مصارعة الواقع

مصارعة الواقع

الاسم والكنیة:محمد علي طوري

الاسم الحركي: باور

تاریخ الانضمام: ١٩٩٤

تاریخ الاستشھاد: 2000قندیل

على بعد الحدود بین الذكرى والخیال تدفقت الكلمات تعبر عن تلك الشخصیة التي كانت ولادتھا بین ربوع الوطن الخالد وتناغمت شمائلھا تغرس أطیاف الشباب ولوعة العشق والحریة بین صفحات الأمل. فكما ھي الأرض ظل السماء كذلك الإنسان ھو ظل الوجود في ھذه الحیاة التي ولدت وتناثرت مكامنھا في العقول والأفكار. ذلك الكائن الضعیفالذي ولد على سطح الأرض وبدأ یواجھ مصیره في معركتھ مع القدر والمجھول الذي ینتظره في كل مكان. قصة ذلك الإنسان والكائن الذي كان من نتاج أفكار وامتداد الحیاة والعمر الذي ینطفئ في كل شرارة تندلع وھي تحرق معھا صفحات التاریخ المكتوب والتي دونتھا الأنظمة التي تتحكم بمصیر الإنسان والحیاة، التي تلھو بھا من دون ھوان وكما تشاء. تلك الفلسفة التي تسمى فلسفة الموت والتي تتبخر كسرب من الخیال في دروب العمر. لكن یظل ھدف الإنسان الثوري في ھذه الحیاة ھو العمل لیل نھار في سبیل الانتصار على الباطل ومصارعة الموت والنسیان في كل مكان وزمان.

أینما وجد الظلم فھو موطن ) « أرنستو تشي غیفارا » وكما یقول الثوري الثوار، الشجعان وعشاق الحریة). فالرفیق باور ذلك الطفل الودود الذي كان وحسب اسمھ منبع الثقة والصداقة الحقیقیة التي لم تترك للمرء مجالاً للشكوك والتفكیر في حقیقتھا وھي تظھر للمرء وبشكل واضح جوھر الصداقة وخصائصھا التي كان یجسدھا في شخصیتھ أینما ذھب. لقد كانت وقفتھ وطبیعة علاقاتھ في الحیاة تتكلم وبلغة الصمت، تلك اللغة التي لا تحتاج لوصف وجھد كي یتعرف المرء على جوھرھا الذي كان ینطق من صمیم فكر وقلب ینبضبالصداقة، الإباء والصرامة في مواجھة المجھول. لقد كانت شخصیة ولدت واعتمدت منذ نعومة أظافرھا على نفسھا في كل صغیرة وكبیرة في الحیاة، عن طریق حقیبة أفكاره والتي كانت تخبئ لھ الكثیر بین زوایاھا وھو ینبش بینھا ویواریھا بین رفات الماضي، الحاضر، المستقبل والمجھول.

لكن تحكم العقلیة الذكوریة والتي تمتد جذورھا ل ٥٠٠٠ سنة، تلك الفلسفة المتسلطة والتي تتحكم بمصیر المجتمع وتتصرف بكل صغیرة وكبیرة في حیاتھ، كانت تتغذى على العلاقات العائلیة التي كانت تستند على التحكم بالمجتمع الكردي عن طریق الأعراف البالیة التي تطارده في كل مكان وتأبى إلا أن تحفر قبره وھو ما یزال على قید الحیاة لكي تنال من أفكاره التي ولدت لتعیش حرة بین ربوع ھذه الجغرافیا الجمیلة والتي تھب الحقیقة للإنسان وتجعلھ یتعرف على نفسھ من جدید.

الرفیق باور ذلك الطفل المسامح والشاب الطموح والمناضل البعید عن تحكم الذھنیة الذكوریة المتسلطة بأفكارھا ونوایاھا الشریرة التي تذكیھا الجھالة والأعراف البالیة. تلك الذھنیة التي لا تخدم سوى مفاھیم الدولة والنظام الحاكم وھي لا تعمد سوى إلى شل حركة الحیاة التي باتت على حافة الموت بعدما توقف فیھا نبضالمحبة والأمل. تلك المفاھیم التي تنظر للحیاة نظرة سوداء لا تقطنھا ولو شرارة أو نقطة ضیاء تستمد منھا الأفكار الانطلاقة نحو عالم یخلو من القتل وسفك الدماء. فأفكار ومساعي الذكورة المھترئة والتي لا تفكر إلا بمصالح العائلة الضیقة والدوران في دوامة الضیاع التي تظل تخدم في النھایة مساعي الدولة التي تسعى لفرض قبضتھا على المجتمع والتي كانت تعیق دروب حیاتھ التي كان یسعى أن یشعلھا بأفكاره ویضيء الكون من حولھ وھو یحتضن الصداقة التي تحملھ وتحمل جمیع رفاقھ الذین كانوا من أمثالھ لتطوف بھم في عالم لا تطالھ ید الموت والتھور المستبد الذي یقضم عقول وآمال الحریة. مستقبل لم یكن یشرق بالأمل كان یترصد دربھ في كل خطوة كان یخطوھا، لأن والده وفي كل مرة ومرة كان یحرضھ على الانخراط في مسائل الثأر التي لا بدایة لھا إذا كنت جسورا فًقم » ولا نھایة، وكان یردد لھ دائماً ویقول بأخذ الثأر من الذین ھدروا دماء أجدادك وقاموا بتصفیة أبناء لكن الرفیق باور لم یكن یولي أي اھتمام .« عائلتك فردا – فرداً لكل ھذه الأقاویل والتقربات التي لم تكن تعني شیئاً بالنسبة لھ  وكان یرد علیھ في كل مرة بالكلام الذي لم یكن یطیب خاطره. وقد كان یعي بوضوح مغزى الكلمات والأقاویل التي كان والده یرددھا في وجھھ في كل مرة وھو یحرضھ على الثأر وسفك الدماء والانشغال بمسائل الانتقام التي لا تنتھي ولم تكن تفید بشيء سوى تعمیق الجروح أكثر، لأنھا بمثابة النار التي تندلع في كومة قش وتحولھا في النھایة لكومة رماد تحرق معھا كل شيء حي، ولا تجلب معھا سوى المزید من تأجیج الویلات والأحقاد التي تولد بین الناس ولا ینتھي دخان نارھا مھما طالت العقود.

كان الرفیق باور وفي كل الأوقات التي كان یدور فیھا النقاش بینھ وبین والده یقوم بالرد علیھ ببعض الكلمات ومن ثم یغادر البیت ویتركھ في حالھ. لكن في یوم من الأیام وحینما بدأ والده بفتح الموضوع وبادر إلى رشق الرفیق باور بوابل من الكلمات القاسیة جعلت الرفیق باور یرد علیھ قائلاً: أنا سوف أحارب عدوي الأساسي وسوف أنخرط بین صفوف الثورة لكي أعیش حرا وًأحرر وطني وشعبي الذي یعیش تحت نیر الاستعمار والطغیان، ولن أضحي بنفسي لأجل العائلة والانشغال بالمسائل الضیقة التي لا بدایة لھا ولا نھایة وإن كنت تزعم بأن مسائل الثأر ھي مسائل الجسارة والبطولة والشرف وتعتبرھا أشرف من النضال في سبیل تحریر كردستان وتحقیق حریة شعب بأكملھ فلتكن تلك البطولة والشھامة لك فأنا لا أریدھا.

كان الحدیث یشتد ویحتد بین الرفیق باور ووالده الذي كان یحاول وبكل الوسائل التأثیر علیھ وتحریفھ عن مساره الذي كان ینوي المضي فیھ وجعلھ یسیر حسب أھواء العائلة ویعمل حسب ما یملیھ علیھ والده وعمھ وأفراد العائلة. ولكن عندما لم تنفع كل تلك المحاولات والمسائل المتعلقة بالثأر والتحریض مع الرفیق باور، الذي كان في كل مرة یرد على تلك المحاولات ویصر على قراره وتعلقھ بالحزب والقیادة والانخراط بین صفوف الثورة للنیل من العدو وتحقیق الحریة للشعب الكردي، حینھا بدأ والده یستعمل سلاحا آًخر لمواجھتھ والتأثیر على قراره الحاسم فقال لھ: لا تیأسیا بني، لقد عرفت ماذا ترید نعم عرفت وبعدھا قال لھ: سوف أزوجك من الفتاة التي تختارھا وسوف أشتري لك سیارة وأبني لك بیتاً لا مثیل لھ و…. الخ

كل ھذه المسائل والمواضیع كانتمجرى الحدیث والنقاش الذي كان یدور في كل فترة وفترة بین الرفیق باور ووالده الذي كان لا یملك بصیصاً من الأمل لحل القضیة الكردیة وكان یردد دائما وًیقول: القضیة الكردیة صعبة ولا یمكن لھا أن تحُل، لأن الحیاة جاءت ھكذا وسوف تنتھي بھذا الشكل وعلى ھذا المنوال.

تلك الكلمات كانت من بین الكلمات التي كان یتمتم بھا بین الحین والآخر وكانت تولد في نفسھ ونفوس من حولھ الكآبة والاشمئزاز، لأنھ كان یتطلع إلى الحیاة بعیون تكاد تنطفئ فیھا شرارة الأمل بالحیاة والتغیر ویرید من خلال أقوالھ أن یجر باور إلى إطار مصالح العائلة والرضوخ لمآربھا في الثأر والانسیاق نحو الھاویة التي لا مفر منھا.

تلك المفاھیم البالیة التي كان من الواضح بأن نھایتھا ھي الضیاع والاقتتال بین الأخ والأخ وبین الجار والجار ولأتفھ الأسباب التي لا تنتھي ولا یجني منھا المرء شیئاً. كل ھذه المسائل وسواھا باتت مثل العقدة العمیاء في المجتمع الكردي تھدده وتسعى لتفكیكھ وتمزیقھ وتفتیتھ إلى شظایا لا متناھیة كمرض السرطان وتلتھب ناراً وحقدا یًتجدد من دون دواء.

باور ذلك الشاب الذي كانت تعترض طریقھ كل ھذه المصاعب والمآسي كان یعیش بین نارین؛ فمن جھة العائلة التي كانت تفرض علیھ وتجبره على الأخذ بالثأر والقیام بغسل العار كما تسمیھ والدخول إلى مسرح أحداث لا یحصد منھا سوى الكوارث والتھور، ومن جھة أخرى رغبتھ في الانخراط بین صفوف الثورة والتوجھ نحو الانتقام الكبیر من الأعداء وتحریر الشعب الكردي وكردستان الأم الكبیرة والتخلص من نیر الظلم والجھالة الذي یقید الشعب الكردي في كل مكان. فمنافع العائلة الضیقة والجھل الذي كان یواكب مسیرتھ منذ الصغر رسخا في شخصیتھ انطباعاً شاذا جًعلھ ینتفض في داخلھ ویصارع الواقع المأساوي الذي كان یعیش فیھ ویبحث عن طریقھ للتخلصمن تلك الظروف، الأوضاع والحساسیات التي كانت تقیده وتعیق تدفق أفكاره التي كانت تتطلع نحو الحریة والطیران في عالم بلا حدود. لذا كان ظھور حركة حزب العمال الكردستاني على الساحة بالنسبة لھ بمثابة مفتاح أمل یحقق من خلالھ طموحاتھ ومساعیھ التي كانت بالنسبة لھ نقطة أمل وبدایة طریق مكلل بالنجاح والأمل، وھو یركب أمواج الحیاة كطیف من أطیاف الشمس المشبعة بأفكار القائد آبو ونداء أرواح الشھداء الخالدة والتي كانت تھبھ الأمان، الحریة والإرادة الحرة. ذلك الفتى الشاب، الشجاع والرفیق الطموح باور،صاحب العزیمة التي لم تكن تقھر والخطا التي لا تتزعزع عن مكانھا، والوجھ الحنطي الذي كان یتطایر بین نفحات الأفراح كسنابل القمح التي تقاوم الریح وھي تھب الحیاة من جدید. تلك المشاھد والحقائق كانت تظھر بوضوح بین نظرات عینیھ التي كانت تتدفق منھما الجسارة، المودة والإباء بكل ما تتضمنھما من المعاني التي تنطق بكل شيء دون أن تحتاج إلى الكلمات التي تعبر عنھا أو تصف ما یجول في القلوب والأفكار. وكما یقول المثل في الكثیر من الأحیان عندما تنطق الكلمات حینھا تنتحر وتموت الھواجس والأحاسیس.

لقد كان یتحاور مع نفسھ ومع كل أصدقائھ والرفاق م حولھ مستخدماً لغة الصراحة، الأمان، الحب والمحبة التي كانت بالنسبة لھ وسیلتھ للتحاور مع نفسھ ومع الوسط الذي كان یحیط بھ ویعیش فیھ، عن طریق التقرب من جمیع الرفاق والأصدقاء دون التفریق بینھم، لأن جمیع الناس كانوا بالنسبة لھ كأسنان المشط سواسیة لا فرق بین الصغیر والكبیر والرجل والمرأة. قلبھ الواسع وخفة روحھ كانت تتسع لاحتضان العالم بكل جوانحھ. كل المعاني، المبادئ السامیة والأخلاق العالیة كانت تنبع من تقرباتھ وھواجسھ التي كانت تطفو في نظرات عینیھ والتي لم یكن یصعب علیك أن تتعرف علیھا. تلك الشخصیة كانت واضحة وضوح الشمس وصافیة صفاء الحب وباقیة بقاء الذكریات وصادقة صدق ووفاء الشھداء. قامتھ المتوسطة وابتسامتھ التي قلما كانت تفارق شفتیھ وھي تتلذذ بتلك العظمة التي اكتسبتھا من شموخ وكبریاء تلك الجبال التي لا ترضى الخنوع، الذل والنسیان.

تلك الجبال الشاھقة والمناظر الخلابة والأرض المعطاء التي تھب روحاً طلیقة، نبرات صافیة، شخصیة صادقة، شجاعة وتمتلك روح المغامرة وتكتسي بعنفوان لا متناهٍ، تلك الطبیعة والجبال التي كانت وباستمرار تغذي أفكاره وعقیدتھ وھي تقوم بتكوین شخصیتھ التي كانت تمتلك روحا مًعنویة عالیة یوزعھا من دون بخل على كل من حولھ من الرفاق والمناضلین من حاملي رسالة الشھادة. لذا حینما تلتقي كل ھذه الصفات والخصوصیات في شخصیة فلا بد أن تكون تلك الشخصیة قریبة كعصب الورید من المرء وھي تغذي الروح، الضمائر والقلوب المتعطشة بالثقة والمحبة التي منحتھا القیادة والثورة للمجتمع الكردي من جدید.

لذلك مھما كان التسلط، القمع والدمار كبیرا سًتكون بالمقابل المقاومة، الصمود والتصدي أكثر تأثیراً، وسوف یكون بمثابة صرخة وصاعقة في وجھ الاستعمار. لذا كانت ولادة كل ھذه الشخصیات من أمثال الرفیق باور وكثیر من شھدائنا الأبرار من بین ھذا الواقع والذي أضحى وجھا لًوجھ أمام مواجھة التاریخ والواقع المریر الذي یعیش فیھ المجتمع الكردي في كل لحظة.

كل تلك الحقائق وسواھا كانت تجعل الرفیق باور یعي بشكل واضح المھام والواجبات التي یتوجب علیھ أن یقوم بإنجازھا في الحیاة، وذلك من خلال تمثیل الأھداف، المبادئ، الأخلاق والأفكار التي تأھلھ للوصول لامتلاك تلك الشخصیة  الناضجة والقادرة على مقاومة العدوان في كل مكان وبكافة الوسائل.

التضحیة بالنفس كانت من بین أھم الخصوصیات التي كان الرفیق باور یتصف بھا، كذلك السعي للوصول لجذور المسائل ومقاومة الواقع من دون خوف من الصعاب ساعیاً لإحلال التغییر والتجدید في كل جوانب الحیاة من خلال شرارة الأمل وإشارات النصر التي كانت تنطق في جبینھ وعاطفتھ وأحاسیسھ المشبعة بالحب والمحبة التي یكنھا للشعب والوطن، من دون التفكیر بحیاتھ الشخصیة وحیاة العائلة وھو یقوم باستخلاص التجارب من الماضي المریر عن طریق العیش مع الحاضر بكل حذافیره والتنبؤ بالمستقبل المجھول عن قرب.

كانت بدایات وانطلاقة تلك الشخصیة بھذا المستوى من الاندفاع المليء بالأفكار النبیلة والمعاني السامیة والروح الطلیقة التي تأبى إلا أن تطیر كنسر في رحاب سماء القلوب وبین صفحات ملحمة الإنسانیة المدونة بأفكار العظماء، المضحین، الثوار الشجعان الذین یقاومون الموت والنسیان دون أن یبخلوا بدمائھم وبكل ما یملكون من وجود في ھذه الحیاة. بتلك النظرات التي كانت الصداقة والمحبة تتدفق بین مجاریھا بكل معنى الكلمة، وھي تفوح عطورا وًأمواج نور تخترق كل الحواجز والحدود التي تفصل بین القلوب العاشقة والساھرة على حریة الوطن.

لذا كان العبور إلى ساحة الحرب، ساحة الثأر والانتقام بالنسبة لھ بمثابة میلاد جدید وانطلاقة حرة، وھو یطلق عنان أفكاره وروحھ لتحلق عالیا،ً دون أن تمنعھ أیة قوة في العالم عن تحقیق أھدافھ في ھذه الحیاة. فكل ما كان یتمناه ھو الوصول لتغییر المفھوم الحاكم في الواقع الكردي بكل ما یعیشھ من مآسي وآلام تشتعل بھا الحروب وما تسكبھ من دماء وتحترق فیھا الأیام وكأنھا أعواد ثقاب وتنتھي الأرواح في غمضة عین وكأنھا شموع تنطفئ في الظلام دون أن تضيء شبرا مًن حولھا، مثل الصخر الذي یقع في قعر البئر ویختفي عن الأنظار.

كل ھذه الحقائق كانت تواجھ الرفیق باور وھو یظل یجابھھا بلا ھوان ویعیش بین مجریاتھا التي لم یرضَ الرضوخ لھا كالشرارة التي تنطفئ في لحظة وفي غمضة عین بائسة.

لكنھ وعلى الرغم من كل ذلك اختار الحیاة الحرة التي یزداد بریق لمعانھا كلما مر علیھا الزمان لتلتھب شمعة وناراً ووجودا یًتجدد في عالم البطولة والفداء التي تنطق وتحیا في قلوب وصمیم الملایین، وھي تھب المرء الوجود وتكسبھ معنى الحیاة. مثل الفنان الذي یرسم الصور على لوحة أفكاره قبل أن یجعلھا تنطق على الألواح الخشبیة لتبقى حیة في القلوب وتتدفق في مجاري الحیاة. مثل الطفل الذي یتلذذ بحنان وحب أمھ وھو یتأمل جمال بحر عینیھا اللتین تجعلانھ ینسى نفسھ وھو ما یزال في المھد لیطیر بلا جناحین في غمرة فرح وسعادة لا یعوضھ عنھا أي شيء في الحیاة. كل ھذا والمزید من الھواجس كان الرفیق باور یعیشھا عندما كان یخترق الحدود لیدخل ساحة الحرب، ساحة أخذ الحساب من الأعداء الذین اقترفت أیدیھم الكثیر من المجازر بحق الشعب الكردي والإنسانیة، وھو یمتشق السلاح الذي سوف ینتقم بھ من أعدائھ، ذلك السلاح الذي طالما كان یحلم أن یمتشقھ لیفرغ بھ جام غضبھ على الأعداء وینتقم من الماضي المریر ویثأر لآلاف الشھداء.

صراحة ونطق أفكاره كانت تھبھ القوة، الإیمان، الثقة بالشخصیة، بالإضافة إلى المعنویات التي كان یستمدھا من أفكار القائد وارتباطھ بالرفاقیة وبعظمة الثورة. الثورة التي جعلتھ یضحي بكل ما یملك في سبیل مواكبة دربھا والوصول بھا إلى النصر، الأفكار والمبادئ التي لم تكن تقبل الشكوك والتردد في مساعیھا وآمالھا، سعى لتحقیق الأھداف المرجوة  والتي كان الوصول لتحقیقھا قدیما صًعب المنال.

بھذه الشخصیة والخصوصیات التي كان الرفیق باور یتصف بھا احتل حیزا كًبیرا فًي قلوب جمیع الرفاق من حولھ. لقد كان شخصیة ناضجة وتعي المسائل بكل وضوح من خلال طبیعة العلاقات التي كان یقوم بإنشائھا والتي كانت تستند إلى المعرفة والثقة بالحزب والقیادة التي كلما تعمق المرء في فھمھا وھبتھ المزید من الانضمام والجسارة التي لا حدود لھا.

انخرط بین مجاري تلك الحروب الطاحنة في كل المناطق التي كان یتواجد فیھا، فأینما وجد الظلم والعدوان كان الرفیق باور یقف لھما بالمرصاد دون أن یتردد ولو للحظة واحدة وبجسارة تكاد تفوق الحدود والتي كانت تجعلھ موضع ثقة جمیع الرفاق وفي كافة الساحات والمھام التي كانت توكل إلیھ.

فجدیة العمل الثوري العالیة التي كان الرفیق باور یتصف بھا كانت تكسبھ انطلاقة وروحا مًعنویة عالیة في سبیل تحقیق المستحیل وإنجاز المھام التي كانت توكل إلیھ على أكمل وجھ. كانت الحیاة بالنسبة لھ تمثل النجاح والتضحیة من أجل الصداقة، الرفاقیة والعیش الحر والوصول للعظمة، دون الانجرار وراء المسائل الفارغة والتافھة والتي لا تجلب إلا الضیاع والتقزم للشخصیة ولا تبني إلا شخصیة عبدة للعائلة والمجتمع وأسیرة لعواطفھا وأھوائھا ونوایاھا التي لا تخدم

سوى سیاسة النظام ومآربھ في الحیاة.

صحیح أنھ لم یكمل دراستھ ولم یكتب لھ أن یتممھا كباقي أصدقائھ ورفاقھ بعدما تركھا لكي یساعد عائلتھ ومن بعدھا انخرط بین صفوف الثورة، لكنھ تعلم في مدرسة الحزب والقائد آبو الكثیر- الكثیر من الأمور التي كان یجھلھا والتي كانت بالنسبة لھ بمثابة خزینة وكنز من العلم والمعرفة التي لا تفنى. كانت ولادتھ الثانیة في مدرسة الحزب التي تعلم فیھا الكثیر من المسائل التي لم یكن قد تعلمھا لا من أمھ ولا من أبیھ ولا من عائلتھ ولا حتى من معلمیھ في المدرسة.

لأن مدرسة الحزب والقائد آبو علمتھ الحب، المحبة والجمال، علمتھ كیف یتعرف على نفسھ وكیف یتقرب من حقائق ھذه الحیاة التي كان ضائعا بًین مجاریھا مثل سفینة في عرض البحر تضربھا الأمواج من كل صوب، علمتھ حقیقة تاریخھ وشعبھ وجوھر النضال الثوري الذي یخوضھ الشعب الكردي تحت رایة حزب العمال الكردستاني وكیفیة التصدي لكل الصعاب والمآسي التي تعیق طریقھ.

أعطتھ الجسارة، الفكر، الإحساس، الشخصیة الحرة وأنقذتھ من الضیاع في دوامة القدر المحتوم الذي كان یترصد دربھ في كل مكان وفي كل لحظة من لحظات عمره التي كانت لولا الحزب والقیادة ستحترق مثل سیجارة في غمضة عین غافلة. لذا كانت كل لحظات مسیرة حیاتھ بمثابة صرخة، عصیان وثورة في وجھ الحیاة البالیة والأعراف والواقع الذي فرضھ العدو بسیاستھ وحربھ الخاصة التي یسعى أن یدفن بھا كل آمال وأحلام الشعب الكردي.

كل ھذه المسائل والمزید – المزید منھا تعلمھا في مدرسة القیادة والحزب. حینھا بدأت الوقائع والحقائق تتراءى لھ بشكل مغایر وبدأ یتأملھا ویتصفحھا بعیون یملؤھا الضیاء وصراحة العواطف، الھواجسالتي تجعلھ یتقرب من جوھره بعزة نفس وقلب عاشق یتعلم لغة أوجلان ویتمرسعلى فنونھا في الحیاة وكیفیة مواجھة الموت وخلق الحیاة الحرة الخالدة وھو یكتسي بالمبادئ السامیة والروح الحرة التي تمتطي صھوة الجبال وتأبى إلا أن تطیر مع النجوم في سماء الذكریات التي تحیا في القلوب وھي تتلألأ على صفحات الخیال والأفكار.

بعدما جعلت من مسیرة حیاتھا وولادتھا ملحمة وأسطورة للشھادة في عالم البطولة والفداء.

فقد كان مثل اسمھ باور أي صاحب الثقة، القناعة والإیمان، كحقیقة لا تنفصل عن جسد وأفكار ترید التحرر من القید وتنادي بالمستقبل، الشعب، القیادة والسائرین على طریق الشھداء والشھادة. لأن لغة أوجلان ولغة الحیاة الرفاقیة علمتھ أن یكون صریحاً وصادقاً مع نفسھ، رفاقھ، وطنھ، شعبھ وقائده. لذا أراد الرفیق باور أن یصل لھذا المستوى من الثقة التي وھبھا لھ القائد، الشعب والرفاق ویكون عند حسن ظن الجمیع. وكان یعي بكل وضوح بأن الطریق الوحید لامتلاك ھذه الشخصیة والوصول إلیھا یمر عبر النضال والفوز بالشھادة. لأن طریق الشھادة ھو الطریق الوحید الذي تلتحم بھ كل ھذه الأقانیم مع بعضھا البعض وتلتقي كنقطة ضیاء، تقتل الموت والظلام وتھب الحریة للحیاة والإنسانیة من جدید في رحاب الوطن الخالد.

إلى ذكرى الشھید باور

في صمتك

في صمتك

وعلى شفاه جراحك

أقرأ ملحمة بطولتك

تلك العینان المفتوحتان

الابتسامة الأخیرة

و الجسد الجامد

رائحة البارود

وصوت الرصاص

ھي دلائل عظمتك

صوتك ما یزال یدوي

في أذني

حطمت كل الصخور

مزقت سكون اللیل في عتمتھ

أضأت النور في أرض

كانت عطشى لدم الشھید

أین أنت عزیزي

لم أرك منذ أمد بعید اشتقت إلیك

وإلى التمتع بابتسامتك

سمعت أنك رحلت

رحلت دون وداع

لمَ رحلت دون وداع

عد ولتعزف ألحان الرحیل

لحن الوداع على (الطنبور )

لقد تركتھ وحیداً

أوتاره اشتاقت إلیكَ

رفیقي أقسم بدمك

إني على دربك لسائر

و سأكمل لعبة طفولتنا

انتظرني إنني قادم

انتظرني إنني قادم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى