الأيكولوجيا معضلة تستوجب الحل

الأيكولوجيا معضلة تستوجب الحل

برمال كمال

الأيكولوجيا أو علم البيئة، هذا العلم المختص بدارسة التوازن البيئي والنظام الطبيعي الذي يحدد سيرورة الحياة على وجه البسيطة، هذا النظام الطبيعي البيئي المتحد مع المجتمع والذي أدهش العلماء ومازال اللغز المحير الذي تنقب عنه الإنسانية محاولة الوصول إلى سر الحياة. إذا،ً الحياة مرتبطة بهذا اللغز وبالتحديد بنتائج هذا العلم الذي يبدو للوهلة الأولى كواحد من العلوم أو المصطلحات المتواجدة. ولكن هل بدأ وازداد العداء والخصام بين الإنسان والمجتمع وهذه الطبيعة المتناسقة؟ ما السبب الكامن وراء ازدياد غاز الكربون وامتداد التصحر في الطبيعة، وقلة المياه العذبة، واتساع ثقب الأوزون؟… والكثير من الأمور، وإذا ما استمر الوضع على هذه الحال فلن يجلب معه سوى الكوارث والويلات التي تهدد الحياة.

الأيكولوجيا كمصطلح يعود إلى العهد اليوناني، أي العلم الذي يهتم بالمحيط أو البيئة المحيطة. أما عن مصدر وسبب ظهور هذه المعضلة )مشكلة علم البيئة( والتي تحولت إلى أحد أهم القضايا التي تهدد الحياة البشرية فيعود إلى الفصل أو الابتعاد بين الطبيعتين كما يصفها القائد آبو، الطبيعة الأولى: الكون والمحيط الذي نعيش فيه ولا يمكن اعتبار هذه الطبيعة جامدة، فالنظام الكوني وحركة النجوم والمجرات وتناسق الطبقات الجوية مع الحياة الطبيعية وكافة المؤهلات التي تحافظ على الحياة نابعة من ذكاء خارق لهذه الطبيعة التي مازال ينظر إليها وإلى تكوينها بالصدف والحوادث الطبيعية. الطبيعة الثانية: هي المجتمع. إن العلاقة بين الطبيعتين مترابطة كاللحم والظفر لا يمكن الفصل بينهما، حيث يعتبر الإنسان جزءاً من الطبيعة الأولى أي هو الجزء المفكر من الطبيعة الذكية، الجزء الناطق. ومن هذا المنطلق لا يمكن فصل التطور الاجتماعي عن البيئة فالجغرافيا تؤثر على نمط حياة وتفكير وخصوصيات وحتى على نفسية الإنسان وبالتالي تكون المؤثرة على ثقافته لذا فالفصل بين الإنسان والطبيعة يعني فناء المجتمع. المشكلة تنبع من ابتعاد هاتين الطبيعتين عن بعضهما وتناولهما كمشكلتين منفصلتين من قبل المجتمع الطبقي السلطوي الذي يريد فرض نفسه على المجتمع والإنسانية ضارباً عرض الحائط كل ما يهدد الوجود الإنساني ويعرضه لخطر الفناء. وترسخت هذه السلطة بظهور مؤسسة الدولة التي أنشأت مجتمعات مصطنعة بعيدة عن حقيقتها المدينية، وغير متوائمة مع الطبيعة وكمثال: ظهور المدن التي تصل أعداد سكانها إلى الملايين يؤثر على الأيكولوجيا، ويزيد من المشاكل الاجتماعية أيضاً.

إن تزايد التعداد السكاني يضعنا أمام مشاكل أيكولوجية جدية تتحول مع الزمن إلى مشاكل اجتماعية، فلكل شيء في الطبيعة نظام حماية خاص به مترابط ومتسلسل في حلقات متناسقة وكون الطبيعة وجود حي وذكي لا يقبل التلاعب والتدخل في نظامها لذلك تكون لها ردة فعل. فالخلل في توازن الطبيعة يخلق معه الكثير من المشاكل والأمراض وازدياد هذا الخلل وانقطاع الحلقات قد يوصل المعضلة إلى درجة يصعب السيطرة عليها. عندها لن تنظر الطبيعة حتى إلى دموع أعين البشر كما يصفها القائد آبو، فهذه العواصف والكوارث الطبيعية ما هي إلا ردة فعل الطبيعة. ليس الهدف هنا رسم لوحة سوداء ولكن علينا أن ندرك أن الإنسانية سائرة على درب هذا الخطر، فلم يبقَ شيء في الطبيعة لم يتم استغلاله واحتكاره.

