الدولة
الدولة
إنَّ الدولة – كنظام – ظهرت في الفترة ما قبل الميلاد ب 3000 عام، وقد أخذت المزيد من القوة في المرحلة الرأسمالية، لتصبح رمزا للسلطة في المرحلة التي وصفت فيها الدولة ب )دولة الأمّة(، فالدولة هي مجموعة الهيئات التي تجعل السلطة عملية على أرض الواقع، وقد ولدت كفكرة أسطورية، ولأن الدولة تعبر عن كيفية إدارة القوى الحاكمة في المجتمع، فقد عملت تلك القوى دائماً على تعظيم الدولة وتطويرها، واستعمال أساليب عدة لجعلها مقبولة لدى الشعب دائماً، ورغم أنَّه أقدم مفهوم على الإطلاق، فلم يتم إجراء بحوث كثيرة على مفهوم الدولة.
إنَّ ماركس وأنجلس، قد أكدا بأن الدولة ستفنى بمرور الوقت ولن يبقى حاجة إليها، فإننا لا نرى أحدا إلا قائد الشعب الكردي السيد عبد الله أوجلان قد أكد على عدم جدوى الدولة، ببراهين تاريخية معمقة، وأنَّ الدولة ما زالت باقية كفكرة أساسية، تدفع عقل الإنسان لمزيد من التخبط، فرغم أنَّ المجتمع قد عايش نماذج عدة من الدولة، لكن نموذج )دولة الأمّة(، مازال أكثر النماذج قرباً من ذهنه، ولهذا فإننا نرى أنه من المفيد، التطرق إلى قصة منشأ الدولة، والقيام ببعض التقييمات بهذا الشأن بشكل مختصر.
إنَّ التجمع البشري قد عاش في ظل الكومونة والديمقراطية حتى تاريخ 4000 ق.م، وإنَّ مركز هذا التجمع كان شمال بلاد ما بين النهرين.
بعد هذه المرحلة فقد لوحظ بدأ تطور الهرمية في ميزوبوتاميا السفلى.
في البداية كانت هناك حالة من السلطة الطبيعية للأشخاص ذوو الخبرة والمعرفة في المجتمع الهرمي، وكان لهؤلاء دور كبير في المجتمع بالبداية، لأن الجانب الإيجابي في سلطتهم كان يطغى على الجانب السلبي، ولأن المجتمع لم يكن يملك ثقافة السلطة، عكس ما هو عليه اليوم، فإن الهرمية البدائية وجدت المجال الواسع لتقديم خدماتها بشكل أفضل، لكن ما لبثت هذه الحالة أن تغيرت، وذلك بفعل مهاجمة وتسرب القبائل البدوية العربية، من جنوب ميزوبوتاميا باتجاه المجتمع الكومونالي والديمقراطي المذكور، وبسبب احتكاك الهرمية البدائية مع الثقافة البدوية ذات الطابع الذكوري، فقد دخلت تحت سيطرتها، وهذا ما فتح الباب أمام ثقافة جديدة ألا وهي الثقافة البدوية، حيث الشيخ أو السيد هو السلطة المركزية ومالك لكل شيء، وهي نفسها الثقافة التي يقول أصحابها بأنهم أصحاب الفضل والسيادة لكل شيء، ومع مرور الزمن وتوسع المدن أصبحت هذه الثقافة بعهدة الرهبان في الزيقورات وهم من تبنوها، لكي يتمكن الراهب من إدارة المجتمع، فقد حاول في البداية استخدام أساليب إقناع ميثولوجية وأيديولوجية مكثفة.
إن ما أوجده الرهبان في ميزوبوتاميا السفلى، مازلنا نستخدمه لغاية اليوم، ومن تلك الاختراعات: الدولة، الكتابة المسمارية، الرياضيات وعلم الفلك…. ومن قسَم الشهر إلى ثلاثين يوماً، واليوم إلى أربع وعشرين ساعة، هم الرهبان أنفسهم، وذلك قبل 5000 عام.
هناك في كردستان من يعتقد حتى اليوم، بأن سبب الزلازل هو نتيجة لحركة التيس الذي يحمل الأرض على قرنيه، وهذا معتقد سومري. وهناك مكتشفات أخرى كثيرة أوجدها الرهبان بتفكيرهم النتولوجي، وقد استعمل الرهبان هذا الأسلوب من التفكير بين عامي 4000 – 3000 ق.م، ولكن بمرور الزمن شعروا بأنهم لم يعودوا يملكون أساليب إقناع كافية، فحاولوا استخدام القوة للسيطرة على إدارة المجتمع، وبالتالي أصبحوا بأمس الحاجة إلى القوة العسكرية، وهكذا بدأ الأشخاص الذين يشتغلون بالصيد أو حراثة قريتهم أو مدينتهم، بالانتساب إلى الوحدات العسكرية المشكلة، ليساعدوا الراهب في فرض سيطرته على المجتمع بهوية جديدة.
مع نمو المجتمع وزيادة الطلب، بدأ بشراء البضاعة من الخارج، أما البضاعة الزائدة عن الحاجة لديهم، فيجب أن تباع بطريقة ما في مرحلة الكومونة الديمقراطية، كانت هذه المشكلة تحل بطريقة تبادل السلع، أما الآن فإن هذه الثقافة قد انتهت بسبب النمو السكاني، وسيطرة الرهبان على إدارة المدن الكبرى، وأصبح أسلوب البيع والشراء هو السائد.
إنَّ تامين البضاعة المفقودة، كان بحاجة لأشخاص يؤمنونها من الخارج، وهؤلاء الأشخاص هم طبعاً طبقة التجار، والتجار أيضاً حاولوا التقرب من الرهبان، لتطوير تجارتهم، ودفعوا لهم القليل مقابل الكثير من البضاعة المستوردة من الخارج، ومن المعروف أنَّ من يعمل بهذا الأسلوب في يومنا هذا، يقال عنه «أسلوب عاقل » أو «خلاق » أو خبير في عمله، هذه هي ثقافة التاجر، بفضل البضاعة الزائدة التي استوردها التجار، أصبحوا أغنياء بمرور الوقت، ومن ثم أصحاب قوة وبأس، فأحس الرهبان بنفاذ جزء من قوتهم أمام هذه التطورات، ومن ثم الحاجة لدخول طبقة جديدة أخرى تتميز بالكفاءة والقوة إلى ساحة التاريخ، ألا وهي طبقة العسكر، التي بدأت تثبت وجودها، فاستخدمت القوة عندما وجدت أن الراهب عاجز عن الحل، ومن الطرف الآخر استمر التاجر في تأثيره وغناه وقوته، بسبب تلك البضاعة التي كان يبيعها لصالحه.
وهكذا اتصفت طبقة العسكر عبر التاريخ بالقوة والإقدام والغصب والنهب والقتل، أما طبقة التجار فاتصفت بالمادية والكذب والحيلة.
في المراحل البدائية كانت كلا هاتين الطبقتين، مستمرتان في أشغالهما تحت إدارة ونظر الراهب، ولكن لاحقاً أصبحوا ذوي نفوذ وقوة، فالعساكر مثلاً أصبحوا يخططون لعمليات وحروب ضد مدن أخرى للسيطرة عليها، وهذا ما زاد من شأنهم لدى الرهبان، وهناك أمثلة وأساطير كثيرة كتبت عن جنود وعساكر، وبطولاتهم وغنائمهم الكبيرة في الحروب، مع ازدياد قوة ونفوذ العسكر من جهة، و التجار من جهة أخرى، أصبح التنافر و التضارب بادياً للعيان بين الطبقات الثلاثة، لكنهم لاحظوا بنفس الوقت بأنهم بأمس الحاجة لبعضهم البعض، وأنَّ الخلافات ستؤدي إلى فقدانهم الكثير من القوة المجتمعية والتجمعات الكومونية، ولهذا بدءوا بالبحث عن أساليب جديدة.
وفي خضم هذا البحث بدأ الصراع مكشوفاً، وأصبح سبباً لفقدانهم المزيد من القوة، وخاصة قوة الإقناع لدى الرهبان، الذين بدت آثار الضعف عليهم واضحة.
إنَّ قوة الراهب تكمن في قوته على الإقناع، أي قوة التأثير الأيديولوجية والميثيولوجية على المجتمع، ونفاذ هذه القوة يعني نفاذ السيطرة على المجتمع، وهكذا أصبحت الطبقات الثلاثة على دراية بالمشاكل المستجدة، و لردم الهوة بينهم بدءوا بالبحث عن الحل الوسط للتصالح، وما كان ذاك الحل الذي أجمعت القوى الثلاثة عليه ألا وهي «الدولة .«
هكذا أصبحت الدولة تضم القوى الثلاث متقبلة لبعضها البعض، وكل قوة فيها تعترف بحصة الأخرى من الثروة، حسب قوانين مكتوبة فيما بينهم، وفي نفس الوقت تحايلوا على المجتمع لإقناعه بإدارة قسم من السلطة في الدولة الناشئة.
كان الرهبان هم من يشجعون على تسليم جزء من السلطة للمجتمع، وذلك بهدف التسويق لحيلتهم وتزيينها بأيديولوجيتهم الخاصة، ولكي يظلوا الطبقة الأقرب إلى المجتمع.
لو افترضنا بأن كل طبقة من الطبقات الثلاثة تتكون من آلاف العاملين والمريدين من حولها، فإننا سنتوصل إلى نتيجة، بأن الدولة هي إدارة المجتمع بواسطة مجتمع أرقى منه، ولهذا فإن أوجلان قدم تعريفه الجديد للدولة: بأنها تتألف من مجتمع تحتي يتركز فوقه مجتمع آخر، وهكذا فالدولة ليس كما يعرفها كل واحد بأنها ملك له، بل إنها ملك لأقلية ومحصورة بها.
فالدولة بصريح العبارة، هي ذاك التفاهم الجاري بين أقطاب الطبقة العليا فيما بينهم، على حساب المجتمع التحتي، وهكذا فالدولة هي ملك لمن هو صاحب الثروة، وماسك بزمام الأمور فيها.
والدولة ليست عبارة عن تلك الإدارة غير المرئية والمراسم العامة والرئيس ورئيس الوزراء وغيرهم من الشخصيات، فهؤلاء هم أيضاً موجودون ضمنها، لكنهم إكسسوارات مكحلون لها، ومظاهر خداعة لإخفاء وجهها الحقيقي، فليس هناك في الدولة إلا مجموعة لصوص، يحاولون الاستيلاء على المجتمع وثرواته، باستخدام أساليب الترهيب والضغط، ولهذا فإننا لا نستطيع مقارنتها بالديمقراطية، بل إنها شكل نظام خلق ليقف في وجه الديموقرطية، وهي في الأساس قد تكونت على مبدأ الانصياع لإرادة الراهب بأساليب الإقناع العسكرية.
من الجدير بالذكر أن نلاحظ بأن المؤسسة العسكرية لأي دولة، هي المؤسسة الأكبر والأكثر اهتماماً، وهذا لم يأت من فراغ، وكذلك القوة العسكرية لا تختزل بالعساكر فقط، فالحارس والسجان وضابط السجن والاستخبارات والشرطة العسكرية والضباط كلهم، جنودٌ لدى الدولة.
إنَّ عقول شعوب بأكملها قد تشربت بهذه الثقافة، هذا ما رأيناه في ألمانيا الهتلرية، والنظام في تركيا أيضاً، فعندما تهتم دولة ما بقوتها العسكرية، ذلك يعود إلى ثقافة التاجر التي تعتمد حقيقتها على امتلاك كل شيء، ووضع اليد على ثروة الآخرين بالحيلة والكذب، دون أن يترك لهم شيئاً.
بقي أيضاً أنْ كل دولة حين تحاول أن تربي المزيد من الأشخاص ذوو الكفاءة والاهتمام بالأيديولوجية، ينبع من اهتمامها وحاجتها لهؤلاء الأشخاص، الذين يعرفون كيف يقنعون مجتمعاتهم.
إنَّ هذه الخصائص الثلاث، تجتمع لتشكل شيئاً واحداً اسمه « هوية الدولة .« حتى بداية ظهور الرأسمالية كان الرهبان أو الطبقة الأيديولوجية هم من يحكمون الدولة، وكان العسكر يخدمون ويعملون لصالح الدولة، أما طبقة التجار فكانت دائماً في خدمة تلك الطبقتين وتحت سيطرتهما وجل ما يهمها هو التمسك بزمام الأمور التجاريةً وصرف البضاعة، فهم بالحقيقة مجموعة أناس لا ملك لهم، ويعد كل ما اكتسبوه من تجارتهم بالسرقة والنصب، بعد القرن السابع عشر بدأ هؤلاء التجار في أوروبا بالاستيلاء على الدولة خطوة خطوة، وطوروا من أساليبهم لهذا الهدف، و قد سمي هذا بعد ذلك بالرأسمالية، وهذه هي المرة الأولى التي يسيطر فيها التجار على السلطة بمساعدة العسكر، و بدءوا بتشغيل المؤسسات المنتجة للأيديولوجيات والمؤسسات الدينية والعلمية، والعاملين في مجال الفنون، ليعملوا لصالحهم، وهكذا أصبحت الدولة الرأسمالية )دولة الأمّة(، باسم آخر هي )دولة الحلم( بالنسبة للكثيرين مع بداية القرن الثامن عشر، مع أنها بالأساس هي شكل الإدارة الجديد لهؤلاء اللصوص.
هنا لا نستطيع التوقف كثيراً عند مفهوم دولة الأمّة، وسنكتفي بالتعريف، حيث يلزمنا التوقف على الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين.
إذا لم يكن النظام وهذه الدولة سلطة لصوص، لم تكن لتلجأ إلى الكسب عن طريق قتل الناس، ولم تكن لتقيم كبرى شركاتها الرأسمالية بإنتاج السلاح، وكي لا يكون هناك مجال لسوء الفهم، فمن الواجب علينا شرح ما نقصده باللص.
إنَّ المقصد باللص هنا ليس ذاك الشخص الذي يسرق قطعة الخبز من البقال، أو ذاك الذي يدخل بستان جاره بدون إذن منه للحصول على بعض الفاكهة، لكن اللص هو ذلك الذي ينتج وينشر أيديولوجية السرقة، وينفذ من عقاب القانون، وينظم الجيوش لتأمين نفسه، ويقتل ويعذب ويودع الناس في السجون، ويجمع المعلومات و يصفي المعارضين له، أي أنها القوة التي أوجدت نظام الرأسمالية المستحدثة.
حسب هذا المفهوم يجب التركيز على علاقة الدولة بالديمقراطية، والتحقيق في هذا الجهاز الذي يسمى بالدولة، لأن الدولة لا يهمها شمول الفقراء والمستضعفين بأي شكل من الأشكال، فالدولة هي العنوان الذي يجمع تلك المؤسسات التي تشترك في قهر وإفقار المجتمع لصالح الأسياد.
إنَّ الديمقراطية هي السلاح الوحيد الذي يستخدمه الفقراء للمطالبة بحقوقهم في الحرية والمساواة، إنَّ الإدارة التي تخالف مفهوم الدولة، إنّما هي ديمقراطية ولها معتقدات ديمقراطية بسبب تلك الخاصية‘ وإنَّ من بقي يقاوم التصنيف الطبقي خارج حدود المدينة حتى يومنا هذا كمجتمعات القبيلة والعشيرة والتجمعات الدينية والمذهبية والأمم والشعوب التي ليس لها دولة، إنما هم أنفسهم قوة ديمقراطية بأركانها، إذاً من حيث المنهج فالحضارة هي الديمقراطية بعينها.
إنَّ الماركسية والأيديولوجيات الليبرالية، جعلت من الديمقراطية مفاهيم ومؤسسات معتمدة على العلاقة بين المدنية والطبقة والدولة، وهذا تضارب كبير، وعندما وضع النظام الديمقراطي تحت مظلة )المدنية – الطبقة – الدولة(، فقد تفتت وأفرغت الثقافة الديمقراطية من معناها، خاصة في الدولة التي كان فيها عنصر )المدنية – الطبقة( هما الأقوى، وهكذا ظلت الحضارة )التي أنشأتها الدولة(، كنظام مزدهر ويتطور باستمرار، عكس ما هو الحال بالنسبة للثقافة الديمقراطية المعارضة لها.