نحو أرض الخلود
نحو أرض الخلود
الاسم والكنية: ريبر حاجي
الاسم الحركي: هوشنك
تاريخ الالتحاق: 1994
تاريخ الاستشهاد: 1996
حفتانين سنح
عندما يسكب المرء بوعاء عواطفه على الصفحات البيضاء كالثلوج التي تزين الجبال، حينها يدرك بأنه يملأ الوعاء بأجمل الألوان من حديقة أحاسيسه بين مروج وثنايا قلبه الغض، حينها ينطلق ذاك القلم ليسطر بكل حرية أجمل القصص عن أناس يتطلعون إلى الحرية.
هل الحرية أمٌّ حنونٌ تربي هؤلاء الذين تسلقوا حبال الأمل ليصلوا لذروة العظمة كأبناء أوفياء لأمهاتهم؟ هؤلاء الأبرياء الذين طحنت مسننات الظلم والحرمان خيالاتهم الجميلة من اللحظة الأولى من ولادتهم، لينهضوا على صوت أمهم (الحرية) وهي تفتح ذراعيها الناعمتين بكل سخاء، متكئين على عصا الوجدان متجهين نحو أمهم الطاهرة. ها هو أحد أبنائها ذو الملامح الهادئة ينادي أمه في صمت، لينظر إلى الأفق بتأمل عميق. ذاك الطفل الذي ولد في شباط عام 1975 في أصعب الليالي وأقساها ليجتاز حدود الأوطان وهو لا يزال وليد سويعات. فبمقدار الأسى والحرمان الذي يعاني منه الشعب الكردي والوطن في ظل الظلم والطغيان تكون الانطلاقة أشد نهوضاً. ذاك الطفل هو (ريبر) الذي ترعرع في كنف عائلة كانت السند دوماً لكل الثورات التي اندلعت في كل أجزاء كردستان. مع ولادته تنهار ثورة جنوب كردستان التي كان يقودها القائد برزاني والتي كان لانهيارها انعكاسات سلبية على العائلة بأكملها. ففي تلك الرقعة الخضراء التي تحتل جزءاً من كردستان بخصوصيتها ومن ضمنها منطقة (ديريك) أو الجزيرة الخضراء كما يدعونها، نظراً للأراضي الخصبة الشاسعة والتي تمتد على امتداد الأنظار، وفي ديريك ذات الأراضي اليافعة والمعطاءة والتي تمتد على أطراف نهر دجلة تستقر العائلة كبقية العوائل، فلكل عائلة قصة عاشتها مع قسوة الأيام ووطأة الاحتلال وثقل الفقر كصخرة عاتية فوق صدورهم. الصغار يكبرون ومن ضمنهم ريبر وفي عيونهم تساؤلات يرددونها على ذاتهم.
تجولت كثير من الصور في مخيلته، وتساءل دوماً عن سبب حزن العائلة، وعلى الرغم من التزامه للصمت والهدوء في أغلب الأحيان لكنه كان يخفي جسارة عجيبة ممزوجة بالدهاء والذكاء الغامض. ربما لأني أخته الصغيرة لا أتذكر صباه، لأنه كان يكبرني عمراً، لذا ألتجئ لأمي لتحدثني عن حياته. تبدأ بالحديث وتسترجع تلك الذكريات القديمة التي تجوب خاطرها ابتداءً من طفولته وشجاعته، فعندما أراد والدي أن يختبر شجاعته، أرسله في الظلام لبيت جدته، وما إن أنهى والدي كلامه حتى أخذ ريبر يسير في الطريق المؤدية لبيت جدتي دون أن ينظر خلفه. ووسط دهشة الوالدين، أسرع والدي إلى إرجاعه. عند التحاقه بالمدرسة الابتدائية بدأت تلك الخصوصيات بالبروز في شخصيته شيئاً فشيئاً. ففي السنوات الأولى من دراسته كان يكره الإجبار في حفظ الدروس ولم يكن يحمل كتاباً في يده إلا عندما يكون جاهزاً للاستفادة منه. فنادراً ما كان الأطفال في ذلك العمر يحملون الكتب برغبة منهم دون تشجيع من الأهل والمعلمين.
هدوؤه كان سبباً كافياً ليكون محبوباً من قبل جميع معلميه ورفاقه في المدرسة. إلى جانب حبه للعب والمرح وخاصة لعبة الاختباء فقد كان ماهراً جداً في لعبها لأنه كان يختار أماكن غريبة للاختباء. كان يملك أيضاً روح المغامرة والتجول في أماكن يخافها معظم رفاقه ويتسلق الجدران إلى أن انهار تحته الجدار ذات يوم وأسعفه الجيران إلى الطبيب نظراً لجروحه الكثيرة، وهرعت والدتي بصراخها وبكائها إليه، فيطمئنها الطبيب ويصفه بالأسد، حينها تدرك أمي مدى جسارة ولدها لتفتخر به. ريبر ذاك الصبي الطموح والذي كان يكبر يوماً بعد يوم ليراقب كل ما يحيط به في هدوء.
كان لاستشهاد خالي الوحيد الشهيد محي الدين في اشتباك مع العدو على نهر دجلة في عام 1989 الدور الأكبر في انخراطه في صفوف الثورة. الشهيد العظيم الذي ارتبط حتى الأعماق بالثورة وفتح الطريق أمام العائلة وأبناء المنطقة برمتها للارتباط بالثورة. ففي بداية مرحلة دراسة ريبر الإعدادية كانت الثورة في طريقها إلى فكره ليبدأ بقراءة تحليلات قيادة الحركة، لم يكن يستطيع التوقف عن التفكير والكثير من أبناء خالاته (جكدار، هزال) وغيرهم كانوا منضمين لصفوف الثورة وجميعهم في مقتبل العمر يدرسون في الكليات ويطمحون للسمو لمدرسة الحياة التي شيد ركائزها القائد أوجلان والآلاف من الشهداء الخالدين. كانوا سائرين على درب القيادة ويعيشون في دنياه التي تمتلئ بالقيم المثلى. لذا لم يجد ريبر نفسه إلا في وسط يضحي كل يوم بالشهداء وترعرع مع أحلام الدراسة التي كانت تحط به الرحال ليواكب مسيرة الثورة والشهداء، حيث عاش الثورة في داخله والتي تأججت في خلده كبركان. كذلك سلسلة الآلام المكبوتة كالظلم والإهانة التي عانى منها الشعب في كل مكان، خاصةً في الوسط الذي عاش فيه الرفيق ريبر، كانت سبباً في عدم استطاعته الالتزام بقواعد الحياة التي لا تشبع رغبات الأحرار وطموحاتهم.
إنها ذكرى الاحتفال بيوم ( 15 شباط) في لبنان والقائد أيضاً موجود هناك. كان ريبر ما يزال في الصف السابع آنذاك، والتحق بالمجموعات التي كانت تتدفق كسيل جارف إلى لبنان دون علم العائلة، بعد أن قام بترك دراسته وأعطى قراره بالانضمام مع الرفاق الذين كانوا في عمره.
يصف ريبر الوضع الفكاهي للمجموعة، خاصة عندما أخبروا القائد بأن هناك مجموعة تريد الالتحاق بصفوف الحركة. فأجاب القائد: » ليكونوا مستعدين سأتحدث معهم .» لكن عندما خرج القائد ووجدهم واقفين باستعداد وبعضهم مازال يتناول بقايا الخبز التي كانت في يده، اقترب القائد منه وسأله عن اسمه
ريبر: اسمي ريبر قائدي
القائد: في أي صف أنت؟ ريبر: الصف السابع قائدي
القائد: لِمَ تركت دراستك؟
ريبر: أريد الانضمام إلى صفوف الحركة قائدي
القائد: قد تركت دراستك فربما تتركنا نحن أيضاً. اذهب وأتمم دراستك واكبر قليلاً حينها نستطيع قبولك بيننا. عاد ريبر إلى البيت وبتلك الآمال التي بناها لتحقيق أحلامه وبإصرار شديد أتم دراسته لسنتين، وخلال تلك المدة كان يلمح دائماً للجميع بأنه لن يترك هدفه الذي كان متعلقاً به لدرجة كبيرة. عندما أرادت أمي تذكّر تلك الأيام قالت: «عاد ريبر في يوم من الأيام إلى المنزل دون أن يكلم أحداً، ورمى بنفسه على الفراش وغرق في نوم عميق. لكن في منتصف الليل استيقظنا على صوت شخص يتكلم في نومه وإذ به ريبر يتكلم في منامه بصوت مرتفع ويقول: «والله إنا من حزب « pkk ، وكرر ذلك ثلاث مرات.
أدركت والدتي بأنه شديد التفكير، لأن الشهيد ريبر كان يحمل تلك الأحلام الصادقة منذ سن مبكرة جداً، إلى جانب طموحه الكبير في تحقيقها، حيث لم يترك الرفاق للحظة واحدة. هي حياة الشرفاء الذين يعتصمون بحبل أهدافهم حتى الصميم ونار الثورة تتقد في داخلهم ونفوسهم وهم يقاومون ويجتازون كل العوائق التي تعترض سبيلهم في الحياة. حتى أتى ذاك اليوم الذي غاب فيه ريبر عن المنزل دون أن نعثر عليه، كان ذلك في عام 1991 وبعد غياب أسبوع، أدركت العائلة بأنه ترك دراسته للمرة الثانية والتحق بصفوف الحركة.
أرادت أمي مراراً إقناعه بترك فكرته وهي تقول له: » يا بني، إن جرحنا لم يندمل بعد، لأن كل شهادة لأحد أفراد العائلة في ساحة الوطن بالنسبة لنا جرح عميق ويظل يدمى طوال الحياة. فأرجوك ألا تفتح تلك الجراح مرة أخرى كي لا تدمى وتتألم من جديد ». أجابها ريبر قائلاً: «والله لو كنت أمامي جثة هامدة سأعبر فوق جسدك لأنضم ». كان يحب والدته كثيراً، لكن الواجب الوطني وتحرير الأم الكبيرة كردستان كان أقوى من كل شيء في الحياة. لأن الشعب كان بأمس الحاجة إلى أبناء أوفياء ليكونوا جواباً للتاريخ الذي كان بمثابة قدر لعين على أحلام أجدادهم التي بقيت حرة دفينة في صدورهم قبل أن يغادروا إلى مثواهم الأخير.
التحق ريبر بصفوف الثورة وقام بتسيير النضال بين الشعب لسنتين كاملتين، وأكثر صفاته البارزة كانت روحه المرحة، الصبر الكبير والفكاهة. حيث كان يقول دائماً: » إذا أراد أحدٌ إثارة غضبك فواجهه بصبرك وضحكك وبهذا لن يستطيع التأثير على معنوياتك ». كان ريبر يتصف بخصال كانت تؤهله ليكون ثورياً عظيماً في كردستان. إلى جانب طموحه في الوصول لتحقيق الشخصية المقاتلة القوية، خاصة بعد التحاقه بالتدريب وبذل جهود كبيرة في صفوف الحركة وتسيير فعالياتها، والرغبة في الالتحاق بتدريب مكثف في ساحة القيادة وتحقيق حلمه الكبير بالالتقاء بالقائد.
في عام 1993 طلب من الرفاق رؤية القائد وكان ينتظر تلك الفرصة لمدة ستة أشهر، فلبت الحركة طلبه ودخل دورة تدريبية مكثفة، وظهر صدقه وأمانته بوضوح مما شد انتباه القائد إليه كثيراً ليقول له: » إنك رفيقٌ أمين، لكن لا تؤمن لكل من حولك، لأنك ستواجه الكثير من المتلاعبين بقيم الثورة بمفاهيم أخطر من المعركة ذاتها .» وفي آخر أيامه في ساحة القيادة ودع القائد وجميع الرفاق وتوجه نحو ساحة المعركة، وفي طريقه قبل أن يجتاز الحدود قام بزيارة العائلة لآخر مرة لرؤية أمه وليبارك لجدته في ذكرى استشهاد خالي محي الدين. لأننا في كل عام نحتفل بذكرى استشهاد الرفيق محي الدين. أحضرت له أمي كل اللوازم لرحلته الطويلة نحو قمم الحرية. تلك القمم التي لطالما كان ينتظر التوجه نحوها وهو يمتطي صهوتها ليطير مع أحلامه.
أتذكر اليوم الأخير واللحظات التي ودعنا ريبر فيها، حيث أحضرت له أمي الحناء لدهن قدميه تفادياً لمشقات الطريق وقالت له وأنا أجهش بالبكاء: » عادة في ليلة الحناء عندما يصبح الشاب عريساً يأتي الناس لمباركته، أما في ليلة حناء ريبر لا أحد هنا ليبارك لك يا بني »، أجابها ريبر: » لا تحزني يا أمي فأنا عريس الوطن وفي هذه الليلة لا يستحق أي كائن كان هذا اللقب. لذا أعاهدك على أن أكون لائقاً باسم خالي الشهيد محي الدين وبقيم جميع العوائل والأمهات اللواتي قدمن أعز أبنائهن فداء للوطن .»
في اليوم التالي ودع الجميع لينطلق في رحلته الجديدة على درب الحرية. لبى نداء الوطن وانضم للكريلا بكل فرح ومعنويات عالية، كان ذلك في أواخر عام 1993 . عندما توجه نحو ساحة المعركة كان ما يزال صغيراً، كالشبل يكبر ويضحي بروحه فداء للوطن بكل صدق وبراءة.
كان يمتلك اندفاعاً وروحاً معنوية لا تعرف السكون، شارك الرفاق في جميع الأعمال بحماس كبير وهو لا يزال جديداً في ساحة المعركة. كان يود أن يحتل مكانه في الجبهة الأمامية للعمليات خاصة في مجموعة الهجوم. لذا كان الجميع يريدون أن يكونوا معه في كل المهمات التي يقومون بها. تلك الصفات كانت تستند إلى الروح الجماعية والثقة القوية برفاقية الحركة والتي كانت تخوله لكي يعطي الثقة للحركة والرفاق بإرساله إلى أكثر الأماكن صعوبة وحساسية. فعلى الرغم من كثرة العملاء والخونة ممن كانت الدولة التركية تقوم بدسهم في صفوف الحركة إلا أن ريبر كان يقول لكل الرفاق: »إن كنت لا تملك شيئاً ولديك ثقة بالقائد وبالحركة فهذا يكفيك لتملك العالم بأسره .»
تجول في الكثير من المناطق منها منطقة بستا، جودي، بيت الشباب، زاب وحفتانين التي ظل فيها لفترة طويلة. ومن المعروف أن حياة الكريلا مليئة بالصعاب واللحظات الحلوة، فمع تلك الصعاب ولحظات المعركة تقوى روح الصداقة والمودة، فالرفاق يتقاسمون كل شيء في السراء والضراء ويقومون بالتضحية لأجل بعضهم البعض.
كان هوشنك نفسه شاهداً حاضراً على الواقع الذي كان الوجدان وروح الرفاقية وحياة حزب العمال الكردستاني فيه تدفع بالرفاق نحو الفداء بأرواحهم وحمل الرفاق الجرحى على أكتافهم. وغالباً ما كان الرفاق يساعدون بعضهم في الطريق وهم يمنحون بعضهم البعض الروح المعنوية التي يخففون بها همومهم ومعاناتهم أثناء المسير. وكثيراً ما كان يقترح الذهاب للعمليات بدلاً عن الرفاق، كي لا يسمع خبر استشهاد أحد من الرفاق. حتى جاء ذلك اليوم الذي قام فيه بآخر عملية داخل حفتانين حسب قول أحد الرفاق الذي كانوا معه في العملية نفسها وقد جُرح فيها وكان يصف العملية قائلاً: « في ليلة من ليالي خريف عام 1996 كان جالساً بجانبنا حول النار وهو ينظر إلى لهيب النار الذي يلتهم بقايا الحطب اليابس. لم تمضِ دقائق حتى شرع بالقول: (سنذهب غداً إلى عملية جديدة وأنت ستكونين معنا يا رفيقة ميديا، وللخطورة الكبيرة للعملية لأنها تقع تحت حاكمية العدو، ولأهمية العملية ستتوقف إدارة العملية بنفسها على مجرى العملية). وفي اليوم التالي وبعد البدء بالتحرك نحو موقع العملية، لم يكن لدينا علم بأن العدو قد أخذ مواقعه وهو يراقبنا ويراقب تحركاتنا من الخطوة الأولى. لذا وأثناء مراقبتنا للأجهزة والأصوات لتي كانت تصلنا والتي كان العدو يحدثها على الدوام، لم نكن نعلم بأنه ينظر إلينا ويتحدث. وتوقفنا لنستريح في أحد الأماكن القريبة من موقع العملية في الساعات المتأخرة من الليل وكنا نتابع المسير بين سكون الليل واللحظات الأخيرة منه، قبل شروق الشمس. حيث كان الرفيق هوشنك يتقدمنا وكان يكتشف الطريق ويعطي إشارات البدء بالمسير، رغم أن أصابع قدمه اليمنى قد تم بترها بسبب المسير في الثلج.
مكان العملية كان على إحدى القمم التي كان الجيش التركي يتمركز فيها في الربيع ويتركها في الخريف لما لها من مكانة استراتيجية بسبب إطلالتها على كافة المناطق التي تحيط بها من كل طرف. فالعدو يقوم بحملة تمشيط واسعة بحلول الربيع ويتمركز في تلك القمم، ويعاود التمشيط مرة أخرى عند حلول الخريف كي يستطيع الانسحاب من تلك القمم في فصل الخريف. لذا وقبل أن يقوم العدو بالانسحاب من قمة «سبين داروك » اجتمعت إدارة الكتيبة لوضع خطة للهجوم على ذاك المرصد.
وبعد النقاش والتخطيط تم تجهيز مجموعة من 11 رفيقاً و 4 رفيقات للقيام بتلك العملية وكان أمامنا مسافة سير يومين على الأقدام للوصول لمكان العملية. بدأنا التحرك بسرعة كبيرة، ففي أول ليلة لم نسمع صوت أي شيء ولم نواجه أي جديد في طريقنا. لكن العدو شعر بقدومنا عن طريق كاشفات الليزر، وبدأ بقصف المكان الذي كنا نتواجد فيه، في أول طلقة لم نصب بأذى. توقف إطلاق النار لمدة قصيرة فأسرعنا بالمسير وبعد اجتياز المجموعة العائق الأول وصلوا إلى أول خندق لأخذ استراحة. تابعنا المسير حتى وصلنا إلى المكان الذي يستطيع فيه الرفاق القيام بكشف مكان العملية وكان يقع بالقرب من المرصد، وقبل الوصول للمكان المحدد وعلى حين غرة، فجأة اشتعل المكان كله بالنيران التي كانت تنطلق من كل صوب، وطلقات النار كانت تخرج من مكان آخر لا من القمة التي يتمركز فيها العدو. حينها عرفنا بأن هنالك كمين على طريقنا بالقرب من القمة، وتساءلنا عن سبب قيامهم بكشف مكانهم قبل أن نصل إليهم، ولم نعلم بأن الهدف من الطلقات كان القيام بتضليلنا وإجبارنا على سلك طريق مغاير ولفت انتباهنا لجهة معاكسة لمكان الكمين، وعلى الرغم من أننا كنا نشتم رائحة العطر والدخان إلا أننا تابعنا المسير حتى وقعنا بين قوات التمشيط دون أن ندري، وكشف العدو كل تحركاتنا بشكل واضح.
في الساعات الأولى من الصباح اشتبك الرفيق هوشنك والرفيقة دجلة ماردين مع العدو، ومن ثم وقعت المجموعة بأكملها في الاشتباك والكمين الذي نصبه العدو، ورغم محاولة الرفاق بذل الجهد للتراجع، إلا أن العدو كان يتمركز في ثلاث نقاط وكان يضيق الخناق علينا.
لم يكن هناك سوى طريق واحد يمكننا العبور من خلاله، ولسوء الحظ فذلك الطريق ينتهي إلى قمة يصل ارتفاعها إلى (40 ) متراً، لذا أصبحنا أمام خيارين إما أن نرمي بأنفسنا من ذلك العلو الذي قد يودي بنا إما إلى الشهادة أو إلى كسور وتشوهات بالغة الخطورة، أو الاشتباك مع العدو بفرق صغيرة نمنع عن طريقها تقدمه نحونا.
تلك اللحظات كانت بالنسبة لنا لحظات عصيبة لأننا كنا نصارع الموت، في تلك اللحظات كان كل الرفاق يتسابقون للتضحية والفداء وكانوا يأخذون أماكنهم في الصفوف الأمامية لإنقاذ الرفاق الآخرين. في تلك الأثناء ابتعد ستة رفاق ورفيقة واحدة عن المكان، لكن ما لبثت مجموعة من الأعداء أن قطعت الطريق، عندها لم نستطع اللحاق بهم، وبقينا ستة رفاق ورفيقة في الحصار وهنا تقدم الرفيق هوشنك بروحه الفدائية والمضحية بعد أن كان كل رفيق قد فقد الأمل في الخلاص ووضع نعشه فوق كتفه. فهوشنك الذي بقي في الخلف مع الرفيقة دجلة مادرين لحماية المجموعة من أي هجوم، كانا تحت حاكمية العدو تماماً، لذا لم نكن نراهما بل كنا بالكاد نسمع صوتهما وهما يصدان العدو ويمنعانه من التقدم نحونا، كانا يرددان الشعارات وهما يواجهان الموت وجهاً لوجه.
لم يكن هناك أي طريقة للخلاص، وفي اللحظة نفسها رأينا حفرة وعلمنا بأن تلك الحفرة تشكلت نتيجة انهيار الصخور والتراب، لكنها لم تكن تتسع إلا لدخول ثلاثة أشخاص فقط. في كثير من الأوقات العصيبة التي كنا نمر بها أثناء تلك العمليات كنا نفقد الأمل بلقاء الرفاق مرة ثانية، وكنا نبحث عن حجر صغير لنختبئ تحته أو خلفه، لكن الطبيعة كانت تقدم لنا العون وكأنها تحتضننا وتساندنا في حربنا ضد العدوان. كان العدو يسمع صوت الرصاص الذي كان ينطلق من فوهة بندقية كل من الرفيق هوشنك والرفيقة دجلة، لأنهما كانا في الصف الأمامي. كنت دوماً أسأل هوشنك الذي يملك روح الحماس دوماً كيف ينجح في الخلاص من الكمائن. لكن الوضع خطير وصعب للغاية، ورفيقي يواجه الموت ولا أستطيع فعل شيء.
كان الرفيق هوزان قائد الكتيبة وكان يوقفنا بشدة ونحن نسعى لمشاركة الرفاق في حربهم الضروس ضد العدو. لكن الرفيق هوزان كان يقول: » ليقتربوا منا أكثر وسنقوم بإطلاق النار عليهم ». انقطع صوت الاشتباك، عندها علمنا بأن الرفيقان هوشنك ودجلة قد استشهدا. لقد كانت لحظات عصيبة جداً لم يكن بمقدور المرء أن يتمالك نفسه فيها من شدة الألم، الأسى والغيظ. تلك المشاهد الحية كانت تبقى في نفوس جميع الرفاق الذين سطروا أروع ملاحم البطولة والفداء على صدر حفتانين وهم يواكبون مسيرة الشهداء والخلود. تلك الشخصية التي كانت نبعاً للفداء والحب عكست على كل من عاشرها بصفاء جوهر يلمع في عينيه اللتين تفيضان بالصدق الإخلاص للقيادة، الشهداء والشعب. صدى صوته كان يهز تلك الوديان ويخترق الجبال ليحتضن الأفق كزئير الأسد. وهو ما يزال ينادي بأعلى صوته: » يحيا القائد أوجلان يحيا الشهداء الخالدون ويحيا الشعب الكردي »، وهو يضم دمه وروحه إلى دماء خاله العظيم معلم وباني الأجيال محي الدين وجميع العظماء الذين كُتب لهم الخلود .»
حفتانين لا تبكي على شبابي
فأنا كنت بالأمس يانعاً أسابق الريح
وها أنا أسابق فرسان العظمة في السمو
أبصرت لي التلال روعة
وأنا الهائم بكل نبع أسقي ظمئي وظمأ رفاقي
لأكون وسادة كل جريح
كان الوجدان يسرق ليالي شبابي
ساهراً على آهات رفاقي والدم ينزف من الجروح
اخترتك رفيقة حزني وأفراحي
فما زرتك إلا لتكوني سندي بصخورك ووديانك
اخترت فيك بهجة العشاق
مهلهلاً على قامتك الهيفاء
فرشتُ على ترابك تواضع جسدي
ليكون حلماً أبدياً لا يوقظني، بل يزيدني نوماً
قبلتُ بك وقبلتِ بي لنكون أجمل صديقين
فقد أصبحت صيحة ولحن أروع صديقين
وغداً إذا شرقت الشمس فوق جرحي المندمل.
فقولي لجلادي بأن الدم من جرحي لا يكتب نصرك
إنه يحفر فوق الصخر ميلادي.