وللغوص أكثر في سبب هذه المعضلة لابد لنا من التوقف على الثورات الثلاث التي تعتبر محطات تاريخية بالنسبة للإنسانية وهي: الثورة الزراعية أو ما يعرف بالثورة النيوليتية، الثورة التي استطاعت خلق التوازن مع الطبيعة  الثورة الثانية هي الثورة الصناعية  الثورة الثالثة هي الثورة العلمية.

ففي مرحلة الثورة الزراعية )النيولوتية( ينظر الإنسان إلى كل شيء حوله كوجود حي فللشجر والحجر حياة ولها مشاعر وأحاسيس يشعر بها الإنسان يحاكيها ويناجيها ويستأذنها لتقدم له هباتها التي تشكل عماد الحياة البشرية، فالإنسان في تلك المرحلة يعتذر من الشجرة قبل قطعها ومن الحيوانات قبل قتلها ويعتبر النباتات كائنات حية لا يجب أن تزهق تحت أقدامه. ولكن عندما تتلاشى هذ العلاقة يرى الإنسان كل شيء حوله كجماد لا حياة فيه ويحق لنفسه التصرف به. فيعتبر نفسه المركز أو النواة أو الأساس وما يحيط به أشياء يمكن التحكم بها كيفما يشاء.

فيستطيع قطع الآلاف من الأشجار التي نشأت لتحقيق توازن الطبيعة لتظهر عندها مشكلة الأوكسجين… وهكذا. ومع ازدياد سلطة الدولة ازداد التحكم بالطبيعة إلى درجة لا يمكن العيش معها.

الثورة الثانية والتي تطورت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هي الثورة الصناعية، تطور الصناعة نابع من تسخير الفكر وإبداعاته لخدمة وتطوير الإنسانية لذا لا يمكن أن ننسب المشكلة إليها ولكن انفصال هذه الثورة عن الثورة الزراعية خلق معه مشاكل جدية. فالتقنيات المبتكرة إذا ما استخدمت في خدمة الإنسان ستكون دافعاً لعجلة التطور، كمثال: كان الهدف من ظهور التلفاز تطوير الذهن وإيصال المعلومات لكافة الشرائح ولكنه تحول إلى وسيلة لتنويم ذهن الإنسان وإبعاده عن حقيقته. كما استخدمت التقنية لصناعة الأسلحة التي تشكل خطراً على الحياة. إذاً، المشكلة ليست في التقنية بل في الذهنية التي تستخدم هذه التقنية. فالسلطة تستخدم التقنية لتخدم مآربها في الوصول إلى زيادة الربح والتحكم. وهنالك الآلاف من الفراعنة والنماردة الذين يثقلون كاهل البشرية، لذلك لا بد من ربط الثورة الصناعية بالأخلاق فكما أن القوى السلطوية المتحكمة تسخر ثورات الشعوب المضطهدة لمصلحتها كذلك الثورة الصناعية يتم تسخيرها والتحكم بها لخدمة تطور السلطة وفرض العبودية. وهذا هدف العلموية المتطورة في أوربا اليوم، فالمركز هو الفرد والمتحكَم به هو المجتمع «الفرد يُفسد هذا المجتمع ». ضياع المجتمعية يعني ضياع الطبيعة والإنسانية معاً. فإذا كان الإنسان الذي يُعتبر جزءاً من الطبيعة والمفكر والعاقل والناطق يتعرض للعبودية فكيف سيكون حال الطبيعة التي لا تنطق ولا تفكر وكيف ستدافع عن نفسها.؟؟؟

إذاً، هناك علاقة وثيقة بين تطور هذه المعضلة وتطور الصناعة فتطور الثورة الصناعية في أوربا جاء نتيجة لتطور الذهنية الإنسانية، ولكن هناك خطأ كبير في استخدام الثورة الصناعية. أين تكمن هذه المشكلة؟ الثورة الصناعية انقطعت أو انفصلت عن الثورة الزراعية حتى أنها رأت الثورة الزراعية كشيء متخلف. كان يجب أن تتطور الثورة الزراعية مع تطور التكنولوجيا ولكن العلاقة بين الثورة الصناعية والثورة الزراعية انقطعت تماماً لأن العلاقة فيما بين المجتمع نفسه تدهورت حيث استخدمت الصناعة لمصلحة بعض المجموعات المنظمة وهذه المجموعات تسعى لزيادة ربحها لذلك استخدمت هذه الثورة لمصلحتها ووضع المجتمع في حالة متخلفة جداً من الناحية الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والعلمية والثقافية، والمسيطر أو الحاكم يستخدم التكنولوجيا كوسيلة بدءاً من وسائل النقل حتى الإعلام. إذا،ً السبب الأساسي الذي أدى إلى خراب التكنولوجيا هو ظهور السلطة. وكافة الأفكار اللاحقة لظهور السلطة لم تتمكن من التحرر من ذهنية السلطة، كافة الفلاسفة الذين ظهروا وكل من وضع الآراء حول هذه المشكلة لم يتمكنوا من التخلص من السلطة وبقيت نظرياتهم عاجزة عن حل المعضلة. فهم يحددون ويثبتون المشكلة ويسمونها بالمشكلة الأيكولوجية ولكن من الذي يستطيع أن يضع حلاً أو يناضل ويجد التدابير اللازمة وينبه المجتمع.

فهم كالأطباء يحددون المرض ولكن يعجزون عن وضع الدواء لهذا الداء …لماذا؟ لأن كافة الأفكار الفلسفية لم تتمكن من التخلص من السلطة، حتى الثورة الذهنية في أوربا ثورة الإصلاح وضعت في خدمة السلطة، يقول القائد آبو «السلطة الرأسمالية تختفي في زوايا المجتمع وعند ظهور أي تطور ثوري في أي مجال كان تفرض سيطرتها عليها وكأنها هي صاحبة هذا التطور والإنجاز ». الذهنية والمنطق السائدان يصدقان هذه الأكذوبة مع العلم أن معظم المكتشفين والمخترعين كانوا من الطبقة الفقيرة وليس من الطبقة الرأسمالية. فبظهور مؤسسة الدولة وترسيخ السلطة في المجتمع وصلت كافة المشاكل إلى ذروتها وإن لم توضع لها الحلول المناسبة سوف تتعرض البشرية إلى مخاطر كثيرة تصل إلى درجة فناء وزوال الإنسانية. لأنها وصلت لدرجة لم تعد الطبيعة قادرة فيها على الحياة، والإنسانية غير قادرة على الحياة وكذلك المجتمع. فانتشار البطالة والفقر والمجاعة ومن ناحية أخرى انحلال الأخلاق وتدهور العلاقة بين الرجل والمرأة، وتحول العلاقات في المجتمع إلى علاقات تستند إلى المال والربح أدى إلى زوال تلك العلاقات المعنوية التي كانت منبع القوة منذ الثورة النيولوتية. إن تدهور هذه العلاقات الاجتماعية هو السبب في تدهور الطبيعة التي لن تعود قادرة على الاستمرار فالطبيعة الثانية تتعرض للفناء إذا ما ساءت العلاقة في الطبيعة الأولى والسلطة هي السبب في كل هذا. ظهرت مشكلة الأيكولوجيا بعد الثورة الصناعية في المرحلة الرأسمالية فالخلل النابع من ابتعاد الإنسان عن الطبيعة قد وصل إلى ذروته خلال القرنين الأخيرين من الزمن أي في عهد الحداثة الرأسمالية، فظهور الحركات الأيكولوجية لم يكن سدى بل لأنهم رأوا خطورة هذه المشكلة وتفاقمها، لقد أرادوا وضع حد للمشكلة واتخاذ التدابير اللازمة ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك والسبب أنهم هم أنفسهم لم ينفصلوا عن النظام المهيمن ولم ينتبهوا إلى حقيقة أن الإنسان هو الطبيعة المفكرة العاقلة فإذا لم تكن الطبيعة ذكية لما خلقت إنساناً ذكياً، وإذا لم تكن منظمة لما خلقت إنساناً ذا نظام. ووجود الاختلافات في المجتمع دليل ذلك.

المشكلة تكمن في تغيير الذهنية التي فصلت بين الحلقات التاريخية المترابطة )المناخ  الهواء  الأرض  الإنسان( والنتيجة هي تضرر: 1 علاقة الإنسان مع الطبيعة 2 العلاقة بين الجنسين 3 علاقة الإنسان مع الإنسان. إذا لم تعد هذه الركائز الثلاثة إلى طبيعتها لا يمكن التحدث عن الحرية والإنسانية والديمقراطية والمساواة. من هنا نستخلص أن النظام الرأسمالي هو نظام الأزمات فبقدر ما يخلق الأزمات في المجتمع بقدر ما يتمكن من بسط سيطرته عليه. فإله النظام الرأسمالي هو الفائدة والربح الزائد لذلك تسعى الجماعة إلى طاعة هذا الإله ونيل الربح وهكذا يظهر التسيب في العلاقات الاجتماعية، وتزول العلاقات الإنسانية وتزول الإنسانية.

ظهرت الكثير من الحركات التي ادعت حماية البيئة ولكنها وإلى الآن لم تتمكن من إيجاد حل لهذه المشكلة لأن الوسيلة التي تستخدمها لا تتطابق مع هدفها. فمشكلة الأيكولوجيا لا يمكن حلها بتمرد أو تظاهر بل يجب أخد التدابير العلمية اللازمة ووضع نظريات جديدة وتوعية المجتمع. على المفكرين والفلاسفة مراجعة أنفسهم فعدم التخلص من السلطة يعني عدم القدرة على حل المشكلة وتحطيم حلقة السلطة والعبودية وتحويلها إلى الحلقة الاجتماعية التي تعيد التوازن للعلاقة بين الطبيعة والمجتمع، كما لا بد من حل مشكلة المرأة التي اعتبرت المشكلة الثانوية لدى كافة الفلاسفة والمفكرين، لذلك ما يزال التعصب الجنسي سائداً إلى الآن. فالمشاكل التي تشكل عائقاً أمام تطور الإنسانية يجب تجاوزها والتخلص منها وهي: التعصب الجنسي  التعصب الديني  التعصب القومي التعصب العلمي. فالتعصب يجلب التحكم والتحكم يجلب الفردية والفردية تفرض السلطة.

الحل يكمن في تطوير المجتمع من الناحية الذهنية أولاً وتطوير النظريات من قبل العلماء والفلاسفة حول حل هذه المشكلة ويجب أن يدرك المجتمع أنه يتعرض لخطر الزوال فإذا استمر الوضع على هذا المنوال سوف تتفكك الحلقات المتبقية وتكون النهاية مأساوية. فالطبيعة مازالت تقاوم، وزيادة التلوث وانفجار البراكين وتغير المناخ وانتشار الأمراض الاجتماعية نتيجة واضحة للخلل الحاصل في التوازن الطبيعي كما أن العلاقات المعنوية تحولت إلى علاقات سلطوية أدت إلى ظهور أمراض نفسية والتي تتحول إلى أمراض جسدية. فإذا لم تحل مشكلة السلطة في الذهن والفكر لن نتخلص من المشاكل الاجتماعية والطبيعية، وهذه مهمة أخلاقية، مهمة علمية، مهمة سياسية. يركز قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان في مرافعاته على المجتمع الديمقراطي الأيكولوجي والتحرر الجنسوي لأنه يدرك مكمن القضية وينير الدرب إلى الحقيقة. فالحرية لا تكون على حساب حرية الآخرين، وفرض الحاكمية لا يمكن أن يكون على حساب العلاقات الطبيعية والاجتماعية.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى