أي أن كلاً من النضال الفكري والنضال العملي برزا ضمن ھذه الجغرافیا لأول مرة. وفي الأساس نلاحظ أنھ لا یمكن رؤیة اختلاف في جوھر الحقوق والریاضیات ومؤسسات الدولة والسلطة والعلوم الطبیعیة في منطقة الشرق الأوسط وبین التي تطورت في أوربا فكلھا ولدت وظھرت في ھذه الجغرافیا. ھذه الولادات لا یمكن استصغارھا أو اعتبارھا ولادات بسیطة. فنحن على سبیل المثال((أي الإنسان الكردي ))لم يكن لنا اي علم أو معرفة حول فكر الاستقلال والحریة، ولم نكن نملك مانیفستو طریق » أیة معلومات عنھ. ولكن الرفاق الذین قرؤوا یرون فیھ كل جدید وكأنھم یرون فیھ الحلقات « ثورة كردستان المفقودة ویشعرون بالطمأنینة والراحة، كما یشعرون بھیجان واندفاع وقشعریرة، ویعتبرون كل شيء فیھ كبشرى. ولھذا السبب تحول إلى أشیاء مقدسة بالنسبة لھم ولا یریدون تجاوزھا لأنھم یرون الحقیقة فیھا. ھذه ھي الحالة نفسھا التي یمر بھا الإنسان الذي خرج من طبیعة الحیاة البدائیة، حیث أن وصولھ إلى معلومات حول تنظیم حیاتھ والوصول إلى الدین والأخلاق والعرف والعادات والمعرفة یعتبر أمرا عًظیما.ً لھذا السبب یتقبلھا بشكل مقدسوتتحول إلى جزء منھ وبالتالي لا یرغبولا یستطیع التخليعنھا. ھذا ھو منبع الدوغمائیة فيالشرقالأوسط لأنھا الأولى. لذلك یمكن القول والجزم بأنھ لا یمكن للدوغمائیة أن تكون قویة بھذا القدر إلا في منطقة الشرق الأوسط. لماذا؟ لأنھا تأتي على شكل نسخ معدلة لاحتوائھا على إمكانیة المناورة وفق ما تتطلبھ المصلحة. حیث یمكن أن نجدھا في المیثولوجیا الشرق أوسطیة والإغریقیة أیضا.ً إلا أن المیثولوجیا الإغریقیة أكثر إنسانیة وتستند إلى قوة الإنسان ویمكن للإنسان إعطاءھا الشكل الذي یتوافق مع ظروف حیاتھ وحتى یمكنھ في بعض الأحیان رفضھا وعدم قبولھا، والتصدي لإرادتھا وفق مصلحتھ إلا أن ھذا غیر ممكن في الشرق الأوسط لأن المیثولوجیا في منطقة الشرق الأوسط تمثل الحقیقة ذاتھا وھي منبع الحقیقة. أي ینبغي أن یكون لكل تصرففي الحیاة تعبیرضمن المیثولوجیا. لذلك فإن المیثولوجیا ھي العلم الأولي الذي استطاع الإنسان من خلالھ التعبیر عن سر الحیاة، الموت والتكون، وحتى الصراع بین الطبقات وظھور السلطات وتدول تلك السلطات في الفترة التي لم تتطور فیھا علوم الریاضیات والفیزیاء والكیمیاء كما في یومنا الراھن. أي أنھ في الفترة التي لم تتطور فیھا الأسالیب العلمیة كانت المیثولوجیا تعبر عن كل شيء. لھذا السببعندما نرید طرح حقیقة ما في یومنا الراھن ینبغي علینا أن نقوم بإعداد دراسة فیزیائیة وكیمیائیة وعلمیة لتكون مرجعیة لنا، وفي الوقت نفسھ من الواجب أن تجد تعبیرا لًھا ضمن المیثولوجیا وأن تثبت صحتھا ضمنھا وإلا فلا یمكنھا أن تعبر عن الحقیقة. لذلك فإن الدوغمائیة في الشرق الأوسط عمیقة جدا وًمتجذرة. وفي وقتنا الحاضر لا یمكن تغییر الدوغمائیة. مثلاً لا یمكن القیام بالإصلاحات عند البابلیین ولا عند الآشوریین ولا عند الأكادیین، إما أن تكون موجودة بشكل مطلق أو أن تتشتت وتنھار. فلا مجال للمناقشة والمحاسبة والبحث والتحلیل والنقد، لماذا؟ لأن تلك الطرق والأسالیب أعطت الإنسان توجیھات الحیاة ونظمت حیاتھ أكثر وأمنت لھ إمكانیات أكثر لاستمراره كالطعام والشراب والحمایة. لذلك اعتبرت شیئاً ثمیناً بالنسبة لھ وتحولت إلى جزء من حیاتھ واندمج مع تلك الحقیقة وتحولت إلى شيء مطلق لا یمكنھ التخلي عنھ. وفي یومنا ھذا جرت محاولاتكثیرة كمحاولات الیساریین وغیرھم لأخذ مكان الدین لكنھم فشلو في ذلك، لماذا؟؟ علینا التطرق إلى الأشیاء ضمن عالمھا المادي ودعمھا بأمثلة من یومنا الراھن. لنفترض أن شخصاً نشأ في إحدى القرى، وھذه القریة لھا فلسفة معینة في الحیاة من حیث القیم، التصرفات، التعامل مع الأھل أو الجیران، وترعرع على قیم قریتھ. وبعد مضي فترة من الزمن غادر ھذا الشخص لمكان آخر وابتعد عن الوسط الذي ترعرع فیھ، فعندما تلقاه مرة أخرى بعد زمن تراه متغیراً وكأنھ أصبح شخصاً آخر، لكن من تبقى في القریة بقوا على حالھم. فما ھو السبب ؟؟؟ في ھذه النقطة توجد إشكالیات كثیرة. نحن نقول إن أولى الأشیاء تطورت في منطقة الشرق الأوسط میزوبوتامیا السفلى وحول النیل في مصر. وحتى قبل ذلك في الھلال الذھبي (زاغروس-طوروس) المنطقة التي تطورت فیھا الثورة النیولوتیة وانتقلت إلى میزوبوتامیا السفلى وتأسست حضارة ھناك. وبعدھا انتشرت ھذه الحضارة. والسؤال الذي یطرح نفسھ ھو: بما أن البدایة كانت من ھنا لماذا فقد الشرق الأوسط المبادرة؟ ومادامت الیونان قد تعلمت منا لمَِ لمَ نتفوق علیھا؟ السبب ھو أن كل شيء محكوم بالقیم التي نشأ علیھا ولا یستطیع الخروج علیھا. لھذا السببفالإنسان الذي نشأ وترعرع في الشرق الأوسط یقوم بالتقلید والحفظ، ویقوم بصون وحمایة النظام الموجود من خلال التدریبات التي یتلقاھا ضمن الدولة والعائلة وبھذا الشكل یكرر نفسھ على الدوام ولا یتطور. أما إذا نظرنا إلیھ من الخارج سوف نجد الكثیر من الأبنیة الجیدة والموسیقا والطب والھندسة والریاضیات وجمیعھا أشیاء مفیدة لكنھا دوما تًكرر نفسھا. فلماذا تكرر ذاتھا؟ لأن ھناك بالإضافة إلى تلك الأشیاء الجیدة والجمیلة ثقافة اجتماعیة تجبر على التكرار، تشكلت بھذا الشكل وحفظت بنفس الشكل ویتم فرض التكرار بنفس الشكل. لذلك فإن من ینظر للأمور من الخارج یستمد منھا الشيء المفید لكنھ غیر محكوم بطراز تلك الحیاة وتقلید تلك التصرفات، ولن یكون مجبرا لًأن یصبح نسخة عنھا. سوف یطبقھا بشكل یتوافق مع خاصیتھ وظروفھ. من الواضح أن العلماء الذین فتحوا الباب لارتفاع مستوى التطور وتجاوز الحضارة الشرق أوسطیة كتالس وفیثاغورث تعلموا الفلك والھندسة والریاضیاتوغیرھا من العلوم الأخرى في بابل ومصر، إلا أنھم لم ینسخوھا كشخصشرق أوسطي إنما طوروھا بشكل یتوافق مع ظروف بلادھم، وطبقوا ما ھو مفید لھم. فھذه الحریة تساھم في أن یتطور الشيء أكثر من أصلھ وجذره. أي مھما كان الجذر شرق أوسطي إلا أنھ حقق تطوراً أكبر في الغرب. كما أن الفرق بین أمریكا وإنكلترا أیضا فًرق ذھني. لقد كانت أمریكا مستعمرة لأوروبا حیث تم اكتشافھا من قبل الأوروبیین. فالأوروبیون ھم الذین استوطنوا فیھا وحكموھا وجعلوھا مستعمرة لھم، ولكننا في یومنا الراھن نرى تفوق أمریكا وحدھا على جمیع القوى العالمیة بغناھا المادي وقوتھا الفكریة والسیاسیة حتى أنھا أقوى من إنكلترا وفرنسا أیضا.ً فما ھو السبب؟! لأن أسالیب ونظریات الحیاة التي اتخذھا الأوروبیون الذین استوطنوا ھناك أساساً لھم لم تعد وفق المقاییس الأوروبیة، إنما تطورت وفق مقاییس أخرى أي وفق تقربات الانجلوبروتستانت الجدید الذي یستند إلى المفھوم الأناني والنفعي الزائد الذي یبحث عن منفعتھ فقط والعثور على إمكانیة العیش والحریة. لھذا السبب استطاعت أمریكا أن تمتلك ھذه السلطة الكبیرة. ھنا یمكن لأي شخصأن یسأل كیف كانت أمریكا مستعمرة لإنكلترا وتمكنتمن امتلاك وتحقیق ھذه السلطة والغنى؟ السبب یكمن في أن الإنسان الأمریكي حین خرج من بلاده لم یخرج فیزیائیاً فقط إنما خرج من الناحیة الروحیة أیضا.ً ولم یتخذ من القیم التي كانت تحكمھ وتقیده في أوروبا أساساً لھ عند خروجھ منھا إنما قام بتحدید حیاتھ بشكل یتوافق مع مصالحھ. في تلك الفترة تم اكتشاف كندا ومكسیكا والأرجنتین والبرازیل وتشیلي. فلماذا لم تحقق ھذه الدول تطوراً كالذي حققتھ الولایات المتحدة الأمریكیة؟ لأن الذھنیة التي تدیر الإنسان الأمریكي ھي ذھنیة الانجلو بروتستانت المستندة إلى القیم الأنانیة والنفعیة التي تجرد الإنسان من المعرفة وتبعده عن العادات والمعارف القدیمة فیتحرك فقط ضمن إطار منفعتھ. وإن طُلب من شخص یوناني أن یتعلم أشیاء من الآشوریین حینھا لن یعیش ھذا الیوناني كالآشوریین إنما سیعیش وفق خاصیتھ لھذا السبب لن یقوم بإضافة ما تعلمھ من الآشوریین لما یعلمھ من قبل، إنما سیحولھ إلى طاقة كبیرة لإحراز تطورات أكبر. لھذا فھو یحرز تطورا كًبیراً بالنسبة للحضارة الشرق أوسطیة یصل إلى سویة الانفجار. أي أنھ بھذا الشكل تحرز الحضارة الغربیة تحولاً وتطورا یًصل إلى مستوى الانفجار مقابل الحضارة الشرق أوسطیة. ھذه النقطة تحوز على أھمیة بالغة، إذ ینبغي علینا التطرق إلى المشكلة في الذھنیة، فما ھي مشكلة الذھنیة أو قضیة الذھنیة؟ أي ھل علینا أن نتطرق إلى الذھنیة بشكل دوغمائي ضمن إطار تقدیس العادات أم نقارن القوالب التي نؤمن بھا والمحفوظة في دماغنا وتصرفاتنا الحیاتیة مع الأمور العملیة على الدوام؟ للأسف نحن نعیش حتى الآن على فقط فإما أن نقوم بتقلید الأشیاء الخارجیة « البصم » منطق الحفظ أو نعیش وفق قوة العادات والأعراف القدیمة. كلا الأمرین لا یحرزان أي تطور ملحوظ. لھذا السبب الذھنیة تحدد كل شيء، حتى الوضع الاقتصادي. فلو قام العرب بقطع إمدادات النفط سیعاني الغرب من أزمة كبیرة. إلا أنھ على الرغم من وجود ھذه الإمكانات الھائلة من الثروات المادیة عندھم لكنھم لا یزالون في منحى الرجعیة. أي أن المصادر المادیة وحدھا لا تكفي لتحقیق التطور، فبالذھنیة الصحیحة نستطیع تحویل الأرضالقاحلة إلى جنة أما الذھنیة الخاطئة فبإمكانھا تحویل الجنة إلى أرض قاحلة. لھذا السبب ھناك ضرورة للتركیز على قضیة الذھنیة. فالقوالب الذھنیة التي تم تحدیدھا بقوة المیثولوجیا والدین ومؤسساتالدولة تشكل عائقا أًمام إحراز التطور والتقدم. وقد كان ھناك محاولات في ھذا الإطار لتجاوز ھذا الوضع إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل.
للنضال الفكري مراحل بعضھا یفتح المجال أمام التقدم ولعب دور إیجابي، وبعضھا یلعب دورا سًلبیا وًیسبب عرقلة التقدم أو یشكل عوائق أمام إحراز التقدم والتطور. بالعودة للمیثولوجیا نرى بأنھا ساھمت بشكل كبیر في تطویر فكر الإنسان والمجتمع، فالدور الذي لعبتھ المیثولوجیا في بدایة ظھورھا أشبھ بالدور الذي تلعبھ الفیزیاء والكیمیاء في حل العدید من القضایا ورفع مستوى التفكیر والمعرفة لدى الإنسان في یومنا الراھن، أي أنھا كانت تسعى للوصول إلى الحقیقة التي یكمن الحل وراءھا، والرد على بعض التساؤلات غیر الواضحة مثل: ما ھو الكون وكیف تشكل؟ كیف خُلق الإنسان؟ العلاقة بین الموت والحیاة؟ الرابطة والعلاقة بین الإنسان والإنسان، وبین الإنسان والطبیعة؟ لھذا السبب تعتبر المیثولوجیا البحث بشكل دقیق عن الحقیقة، حتى أنھا تعبر عن الحقیقة نفسھا في المكان الذي ظھرت فیھ، وتتطرق إلى لغة الإشارة والرموز، كما أنھا تشیر إلى وحدة الحیاة وطبیعتھا، حیث یمكن رؤیة التناغم والانسجام ضمن العلاقة بین الإنسان والحیوان وبین الغابة والحیوانات التي تسكن فیھا. ففي المیثولوجیا یتم إظھار الطبیعة التي تمت الحیاة ضمنھا، حیث تتضح النظریة المستندة إلى وجود الروح في كل شيء بكل سھولة ضمن المیثولوجیا، ویمكن مصادفة ھذه العلاقة بكل سھولة ضمن المیثولوجیا أي كیفیة قدرة الإنسان على فھم لغة الغابة وكیفیة فھم الغابة للإنسان وكیفیة فھم الحیوان والإنسان بعضھما البعض. بلا شك ینبغي ألا یتم إدراك ھذه العلاقة كما ھي موجودة لأنھا في النتیجة مجرد رموز تعبر عن أشیاء، ولیست شیئاً مجردا مًن الحیاة المادیة، إنما تظھر تلك الحیاة المادیة الموجودة على شكل إشارات ورموز، كما أنھا تشیر إلى نضال ومقاومة الإنسان ضد الأزمات التي عانى منھا سواء أكانت ھذه الأزمات طبیعیة أم اجتماعیة، كإشارة السومریین في میثولوجیتھم إلى نضال إنانا في سبیل حقوقھا وقوانینھا، وغیرھا من الأمثلة. وكنتیجة یمكننا أن نصادف بحث ونضال الإنسان المستمر عن الحقوق والحریة والمساواة، لھذا السبب نضال الإنسان من أجل الحریة واستعداده لتقدیم كل نفیس في سیبل الحریة لیس ولید الحاضر ولم تبدعھ الثورات الاشتراكیة ولا ثورات التحرر الوطنیة ولا الثورات الدیمقراطیة التي ولدت في أوروبا وأمریكا في القرنین الثامن عشر والتاسع عشر، إنما ھو بحث مستمر عن الحریة عبر نضال الإنسان المستمر كما یتضح في المیثولوجو المیثولوجیا في الوقت نفسھ تعني تنظم حیاة الفرد وتوضح العلاقات الإنسانیة، وتكمن المشكلة ھنا: عندما یصل الإنسان إلى المستوى الذي یعلم فیھ أنھ لا یستطیع التعبیر عن القضایا التي یعیشھا عبر المیثولوجیا، أو أن المیثولوجیا لم تعد قادرة على وضع صیغة صحیحة للحل، حینھا عوضاً عن تجاوز المیثولوجیا یقوم بوضع حدود لأبحاثھ ویستسلم للأشیاء الموجودة وھذه ھي الدوغمائیة. وھذا ما یحصل في الشرق الأوسط حیث أن الإنسان في ھذه المنطقة یرى الحقائق بأم عینھ ولكنھ یغض النظر عنھا، لماذا؟ لأنھ عندما یرى تلك الحقائق حینھا سیدرك بأن الأشیاء التي یحتفظ بھا في عقلھ خاطئة وھو لا یرید التخلي عنھا لما لھا من قیمة مقدسة عنده. ھذه ھي القضیة الأولى.
أما القضیة الثانیة فھي أن المیثولوجیا لم تكن تعبر عن الفكر الحر فقط كما لم تكن مرشد الإنسان إلى طریق الحل ولم تكن الجواب للقضایا التي یصعب على الإنسان الإجابة عنھا فقط، فھي كانت كذلك خلال مرحلة معینة، إلا أنھا وبعد مضي فترة من الزمن تحولت إلى سلطة، وبتحولھا إلى سلطة بدأت تساھم في ولادة القضایا، مثلا؛ عندما أبديرأیا وً یبديغیريرأیاً آخر ھذا یغني الفكر ویجعلھ منفتحاً أكثر ونتیجة ذاك الغنى والانفتاح یمكننا الوصول إلى الحقیقة بشكل أفضل. إذا لًیس لتعدد الأفكار وتنوعھا أي ضرر. وھنا یطرح السؤال التالي نفسھ: متى یكون للفكر أضرار؟ عندما تندمج السلطة مع الفكر فإنھا تسبب ضررا.ً الفكر المیثولوجي والدیني والعلم الموضوعي في یومنا الراھن یظھر ھذه الحقیقة. لماذا؟ لأن كل نضال فكري یعتقد بأنھ وصل إلى الحقیقة المطلقة ولا یستطیع أحد مناقشتھ حولھا. فعندما لا تكون السلطة في یده یمكن لأي شخصأن یقول لھ إن الأشیاء التي تقولھا لیست صحیحة ویبدي رأیھ حول رؤیتھ للحقیقة وحینھا سیقبل بذلك، ولكن عندما تكون السلطة في یده حینھا سیرد ب لا یجوز لك التفكیر بشكل خاطئ وبشكل مختلف وھذه ھي الحقیقة وسیقوم بفرضتلك الحقیقة على الجمیع عن طریق مؤسسات السلطة ومحاسبة كل من یخرج عنھا بقوانین وقواعد مختلفة. فالمشكلة تظھر من ھذه النقطة. كما أن ظھور وتطور شكل الدولة تم على ھذا الأساس. والسؤال ھنا؛ لمَ ظھرت ھذه المشكلة في الشرق الأوسطدون غیرھا من البلدان على الرغم من وجود المیثولوجیا والفلسفة والدین في الكثیر من البلدان الأخرى؟ ھذا السؤال یدفعنا للتطرق إلى ھذه المسالة مرة أخرى، منطقة الشرق الأوسط منبع ومھد كل شيء، فمثلاً الأدیان التوحیدیة لم تظھر في أوروبا، حیث أن الدیانات المسیحیة والیھودیة والإسلامیة كلھا ظھرت في الشرق الأوسط، ولا یوجد أي فرق جدي بینھا في المسائل الاجتماعیة والأخلاقیة والمعتقدات، فالمصدر واحد، كما أن ھذه الدیانات لا تقوم برفضبعضھا فالإسلام لا یرفض المسیحیة كما أن المسیحیة لا ترفض الیھودیة حیث أن لھما الكتاب المقدسنفسھ ویتم تعریفكل من التوراة والإنجیل بكتاب العھد الجدید والعھد القدیم، أي یتم إبرازھما كمرحلتین. كلھا ولدت في ھذه الجغرافیا وترعرعت فیھا ولكنھا لم تبدأ من الصفر. مثلاً یتم وصف وتعریف كل الكتب السماویة على أنھا أقاویل الرب إلا أن بعض علماء الآثار والمؤرخین اكتشفوا وثائق مكتوبة تحتوي على الأشیاء نفسھا التي أبرزتھا التوراة كقصة الطوفان وغیرھا من الأمور كنشوء الإنسان والتقرب من المرأة وذلك یثبت وجود تلك المعلومات في فترة زمنیة تسبق التاریخ الذي تتخذه التوراة أساسا لًنشوء الإنسان. إذا اًلتطرق إلى الدین بشكل مجرد على أنھ تم من خلال نزول الوحي على الرسول وأنھ لم یكن لھذه المعلومات أي أثر من قبل ولم یكن لأحد علم بھا غیر صحیح. الجمیع كان یعلم أن أولى المعلومات حول الطوفان موجودة في الكتب السماویة ولكن عندما تم اكتشاف ملحمة كلكامش اتضح بأنھا تتطرق إلى قصة الطوفان بشكل أوضح مع العلم أنھ في تلك الفترة لم یكن ھناك وجود لا لنوح ولا لآدم. ھذه السلسلة الفكریة منبعھا ومصدرھا ھذه الجغرافیا، بدأت بالمیثولوجیا وتم إعطاؤھا شكلاً جدیدا مًن خلال الدین وتحولت إلى ھویة للإنسان. من الملاحظ أن كل ما یفھمھ الإنسان الشرق أوسطي ھو الخطاب الدیني، فھو یدركھ بسرعة ولا یعاني من أیة مشاكل في ھذا الخصوص، لھذا السبب لاقت الحركة الیساریة والحركة الاشتراكیة وغیرھا صعوبة بالغة في الوصول لذاك المستوى من الجماھیریة التي حصل علیھا الخطاب الدیني.
النقطة الثانیة؛ كون ھذه الجغرافیا المھد والمنبع لا تتولد فیھا إمكانیات الإصلاح. فمثلاً إن لم أكن أنتمي إلى ھذه المنطقة وترعرعت وفق قیم ثقافیة واجتماعیة أخرى، وأرغب في اعتناق الإسلام كعقیدة لاحتوائھ على أمور تشد انتباھي حینھا، سواء شئت أم أبیت، لن أتطرق للإسلام كما یتطرق لھ أي شخص نشأ في ھذه المنطقة إنما سأتطرق لھ وفق خصوصیتي والظروف والشروط التي كنت أعیش فیھا وبالتالي إمكانیة الإصلاح والتطویر عندي ستتكون ضمن إطار أوسع. أما عندما یتخذ شخصما الدین ھویة لذاتھ فإنھ عندما ترید إجراء بعض الإصلاحات فیھ وتغییره نراه یبدي ردود فعل قویة، ولا یقبل بتلك الإصلاحات والتغییرات، ویتضح ھذا الأمر في الخصائص الدوغمائیة لمن ینتمي إلى ھذه المنطقة.
ما الذي سنلاحظھ عند التطرق إلى نقاط الفرق بین منطقة الشرق الأوسط وأوروبا!
اعتنقت أوروبا بشكل عام الدین المسیحي، ولكن كیف تطورت المسیحیة في أوروبا؟! تعتبر ھذه نقطة ھامة ومن الواجب إدراكھا. كان الشرق الأوسط مركز المسیحیة، حیث رأى الیھود وعلى وجھ الخصوصالاسنین منھم أن الیھودیة لم تعد تستطیع حل مشكلات الإنسان واستیعابھا، ولا تستطیع أن تكون الدواء الشافي لمعاناة الشعبولا یمكن لھا أن تكون الأمل لجمیع الإنسانیة، وأن الیھودیة دین قومي منغلق ولا تستطیع أن تحضن أو تجذب أناساً كثیرین، لھذا السبب ظھرت المسیحیة، إلا أن ھذه الدیانة كانت ممنوعة من قبل النظام الحاكم وتمت محاربتھا وملاحقة أنصارھا. على الرغم من ذلك وبجھود عظیمة انتشرت ھذه الدیانة وتوسعت. حیث توسعت بشكل كبیر في منطقة الشرق الأوسط مثل آسیا الصغرى (تركیا) حالیا وًمصر وبلاد فارس كما أنھا انتشرت وتوسعت في أوروبا أیضا وًلكن لیس كما في منطقة الشرق الأوسط. عانت الإمبراطوریة الرومانیة في تلك الفترة أزمات وعلى وجھ الخصوصفي الغرب، فما ھي ھذه الأزمات التي عانت منھا ھذه الإمبراطوریة؟ تعرضت الإمبراطوریة لھجمات القبائل الجرمانیة والتي قامت باقتطاع جزء منھا، كما أنھا تعرضت لھجمات انجلوسساكسون والتي دفعت لاقتطاع جزء آخر من الإمبراطوریة، وفي النتیجة صغرت مساحة الإمبراطوریة ولم تعد قادرة على الصمود أمام الھجمات الخارجیة، أما على الصعید الداخلي فلم تكن الإمبراطوریة تستطیع كدولة في ذلك الزمن نشر الأمن والاستقرار والسلم والحمایة ورفع السویة المعیشیة في كل الأماكن، لھذا السبب كانت المنطقة الوحیدة التي تستطیع الانفتاح علیھا ھي منطقة الشرق الأوسط. وعلى ھذا الأساسوفي عام ٣١٠ قرروا تقسیم الإمبراطوریة لصون استمراریتھا. حیث تم تقسیمھا إلى روما الشرقیة والتي تمت وروما الغربیة « الإمبراطوریة البیزنطیة » تسمیتھا فیما بعد ب التي لم تصمد طویلاً وانھارت ولم یكن لھا أي تأثیر حیث تشكلت دول كإنكلترا وجرمان. كانت المسیحیة حتى تلك الفترة دیانة ممنوعة في كل روما، لماذا؟ لأن المسیحیة كانت ترفض الآلھة المتعددة وتدعو إلى عبادة الإلھ الواحد وكانت ترى أن العلاقات بین البشریة مبنیة على أسس خاطئة وتسعى إلى حل القضایا الاجتماعیة من خلال الاستناد إلى العدالة والمساواة والأخوة. وعندما انتقل مركز الإمبراطوریة الرومانیة إلى الشرق في زمن الإمبراطور قسطنطین وجد أن أغلبیة الشعب من المسیحیین وأن المسیحیة ھي الدیانة الأكثر انتشارا،ً لذلك قرر أن یعتنق المسیحیة، لأنھ إن لم یعتنق المسیحیة لا یمكنھ الحكم على الرغم من الأرضیة التي كانت موجودة، وحینھا سوف تنتھي الإمبراطوریة. لھذا السبب قبل المسیحیة، وجعل من إسطنبول عاصمة لھ واستمرت كذلك حتى عام ١٤٥٣ إلى أن استولى العثمانیون علیھا، وبقي اسمھا مدینة القسطنطینیة نسبة لأول امبراطور في روما الشرقیة. عقد الإمبراطور قسطنطین في عام ٣٢٥ م اجتماعاً للرھبان المسیحیین، وفیھ تم قبول الدیانة المسیحیة كدیانة رسمیة للإمبراطوریة، وقبل الإمبراطور قسطنطین ھذه الدیانة رسمیاً.
ولكن كیف قبل ھذه الدیانة؟!! لمیعتنقالإمبراطورالمسیحیة كما ھي إنما تم تحویلھا وتعدیلھا بشكل یضمن بقاء إمبراطوریتھ، حیث لم یكن بمقدوره التصدي لھا لأن الجمیع كانوا یعتنقون المسیحیة ولكنھم لم یكونوا یملكون السلطة، كما لم یكن بمقدوره منع ھذه الدیانة كما السابق من خلال القتل والمنع والتصفیة، لھذا السبب لم یكن أمامھم أي خیار سوى القبول بھا، ولكنھم لم یقبلوھا كما ھي أي وفق مبادئھا المستندة إلى المساواة والعدالة والإنسانیة لأنھا تتعارضمع النظام الذي شكلوه، لھذا السببتم تعدیل المسیحیة بشكل یتوافق مع النظام الموجود في تلك الفترة. فالمسیحیة التي نعرفھا في یومنا الراھن ھي نفسھا المسیحیة التي تم تعدیلھا وفق النظام. حیث أنھ في عام ٣٢٥ م تقررت العدید من الأمور في ذلك الاجتماع من خلال التصویت. مثلاً قبول سیدنا عیسى كرب تم عبر التصویت في ذاك الاجتماع، لأن المسیحیة لم تصفسیدنا عیسى بالربفھم كانوا یرونھ نبیاً وإنسانا.ً ولكن إن تحول عیسى إلى رب حینھا یقترب أكثر من المیراث الدیني للإمبراطوریة الرومانیة، لھذا تم ذلك. تصدى الكثیرون لھذا القرار في ذاك الاجتماع ولكنھا كانت النظرة الرسمیة للدولة. لھذا السبب جُرِّدت المسیحیة من خصائصھا الثوریة والمستندة إلىالمساواة وتحولتإلىدین الدولة وفكرھا. حدث ھذا في روما الشرقیة وتطور تدریجیاً في روما الغریبة أیضا.ً بھذا الشكل تحولت المسیحیة إلى دین للدولة التي كانت تمنعھا وتحاربھا ولكن بعد أن تم إبعادھا عن حقیقتھا. إذا؛ً ھل یمكن لشخصما أن یعقد اجتماعا وًیقترح أن تتم إعادة النظر في القرآن من جدید؟! بالتأكید ھذا غیر ممكن وغیر مقبول في الشرق الأوسط. لأن القرآن ھو كلام لله ولا یمكن تغییره مھما حصل. إلا أن ھذا ممكن في أوروبا أي یمكنھم إجراء التغییر فیھ، لماذا؟؟ لأنھ غیر عائد لھم، وقبلوا بھ لأنھم یحتاجون إلیھ. كما نرى أن مقاربة الدولة التركیة شبیھة بمقاربات أوروبا بخصوص الدین الإسلامي. فمثلاً الإمبراطوریة العثمانیة بشكل عام لم تقبل الدین الإسلامي بشكل جوھري إنما تقبلتھ كي تكسب مساندة شعوب منطقة الشرق الأوسط لھذا السبب كانت مقارباتھا مستندة إلى المنفعة، ومقارباتھا في یومنا الراھن أیضاً تستند إلى المبدأ نفسھ أي المنفعة. نعم الحكومات تتقرب بشكل یضمن مصالحھا إلا أن الشعوب لا تتقرب وفق الشكل نفسھ. لھذا السبب نلاحظ أنھ مھما كانت المسیحیة دوغمائیة إلا أنھا لم تستطع إعاقة النھضة في أوروبا. لأنھا عندما قُبلت كمعتقد كانت نتیجة حاجة سیاسیة ولم تقُبَل كھویة، وعلى أساسھا حددت قوانینھا وحققت تغییرا فًي كل مرحلة وفق مصالح السلطة السیاسیة. ففي عام ١٢٠٠ وجد الأوروبیون أنھ من الواجب علیھم ربطھا أو دمجھا مع بعضالنتاجات الفلسفیة فقام توماس اكوین بمزج فلسفة أرسطو مع الدین المسیحي أي أنھ شكل تركیبة مكونة من فلسفة أرسطو والدیانة المسیحیة وجعلھا كجزء منھا، حیث أنھ كان من الممنوع مناقشة فلسفة أرسطو حتى القرنین السادس عشر والسابع عشر، وكان كل من یناقش فكر أرسطو یُعاقب بالإعدام، ففي عام ١٦٠٠ تم لرفضھ فلسفة أرسطو. « برونو » حرق العالم في النتیجة؛ نلاحظ أنھ من الناحیتین المیثولوجیة والدینی عندما تدخل الأفكار ذات المصدر الشرق أوسطي إلى مناطق الغرب كنسخة ثانیة أو ثالثة تقوم بتغییر ذاتھا بشكل یتوافق مع ظروف تلك المجتمعات، لھذا السبب نرى أنھ لا توجد أي عوائق أمام التطور كالعوائق التيتتشكل أمام التطور في منطقة الشرق الأوسط. أي یمكن للإنسان التصدي للأفكار ورفضھا بكل سھولة. كما تنبغي الإشارة إلى أنھ في تلك المناطق أیضاً تمت معارضة ھذه الأفكار وتم قمع تلك المحاولات من خلال التطرق إلى القتل والنفي وغیرھا من الأمور، ولكن لم تكن تلك الدوغمائیة بنفس القوة التي كانت علیھا في منطقة الشرق الأوسط. ولكن ألم تكن ھناك مساعٍ أو ألم یتم بذل أیة جھود في منطقة الشرق الأوسط من أجل تجاوز ھذا الوضع؟! بالطبع كان ھناك محاولات وبذلت جھود عظیمة، فالأمور التي ندعوھا بالنھضة والإصلاح والتنویر والفلسفة تطورت في منطقة الشرق الأوسط قبل أوروبا بقرون عدة، وبأسالیب أكثر علمیة من تلك التي في أوروبا. ربما لا نصادف الكلمات والمصطلحات الدالة علیھا، مثلا؛ ربما لا نصادف ضمن مطبوعات وأدبیات القرن الثامن والتاسع والعاشر وفي عھد الحكم الأموي والحكم العباسي كلمة الدیمقراطیة، ولكن كانت ھناك مساعٍ اجتماعیة تعبر عن الدیمقراطیة أكثر من مصطلح الدیمقراطیة نفسھا، وتعبر عن كومینالیة أكثر من مصطلح الكومینالیة ذاتھا. وربما لا نصادف كلمة إرشاد أیضا وًلكن كانت ھناك محاولات عقلیة تتجاوز ذاك المصطلح. إلا أن القول بأن كل ھذه الأمور ظھرت بالكامل نتیجة تعمق وبحث الإنسان الشرق أوسطي لا یعدصحیحاً. الدین ھو المرحلة الثانیة من التقدم الفكري للإنسان، لأنھ الأقرب للعقل، وقابل للفھم والإدراك أكثر من المیثولوجیا، وأكثر قرباً من قضایا الإنسان الاجتماعیة، لذلك فھو أكثر قرباً من الحقیقة مقارنة بالمیثولوجیا، ویمكن تسمیتھ بالثورة على المستوى الذھني والفكري. أي أنھ ربما لا یمكن تسمیتھ بالثورة من الناحیة الاجتماعیة إلا أنھ من الناحیة الذھنیة یمكننا تسمیتھ بالثورة، لأنھ قلب كل شيء رأسا عًلى عقب. أي أنھ غیرّ نظرة الإنسان للطبیعة ونظرة الإنسان للإنسان وثقتھ وتصرفاتھ وعاداتھ. أي یمكن ملاحظة الفرق بشكل واضح بین كیفیة عیش الإنسان قبل الأدیان التوحیدیة وبعدھا. وھذه ثورة من الناحیة الذھنیة. قبل أن یتحول الدین إلى سلطة كان منفتحاً على الاجتھاد والتطویر من خلال إیجاد الحلول للقضایا الاجتماعیة. فالدین الإبراھیمي والدین المسیحي والدین الإسلامي كلھا كانت كذلك، فالأدیان التي تستند إلى المیراث الاریاني تكون أكثر انفتاحا عًلى حقیقة المجتمعات. تكون كذلك قبل أن تصل إلى السلطة، ولكن عندما تتحول إلى سلطة حینھا تغلق باب الاجتھاد. فالاجتھاد ھو إحداث الإبداع في شيء ما دون رفضھ. مثلاً عندما نقوم بنضال ما، بالطبع لھذا النضال أو العمل قواعد وقوانین، یمكننا تحقیق ھذا العمل والنضال من خلال الاستناد إلى تلك القواعد والقوانین، وسیظھر في النتیجة شكل من العمل والنضال ولكن من الصعب النجاة من عملیة التكرار، ولكن إن قام أحد بإضافة شيء ما علیھ حینھا سیحصل على نتیجة أفضل ویكون مبدعاً أكثر، ھذا ما یسمى بالاجتھاد، أي إضافة شيء عن معرفة. في یومنا الراھن لا یتجرأ أي شخص حتى على ذكر المناقشات التي كانت تجري في جوامع الرسول صلى لله علیھ وسلم لا في جامعة الأزھر ولا في مكة المكرمة، حیث كانت تتم مناقشة كل شيء في ذاك الزمان بحریة تامة فكان یتم مناقشة كل شيء وصولا إًلى وجود أو عدم وجود لله، وكذلك كل القضایا المتعلقة بالإنسان بدءا مًن الحیاة الیومیة والعلاقة فیما بین الزوجین وتربیة الأطفال إلى المسائل الاقتصادیة والمالیة. إلا أنھ وبعد مرور ١٥٠٠ عام نرى بأنھ یتم منع مثل ھذا النقاش. فالسلطة بھذا الشكل تغلق الطریق أمام الفكر والاجتھاد وتقیده ضمن حدود مصلحتھا فقط، لأنھ إن حصل أي تغییر في الفكر ستصل النقاشاتإلى مستوى مناقشة السلطة أیضا.ً لھذا السبب نلاحظ بأن كل السلطات دوغمائیة. لماذا؟ لأنھ إن كانت السلطة مستندة إلى فكر أو شریعة ما فمناقشة أو انتقاد ذاك الفكر أو تلك الشریعة یعني مناقشة وانتقاد تلك السلطة في الوقت نفسھ. لذلك تقوم السلطة بمنع انتقاد الشریعة أو الفكر باسم القداسة. لأن الإنسان الذي یناقش وینتقد ویبحث سیقوم بوضع تصرفات السلطة أیضاضًمن نقاشاتھ وانتقاداتھ، وسیتحول إلى قوة مراقبة للسلطة، لا سیما أن السلطات في منطقة الشرق الأوسط كلھا استبدادیة ولا تقبل أیة مراقبة علیھا، لھذا السبب فھي ترفض وتمنع الاجتھاد وتفرض الدوغمائیة ولیسالإبداع لأنھا تخدم مصالحھا.
بالطبع أراد المجتمع الإنساني تحریر نفسھ والوصول للحقیقة وإیجاد الحلقة المفقودة والتخلص من الظلم والضغط وتطبیق المساواة عن طریق الدین. حیث كان الدین یلبي ھذه الطموحات من خلال قوتھ الروحانیة والأخلاقیة. والنصائح والتعالیم الموجودة فیھ كانت تولد لدى الإنسان ھذه الثقة. لكن بعد ذلك التمس البشر الخیانة، أي أن تلك الأمور التي أصحبوا من أجلھا مسلمین ومسیحیین لم تعد كما كانت. كما أن السلطة السیاسیة لا تقوم بمسؤولیاتھا تجاه المجتمع، فھي لم تجلب المساواة والعدل إنما استمر النفاق والقتل واللاعدل واللامساواة ولكن ھذه المرة باسم لله والدین. ففي السابق كان بإمكان الإنسان أن یقاوم ویتصدى لما یفرضعلیھ ولكنھ في یومنا الراھن إن قام بذلك كأنھ یقوم بمعارضة قول وأمر لله وحینھا یستحق الموت من دون محاكمة أو محاسبة. على ھذا الأساس خرج العدید من الحركات سعت إلى تطھیر الدین من مرض السلطة، وإحدى ھذه الحركات كانت حركة الخوارج. الخوارج: وھم جماعة قد خرجت من الصراع على السلطة، وھذا یدل على أن ھذه الحرب بدأت منذ المرحلة الأولى، وعلى وجھ الخصوص بعد بوفاة الرسول صلى لله علیھ وسلم وتعمقت أكثر في عھد الخلیفة علي. صراع السلطة ظھر بین بعض الارستقراطیین العرب، الذي كانوا یسعون إلى تشكیل أو خلق نظام سلطة شبیھ بنظام الروم والفرس، وبین الشخصیات الإسلامیة التي أرادت العیش على القیم الإسلامیة الحقیقیة. ھذه الحرب كانت السبب في خروج الكثیرین عن الدین لأنھم أدركوا بأن ھذا لیس الإسلام الحقیقي، لأنھ كان من المفروض ألا یتحول الدین الذي اعتنُق على أمل إیجاد حل للقضایا الاجتماعیة إلى آلة للسلطة. وكان من الواجب ألا یكون ھناك اقتتال فیما بین الأشخاصالمتفقین فكریاً في الدین. إلا أن ھناك اقتتال في ھذا الدین لھذا السبب تصدوا لھ وسعوا إلى البقاء خارج نطاق ھذا الصراع، كما سعوا إلى إیجاد حل لھذه القضیة، إلا أنھم لم ینجحوا في ھذا الأمر، وفقدوا المبادرة. والتدبیر الذي استطاعوا القیام بھ ھو قتل علي، إلا أنھم لم یستطیعوا قتل معاویة. كانوا یعتقدون بأنھم إن تمكنوا من قتل كل من علي ومعاویة سوف یتم القضاء على صراع السلطة الذي نشبضمن المسلمین، ولكنھم لم یتمكنوا من ذلك. وبمقتل علي أصبحت السلطة الكاملة بید الأمویین. من ھذا المیراث ظھر أسلوب آخر ألا وھو المعتزلة.
المعتزلة: تعتبر أكثر الحركات عقلانیة والأكبر في تاریخ الإسلام والشرق الأوسط. وھي تعني تجرید النفس من الشيء أي الاعتزال والانعزال والتخلي عنھ. ھناك الكثیر من الروایات حول نشأتھا، بدأت في عام ٨٠ ھجري / ٧٣٠ م واستمرت لفترة تتراوح بین ٢٠٠ إلى ٣٠٠ عام. وھي حركة خارج إطار السلطة تعُنى بالعلم والمعرفة والفكر. كان المعتزلة معارضین للسلطة ولكن تقربھم من المعرفة یحوز على الأھمیة.
١- فھم یقولون بأنھ لا یمكن رؤیة الإلھ، فالشيء الذي یتم رؤیتھ لا یمكن أن یكون إلھاً، كما أن الشيء الذي یكون لھ أبعاد لا یمكنھ أن یكون إلھا،ً لھذا السبب ھناك بعض الأمور المذكورة في القرآن من الواجب علینا ألا نتخذھا أساسا،ً لذلك ینغي ألا یتم التطرق إلى القرآن كما لله نفسھ، أي یمكن عدم قبول بعضالأمور فیھ. وینبغي رفضالآیات التي تشیر إلى أوصاف ومكان لله في القرآن لأنھ لا یمكن الدفاع عنھا. لأنھم كانوا یلاقون صعوبة في المناقشة مع المانویین والزردشتیین حول ھذه المواضیع لعدم قدرتھم على مناقشتھا بشكل علمي. لھذا السبب ینبغي تصحیح ھذه الأمور في القرآن.
٢- بالعقل نستطیع التمییز بین الخطأ والصواب، لھذا السبب ھي حركة عقلانیة حیث أن أسئلة علم اللاھوت التي بالكاد استطاع الأوروبیون طرحھا في القرنین السادس عشر والسابع عشر ھم طرحوھا في تلك الفترة أي في مرحلة ظھورھم.
٣- یقول المعتزلة: خلق لله الإنسان، ولكن الإنسان بعد ولادتھ یكون مسؤولاً عن أفعالھ. أي أن لله لیس مسؤولاً عن تصرفاتھ، فبالعقل نستطیع التمییز بین الأمور. فإن قلنا بأنھ تتم برمجة عقولنا من قبل لله على الخیر أو الشر حینھا تكون كل الأفعال التي نقوم بھا قدرا مًكتوباً حدده لنالله. فمادامللهقد حدد أن یكون الشخص عاصیا لًماذا ستتم محاسبتھ؟! لھذا السبب یقولون إن من الواجب علینا ألا ننسب ذنوبنا إنما علینا أن نحكّم العقل ونتحرك وفقھ في التمییز والفرق بین ما ھوصائب وما ھو خاطئ فا غیر مسؤول عن أفعالنا وتصرفاتنا.
٤- علینا القیام بكل ما یقبلھ العقل بالإقناع كترجمة الفلسفة لأن الإلھیات وحدھا لا تكفي حیث أن ھناك بعضالأمور یمكن
توضیحھا وتعریفھا عن طریق العلم كالریاضیات والكیمیاء وغیرھا، لذلك قاموا بأبحاث كبیرة حول الفلسفة الیونانیة وغیرھا من المجالات العلمیة.
٥- من ناحیة العدالة كانت لھم انتقادات للنظام السیاسي. تطورت ھذه الحركة في عھد الخلافة العباسیة. إلا أنھ تم تصفیتھا ولم تستطع إحراز أي تغییر أي أنھا لم تستطع فرض حاكمیة العقل، فالشيء الذي قامت بھ ھو إفساح المجال أمام العقل ولكن لقوة السطلة استطاعت الدوغمائیة فرض سیطرتھا ولیس الفكر العقلاني، وعلى وجھ الخصوص في القرن الحادي عشر حیث استطاعت الدوغمائیة فرضذاتھا بشكل أوسع عن طریق حامد الغزالي.