تاريخ حركة الحرية الكردستانية الحلقة 10
تاريخ حركة الحرية الكردستانية الحلقة 10
جميل بايك
في تلك المعسكرات كانت هناك مجموعة مثل “سمير” تخلط الأمور وتزعزع الثقة بين الرفاق، وتوجههم نحو أوروبا، والقائد كان يكافح ضد توجهات سمير وأمثاله، فعندما سحبنا قوتنا إلى المعسكرات لدى الفلسطينيين ظهرت بين كوادرنا مفاهيم كثيرة مختلفة، فقمع المستعمر والاعتقالات وأزمة التنظيم والفوضى التنظيمية حطت من إرادة ومعنويات الكوادر، ولم يبق شيء من الإرادة لدى بعض الكوادر أي تحطمت تماماً، وهؤلاء لم يعودوا يفكرون في الوطن وأي شيء من هذا القبيل، وكأنهم أفلتوا من خطر كبير على حياتهم ويريدون العيش فقط، بل وفي المكان الذي كنا فيه، وبعضهم كان يرغب من خلال نشاط سمير أن يذهب ليعيش في أوروبا، وبعضهم كان يصرح بذلك علناً، أي أن الثورة انتهت والحزب انتهى ولم يبق أي شيء، وبعضهم اعتقد بأننا سنتلقى تدريباً في الخارج ونعود، وبعضهم مشتت لا يعرف ما يجب عمله، والبعض كانوا فاقدي المعنويات وعديمي الإرادة. و”سمير” كان ينشط في هذه الأجواء لاغتنام الفرصة ويعمق الشرخ ليوجه الجميع نحو أوروبا، ولهذا فالقائد وقف على تدريب المعسكرات بذاته، وتصدى للمفهوم الذي حاول سمير ترسيخه وللمفاهيم الأخرى لدى الكوادر وأصدر برنامجاً للتدريب على شكل كتب ليكون موحداً في كل المعسكرات، ثم كلف مجموعة من الرفاق كالرفيق عباس والآخرين ليسيروا حسب ذلك البرنامج كما انضم إلى التدريب بذاته. نتيجة لتلك الجهود فشلت محاولات سمير، وتم لم شمل الكوادر بعض الشيء، وعادت الثقة والمعنويات إلى فاقديها بعض الشيء، واستمر هذا النشاط حتى الكونفرانس الأول، حيث استطاع القائد إزالة الكثير من المفاهيم المنحرفة لدى الكوادر قبل الكونفرانس، ولهذا التم التنظيم مع لملمة الكوادر، وعندما كنا نقوم بالإعداد للكونفرانس، وطلبنا مجيء الرفيق عكيد وقارا سونغور، وكنت أنا المشرف على العلاقات مع الفلسطينيين، وكان القائد قد ذهب إلى دمشق، رأيت أن البعض يأتي من المعسكرات إلى بيروت بذريعة المرض، ووقتها كنا قد استأجرنا بيتين في بيروت ليقيم الرفاق المرضى فيهما، وبعضهم كان يتلقى تدريباً خاصاً فيهما، وأنا كنت أقيم هناك بسبب العلاقات، ونحن لم نمارس ولم نسمح بالحياة الشخصية الخاصة في بيوت الحركة مطلقاً، كما لم نفعلها في أنقرا ولا في لبنان ولا في دمشق، بل كل البيوت كانت بمثابة مكاتب للحركة وأماكن للتدريب، ولم تشهد أية حياة شخصية لأي شخص، لأن ذلك يتناقض مع مفاهيم الحركة، والذين جاؤوا كانوا سمير ومن حوله، ومشكلتهم لم تكن المرض بل إلحاق ضربة بالحركة لأنهم وجدوها تسير نحو عقد الكونفرانس، ومأربهم أن لا تلقي الحركة تلك الخطوة، وقد جاء سمير إلى هناك ليخرب علاقاتنا مع الفلسطينيين، ولو تعطلت تلك العلاقات، حينها لا يمكننا عقد الكونفرانس، بل لن نستطيع البقاء هناك، عندها سيتمكن سمير من تحقيق هدفه، وكان سمير يقوم بذلك بالاشتراك مع “تانر آكجام”، بالطبع أدركنا ذلك فيما بعد، وحساباتهم هي : أنه سيحدث فراغ مع انعقاد الكونفرانس وهما سيستغلان ذلك الفراغ ليخربوا العلاقات حسب رغبتهم، أرسل القائد قارا سونغور إلى بيروت، طالباً منه أن يشرف على العلاقات بدلاً مني، لأنضم أنا إلى الكونفرانس، وعندما دخل قارا سونغور إلى العلاقات تعطلت حساباتهم، ولكن لا زال لديهم بعض الأمل، وهو أن قارا سونغور جديد في هذه المهمة ولا يعرف ببواطن العلاقات وسيتمكنون من تنفيذ ما خططوا له، ولكنني كنت قد زودت قارا سونغور بمعلومات عن العلاقات، وعن وضع سمير ومن معه وهدفهم وعليه أن لا يسمح لهم بالتدخل في شؤون العلاقات، فقد كانوا يرغبون في حضور اللقاءات، وطلبت منه أن لا يضمهم إليها لأي سبب كان، فليس لهم أية علاقة بها، فقد جاؤوا لهذه الغاية ولكن غايتهم لم تتحقق، فهم وضعوا ثقلهم لتخريب العلاقات، وعندما لم يفلحوا بدأوا بوضع ثقلهم كي لا يتحقق الكونفرانس، أي القيام بأعمال تمهد للانشقاق، ولكن جهود القائد تسببت في تقدم كبير لدى الكوادر .
عندما بدأ الكونفرانس في مكان أكاديمية معصوم قورقماز، دفع سمير بـ”داوود” إلى التحرك أولاً، ولم يتقدم بذاته ليرى ردود الفعل، وهل سيتمكن من القيام بشيء ما في الكونفرانس أم لا؟ وعندما تحدث داوود ووجد ردود فعل عنيفة وقوية من جانب أعضاء الكونفرانس والقائد، تراجع ولم يتحدث مرة أخرى، ووجد سمير أنه لن يستطيع تمرير ما خطط له, وأن موقف القائد قوي وكل الكوادر يقف إلى جانبه ويؤيدون فكره، أدركوا أنهم لن يتمكنوا من الكونفرانس أيضاً، وهذا ما أدى إلى تراجعه وعدم الظهور مرة أخرى حتى نهاية الكونفرانس, بالطبع كان القائد قد أعد للكونفرانس بشكل جيد جداً، فقد تم تدريب الكوادر ايديولوجياً، وتنظيمياً، وعسكرياً بشكل قوي، وعلى الصعيد المعنوي حدث تقدم كبير لديهم. أحاديث القائد طبعت على شكل كُتب، وتمت تلبية متطلبات الكوادر، كما حقق انفتاح المانيفستو هناك على شكل كتب حول “التنظيم” و”سبل الحل” و “دور العنف” و”الشخصية” وأضفى النقاء على نهج الحزب على الصعيد التنظيمي والسياسي والتحالفات، وتم تلقي التدريب اللازم حول كل ذلك، بل وصلنا إلى الكونفرانس نتيجة لكل تلك الجهود، وأعد القائد تقريراً من أجل الكونفرانس، عندما ذهبت إلى دمشق كان قد أنهى التقرير وبدأ بالكلام، وقام الرفيق عباس بتنقيحه، وتحول إلى كتاب للكونفرانس، تم توزيعه على الكوادر قبل انعقاده، ولهذا حدث صفاء لدى الكادر، وبسبب ذلك الصفاء لم يتمكن سمير من الحصول على أية نتيجة، فلو لم يحدث ذلك الإعداد القوي، ربما تمكن سمير من خلط الأمور، فنتيجة لجهود القائد زالت تلك الأرضية وأصبح الكونفرانس ناجحاً .
مع انعقاد ذلك الكونفرانس كانت التنظيمات الكردية واليسار التركي تتعرضان للتصفية، بينما الحركة الآبوجية استطاعت لم شملها وعقدت كونفرانسها، وفيما عدا حركتنا كان الجميع يتعرضون للتصفية، ولم يصدق أحد بأن نعقد الكونفرانس في تلك الأجواء، واستغرب الجميع بعد إنهائه وإعلان نتائجه، كيف يمكن لـ حزب العمال الكردستاني (PKK) أن يعقد كونفرانساً !! الكل يمر في تصفية، بينما PKK يعقد كونفرانسه، لقد كان هذا الأمر مهماً في تلك المرحلة، بل كان تأثير ذلك إيجابياً على بعض التنظيمات الأخرى لتلقي بعض الخطوات، فبعضهم طلب منا تقرير الكونفرانس لقراءته، حيث كان هناك بعض تنظيمات اليسار التركي في المعسكرات الفلسطينية ولنا علاقات معهم فطلبوا التقرير منا، مما جعل منا أملاً وذلك أمر مهم . ولهذه الأسباب فإن للكونفرانس الأول لحركتنا مكانة مهمة في تاريخ الحركة، فالأسم كان كونفرانساً ولكن ما أنجزه كان عمل مؤتمر، حيث تقدمت الحركة وألقت خطوات كبيرة نتيجة له، وتحقق النقاء والالتمام للحركة والمعنويات والثقة بالنفس والحركة لدى الكوادر، وجعل الوطن وجهة لهم، فالكادر الذي خرج تائهاً من الوطن متوجهاً إلى أوروبا ولبنان والأصقاع الأخرى من العالم أصبح يتوجه نحو الوطن مرة أخرى لأن أهداف الحركة قد تحددت في ذلك الكونفرانس، فكل الكوادر كانوا يأملون وينتظرون قرار التوجه إلى الوطن بعد الانتهاء من الكونفرانس، واللجنة المركزية التي تحددت للكونفرانس لم تلعب دورها وتولى القائد مهمتها أيضاً، حتى التقرير الذي كان من المفروض أن يعده المركز قام بإعداده القائد أيضاً، كان المركز موجوداً ولكنه بقي شكلياً، أي أن المركز لم يقم بوظيفته، بل ألقى بمهامه على عاتق القائد الذي قام بالإعداد والتسيير والتقرير نيابة عن نفسه وعن المركز أيضاً، وشهد الكونفرانس نقداً حاداً للمركز .
ظهرت ثلاث ميول ضمن الكونفرانس، الأول هو نهج القائد والثاني هو نهج سمير والثالث هو نهج الوسط الذي يتخذ من القائد أساساً له، كيف كان وسطاً ؟ لم يكن فاعلاً في الكونفرانس، كان يسمع القائد ويوافق رأيه دون مشاركة، أراد سمير التقدم لنهجه ولكنه فشل، ولهذا بقي نهج القائد هو السائد على الكونفرانس . الميل الذي مثله سمير هو ميل ليبرالي ليس فيه تنظيم، كل شخص يمكن أن يتصرف حسب أهوائه ضمن التنظيم، حتى أن سمير كان ينظر إلى الرفيق مظلوم وشاهين دونمز ويلدريم مركيت في مرتبة واحدة ويريدنا أن نقبل بذلك، فقد كان يقول : من الطبيعي أن يكون البعض ضعيفاً وينهار، والبعض الآخر يستطيع المقاومة والصمود، فلماذا نسمي اولئك الذي انهاروا واعترفوا بأنهم خونة ؟!! والإنسان لديه القدرة على المقاومة والإرادة إلى درجة معينة، فلماذا نسمي الذي لا يحتمل بالخائن ؟! وعلينا أن لا ننظر إليه بعين الخيانة. و يجب اعتبار شاهين دونمز وأمثاله رفاقاً مثل مظلوم وكمال وخيري والآخرين!!! هكذا كان نهج سمير، وذلك هو سبب صراعنا مع سمير، فنحن كنا نناهض ذلك النهج، و كنا نقول: لا يمكن وضع مظلوم وكمال وخيري في كفة ميزان مع المستسلمين أمثال شاهين ويلدريم، ونرفض النهج الذي يعيق التنظيم ويسبب التراجع له، وكنا على وشك التوجه نحو الوطن وليس أوروبا، ذلك هو سبب صراعنا مع سمير .
ذلك الكونفرانس دفع بالتنظيم إلى إلقاء خطوة بإتجاه الوطن، وقضى على التشتت والفوضى والمزاجية والمفاهيم المتفرقة فيه، واستطاع سحب الكادر إلى نهج التنظيم بعد أن كان قد خرج عنه، ومن هنا تأتي أهميته، لأنه حقق وحدة الكوادر حول نهج واحد هو نهج التنظيم.
كان في الكونفرانس رفيق اسمه “محمد سوقان” اسمه الحركي بدران وينتمي إلى حيلوان، استشهد فيما بعد في اشتباك في منطقة شمزينان، اقترح ضمن مجموعة في الكونفرانس قائلاً: هناك ظلم في آمد، ويصدرون أحكاماً بالاعدام بحق الرفاق الذين يتعرضون لتعذيب وحشي، وحتى نتمكن من ردع الدولة عن ذلك، علينا أن نختطف بعض الطائرات ونداهم السفارات والقنصليات لنستولي عليها، حتى نسحب الدولة إلى المساومة لردعها عما تمارسه من تعذيب وأحكام جائرة، لكن القائد أفهمهم بأن هذا النوع من العمليات لن تجلب الحل، ولن تردع الدولة عن الإعدامات والتعذيب، وإذا كنا نريد حقاً ردع الدولة علينا أن نتجه إلى الوطن ونصعد حرب الكريلا، وهذا هو السبيل الوحيد لردع الدولة، وتناقش القائد مع اولئك الرفاق وبالنتيجة اقتنعوا برأي القائد، وهذا ما جعل الكونفرانس ناجحاً، وأسفر عن وحدة راسخة قوية، وبات الجميع مقتنعاً بالتوجه نحو الوطن وبأننا قادرون على القيام بالمطلوب . بعد الكونفرانس لم يُدخل القائد التوجه نحو الوطن في الممارسة العملية فوراً، لأن القائد فكر بأن الكونفرانس حقق نجاحاً هاماً، ولو توجهت الكوادر إلى الوطن فوراً دون تجربة وتدريب عميقين فقد يحدث ما حدث في السابق، وتنحط المعنويات مرة أخرى وتتكرر التجربة السابقة، وكان ذلك خطراً وارداً، حتى يحول دون ذلك، وجد أن الوقت لازال باكراً، بينما الكوادر كانت متلهفة للتوجه مما اضطر القائد إلى عقد اجتماعات لهم، لأن أغلب الكوادر قالت : لقد تلقينا التدريب وعقدنا الكونفرانس بنجاح فلماذا نبقى، بل علينا الذهاب، والقائد أزال ذلك المفهوم لدى الكوادر أيضاً . بدلاً من ذلك وضع القائد برنامجاً للكوادر حول نتائج الكونفرانس ليتم استعابها جيدا، حتى لا يعود وضع الخطر مرة أخرى، ولهذا تم تدريب الكوادر على نتائج الكونفرانس والكتب السابقة مرة ثانية، وإلى جانبها أعاد التدريب العسكري أيضاً، وبعد أن تأكد القائد من إمكانيتنا وأننا قادرون على إنجاح الممارسة العملية بعض الشيء في ساحة الوطن، عندها قرر بأن نعقد المؤتمر الثاني للحزب ليتم اتخاذ قرار الخطوة التالية للتوجه إلى ساحة الوطن، في نفس الوقت حدثت استشهادات ومقاومات كبيرة في سجن آمد، أي أن القائد بات مقتنعاً بأن الوقت قد حان لإكمال المرحلة بعقد المؤتمر ومن ثم التوجه إلى الوطن . عام 1982 هو عام مصيري في تاريخ حركتنا، عام يتركنا أمام خيارين إما الانتهاء أو الاستمرار، فالقيادة في السجون أمرت بالاستمرار، مثلما قالت القيادة في الشرق الأوسط بالاستمرار، وحملة 15 آب انطلقت على ذلك الأساس ولولاها لما تحققت تلك القفزة، ولما تم تسطير التاريخ على النحو الذي نراه، حملة 15 آب اعتماداً على المقاومة التي تصاعدت في آمد والنتائج التي تمخضت عنها، وبالنضال الذي خاضه القائد آبو في الشرق الأوسط، فعندما اجتمع هذان العاملان أي مقاومات آمد ونضال القائد في الشرق الأوسط باتت الأرضية مناسبة للقيام بقفزة 15 آب . خاض القائد كفاحاً مريراً ضد مفهوم الالتجاء في الشرق الأوسط، لأن ذلك الخطر كان قائماً، وإن لم يحدث أية حالة التجاء فإنه كان بفضل كفاح القائد، وإذا كانت الحركة لم تتشتت ولم تنتهي فذلك كان بفضل النضال الذي خاضه القائد، ففي ذلك الوقت كل كوادرنا الذين خرجوا إلى سوريا وأوروبا كانوا 284 كادراً، وكنا في معسكرات الفلسطينيين، ولم يستطع أحد أن يمد يده إلى داخلنا، كانت هناك مجموعة صغيرة مؤلفة من سمير ومحيطه يفتعلون خلط الأمور بيننا مما دعا القائد إلى التوقف عليها لمدة سنتين حتى أزال تأثيرها، ولم شمل الكوادر والتنظيم ليتم توجيههم نحو الوطن لتتحقق قفزة آب على ذلك الأساس، لماذا أقول هذا الكلام ؟ لأن الوضع الذي ظهر بعد المؤامرة الدولية كان مشابهاً للوضع في تلك المرحلة من خلال المجموعة الخائنة، ولكنه كان أثقل وأكثر خطورة، فالحركة قد تعاظمت وتوسعت كثيراً ولم تعد 284 كادراً، وليست تحت السيطرة في معسكرات الفلسطينيين، وكل يوم تمتد أيادي الكثيرين إلى داخل الحركة، وإذا لم نخض النضال أضعافاً مضاعفة وإن لم ننشط أكثر منهم، لن نتمكن من سد الباب أمام التخريب، لأن هناك أيادي كثيرة تمتد إلى داخل الحركة كل يوم، ففي ذلك الوقت كانت العوامل لصالحنا، والقائد بذاته كان على رأس الحركة فعلياً، وكان يقوم بتدريب الكوادر بذاته ، ولم يكن أحد يستطيع أن يمد يده إلى داخلنا في المعسكرات، ورغم ذلك فإن القضاء على ذلك التخريب أخذ منا سنتين، استطاع القائد أن يقضي على الفوضى والمفاهيم المخالفة والانحراف ويستعيد الإرادة بنضال مرير بعد أن كانت محطمة خلال سنتين ، ولكن عندما ظهرت الخيانة في مرحلة المؤامرة الدولية لم يكن القائد على رأس الحركة بشكل يومي، والحركة متوسعة لا يمكن مراقبتها وكل الأيدي ممتدة إلى داخل الحركة، ولهذا فإن التصدي للخيانة ولم شمل الكوادر وتحقيق الوحدة لم يكن سهلاً، بل صعباً جداً بالطبع، فما عشناه في هذه المرحلة كان مشابهاً لتلك المرحلة، ولكن كان كثيراً من العوامل لصالحنا في تلك المرحلة، هذا ما يجب معرفته أيضاً. كثير من الرفاق لا يعلمون بهذه الأمور ويعتقدون بسهولة الأمور، أي يعتقدون أن إدارة الحركة والتقدم بها بتنظيمها وممارستها وعلاقاتها وإمكانياتها وتوازناتها سهلاً، وأن قطع الأيادي الخارجية أمر سهل، كلا إنها ليست سهلة، وخاصة حركة مثل حركتنا نمت وترعرعت وسارت على يد وحقيقة القائد، فإن إدارتها وحماية وحدة صفها والتقدم بها وإبعاد الأيادي الخارجية عنها وتخليصها من براثن تلك الأيدي ليس سهلاً، هو أمر ممكن ولكن ليس سهلاً، بالطبع بذل القائد جهوداً كبيرة حتى استطعنا القيام بما قمنا به .
بدأ الغزو الاسرائيلي على لبنان في الوقت الذي كنا نتوجه نحو المؤتمر الثاني، حتى قبيل الغزو جاء القائد وأجرينا بعض اللقاءات مع الفلسطينيين، حيث حذرهم القائد بوجود خطر عليهم، وأن تدخلاً إسرائيلياً سيقع، وقال : إنكم اعتمدتم على العمل الديبلوماسي كثيراً وهذا خطأ، فالفلسطينيون كانوا يراهنون على العمل الديبلوماسي تماماً، ولهذا أهملوا الجانب العسكري والتنظيمي لديهم، إلى درجة أنهم كانوا مقتنعين بأنهم سيحلون القضية الفلسطينية بالسبل الديبلوماسية، والقائد قام بنقدهم على هذا التوجه وقال : نحن لا نرفض أهمية الديبلوماسية ولكن نضالكم لم يصل إلى المستوى الذي يمكنكم من حل القضية ديبلوماسياً، بل هناك خطر، فربما تقوم إسرائيل بالغزو. بينما الفلسطينيون لم يتوقعوا ذلك وكانوا يثقون بالسوفييت كثيراً، ويقولون: إن السوفييت لن يسمحوا بحدوث ذلك. وعندما قامت إسرائيل بغزو لبنان لم يكن الفلسطينيون مستعدين لذلك ولهذا لم يخوضوا مقاومة مهمة ضد الغزو، بل حدث اضطراب كبير بين صفوفهم رغم توفر إمكانية كبيرة للحرب والمقاومة لديهم، ووجود كميات كبيرة من السلاح مثل الدبابات والهليوكوبتر وكل شيء آخر فقط لم تكن لديهم الطائرات الحربية، ولكنهم لم يستطيعوا استخدامها والاضطراب جعلهم يبحثون عن سبل الهروب فقط .
يومها كنت قد جئت إلى مكان الأكاديمية في سبيل الإعداد للمؤتمر الثاني، مع وصولي إليه بدأ الغزو الإسرائيلي، ووصلنا خبر أن رفاقنا الموجودون في “حاصبيا” أصبحوا محاصرين من جانب إسرائيل، أي أن الفلسطينيون تخلوا عنهم وهربوا ووقع رفاقنا في الحصار، فقمنا فوراً بإرسال مجموعة من رفاقنا من “حلوة” ليقوموا بفك الحصار وإنقاذ الرفاق، فقدمنا الرفيق “عبد الله كوسبا” الذي كان ضمن مجموعة حاصبيا شهيداً وتم إنقاذ باقي الرفاق ووصلوا إلى المعسكر سالمين، وتحركت أنا من هناك للوصول إلى بيروت للاتصال بالرفاق الآخرين، فقد اتضح الوضع بأن رفاقنا باتوا في العراء وربما نتلقى ضربة مؤلمة، الرفاق حاولوا منعي من الذهاب ولكنني أصريت، من أجل الوصول إلى حيث أستطيع، لأنه كان لدينا رفاق في الشقيف في قلعة صلاح الدين وفي نعمة، وفي صيدا وفي صور والدامور وبيروت، عندما وصلت إلى بيروت كانت إسرائيل قد وصلت إلى نعمة والدامور، والرفاق في بيروت فقط بقوا سالمين بينما الرفاق الآخرون في كل الأماكن الأخرى باتوا في يد إسرائيل التي باتت على أبواب بيروت وتعمل على محاصرتها، ووجدت أن جميع القادة من صيدا وصور والمناطق الأخرى موجودون في بيروت، وعنما سألت عن رفاقنا يقول بعضهم لا نعلم والبعض الآخر يقول أنهم استشهدوا ببسالة، حسنا كيف تعلمون أنهم استشهدوا ببسالة وأنتم وصلتم إلى هنا ؟ يقولون : لقد نجينا بأنفسنا بينما الرفاق كانوا يحاربون . بالطبع كانوا يكذبون بشكل فاضح . صحيح أنهم هربوا وتركوا الرفاق لحالهم عندما هاجمت إسرائيل، بينما رفاقنا كلهم حاربوا، والتصدي الكبير كان في قلعة الشقيف، حيث استشهد بعض الرفاق ووقعت مجموعة في الأسر، وكذلك في صور وصيدا استشهد بعض الرفاق وتم أسر البعض الآخر، أما الباقون فقد ساعدهم القرويون اللبنانيون حتى وصلوا إلى المعسكر، ونحن بقينا في حصار بيروت مع سبعة وعشرين رفيقاً، بالطبع لم نتمكن من معرفة ما آل إليه الرفاق ولم تكن لدينا إمكانية الاتصال بسوريا، وكان يجب الاتصال عبر فرنسا، ومكان وجود الهاتف كان بين مواقع الكتائب والوطنيين، أي أن الوصول إلى الهاتف كان بمثابة عملية كبيرة، أي إن ذهبت قد لا تعود حياً . عند بدء غزو لبنان قرر القائد أن ندخل الحرب دون تردد . وربما نتعرض للتصفية بعد الحرب، ومصير شعب كان مرتبطاً بالكوادر الموجودة هناك، ولو تم القضاء على أولئك الكوادر فإن الحركة ستنتهي أيضاً، ولكن في أيام ضيقنا استفدنا من الإمكانيات التي قدمها لنا الفلسطينيون وأصبحنا مستعدين لأن نقوم بواجبنا نحو شعبنا، ولم نستطع أن نتخلى عن الشعب الفلسطيني في ضائقته، فأخلاقنا وفلسفتنا لم تكن تسمح لنا بذلك، والشعب الفلسطيني كان لدينا بمثابة شعبنا، فنحن عشنا بينهم اعتماداً على إمكانياتهم ومن واجبنا أن نقف إلى جانبه في محنته، وذلك هو ما قرره القائد، رغم أننا كنا بصدد عقد مؤتمرنا الثاني والتوجه إلى الوطن فوراً، وعندما ظهر ذلك الوضع تخلينا عن المؤتمر وبات علينا الوقوف إلى جانب الفلسطينيين ودخلنا المعركة، ولكننا لم نكن ندرك بأن الفلسطينيون سيضطربون ويهربون ويتخلون عن الرفاق ولكن هذا ماحدث . لا شك أنه ظهر من بين الفلسطينيين أيضاً أبطال صمدوا وحاربوا، ولكن الاضطراب كان سائداً ولم يستفيدوا من الإمكانيات المتوفرة لديهم بل هربوا، وذلك هو السبب في وصول إسرائيل إلى بيروت في أربعة أيام ومحاصرتها . فقد كان هناك شاب فلسطيني أعرفه، قلت له هاهي إسرائيل قد وصلت، وهو يقول : هذا ليس مهم . أقول : كيف ليس مهماً إسرائيل على أبواب بيروت وستدخلها . يقول : هذا بسيط، فعندما تأتي سأنزع عني هذه الثياب وألبس الثياب المدنية وينتهي . ويطالبني بأن أفعل ذلك . أي أنهم لم يكونوا قد وضعوا التصدي والمقاومة نصب أعينهم، بل يفكرون في كيفية إنقاذ روحهم . إن وضع الاضطراب خطير جداً، وربما لا يعرف هذا الأمر من لم يعش ذلك الوضع، فإذا بدأ الاضطراب لا يمكن لأحد أن يوقفه، وهذا ما حدث فمن كان قادراً على الهروب هرب . ولهذا وصلت إسرائيل إلى بيروت بكل سهولة .
وقتها كنا سبعة وعشرين رفيقاً في بيروت بعضهم عند فتح وبعضهم لدى الجبهة الشعبية والآخرون لدى الجبهة الديموقراطية، كان هناك “ممدوح” رئيس أركان الجبهة الديموقراطية قال : سنضع رفاقكم في الجبهة الأمامية للدفاع عن بيروت، لأن رفاقكم محاربون فربما بذلك نتمكن من الإمساك برفاقنا من الهرب !! إذا أرتضيتم بذلك . وكان إنساناً جيداً، عرفنا جيداً وكان يثمن رفاقنا كثيراً، قلنا له : حسناً نحن نقبل بذلك، فإذا قررتم المقاومة لا بأس سيكون رفاقنا في مقدمة الجبهة . وبناء عليه تم تمركز رفاقنا في ثلاث مناطق هي ساحل البحر والطريق القادم من صور وصيدا وطريق المطار . فعند الساحل كان رفاقنا في المقدمة ثم الفلسطينيون ثم الجيش السوري، وفعلاً سجل رفاقنا حرباً بطولية هناك، وأصيب بعضهم بجراح، وعندها قال “جورج حبش” في اجتماع له مع منظمته : متى استطعنا الحرب مثل PKK عندها سنتمكن من تحرير فلسطين . أي جعلنا مثالاً، وكان ذلك صحيحاً . فقد سعت إسرائيل الدخول إلى بيروت ولكن الرفاق تصدوا لها ومنعوها، وبات رفاقنا مضرب المثل للفلسطينيين بما فيهم “جورج حبش” بذاته . وهكذا بقينا في حصار بيروت إلى نهاية الحرب، إلى أن تم الاتفاق على خروج الفلسطينيين من بيروت نحن أيضاً خرجنا معهم . حتى في ذلك الوقت كان القائد قد أرسل الخبر للذهاب إليه من أجل المؤتمر، قلت : إنني لن أستطيع ترك الرفاق هنا والذهاب، فإن نموت نموت سوية وإن بقينا سنذهب معاً، ولهذا لم أذهب إلى المؤتمر، فعندها فقط علمت أن كثيراً من الرفاق وصلوا إلى هناك، فحتى ذلك الوقت لم أعرف ذلك . في ذلك الوقت مر علينا حدث جاد جداً، فقد اعتقد “سمير” أن الحركة قد تمت تصفيتها في تلك الحرب، فقام هو و”باقي” بإعداد بيان ليتم نشره في أوروبا ليقولا : نحن نمثل الحركة . ولكنه كان يريد التأكد، وعندما حاولت الاتصال بسوريا عبر فرنسا ظهر أمامي “سمير” وسألني : كيف وضعكم وكيف الحركة ؟ قلت : إن وضعنا جيد جداً، وسأل : ماهو مدى الضربات عليكم . قلت : لم نتلق أية ضربة وشهداؤنا قليلون جداً، ورفاقنا موجودون في الأكاديمية على الأغلب ونحن هنا في بيروت مجموعة صغيرة، فسأل : هل لديك الخبر وما تقوله صحيح ؟ قلت : طبعاً صحيح وذلك هو سبب اتصالي . وعندما سمع ذلك قاموا بإلغاء ذلك البيان . فحتى ذلك الوقت كانوا يعتقدون أن الحركة تعرضت للتصفية ولم يبق سوى القائد وهو موجود في دمشق وهذا ليس مهماً . فقد أقاموا علاقاتهم في لبنان ونظموا أنفسهم في أوروبا ويبقى آبو في دمشق وهذا ليس بالأمر المهم، ولهذا سيعلنون عن أنفسهم يمثلون الحزب . وكان قد استعدوا لذلك ولكن عندما وجدوا الواقع ليس كذلك سحبوا بيانهم . فهمنا كل ذلك فيما بعد . أي أراد “سمير” و “باقي” أن يعلنوا عن أنفسهم ممثلين للحزب في تلك الأجواء تماماً . ثمة خطر آخر عشناه في تلك الأجواء، فقد كان لدينا بيت في أحد الأبنية يقيم فيه بعض الرفاق وكنت قد حذرت الرفاق أن يكونوا حذرين جداً فنحن في أجواء الحرب، وعليهم أن لا يفتحوا الباب لأحد فالجميع في لبنان يفعل ما يحلو له فالسلب والنهب قائم ومن يستولي على شيء يبقى لديه، ولا يمكن التكهن بما سيفعله الآخرون، فالفوضى كانت سائدة في بيروت من ذاتها وجاء فلسطينيو الجنوب أيضاً إلى بيروت واختلطت الأمور أكثر، واسرائيل كانت تقصف باستمرار . أنا والرفيق “رياض” الذي استشهد فيما بعد على يد الشيوعيين في بهدينان وكان مترجماً لنا، كنا نتجول على الرفاق، ومررنا في منطقة كانت تشهد قصفاً كثيفاً فاضطررنا إلى الدخول إلى قبو أحد الأبنية، ووجدنا أن المكان الذي دخلناه يعود لـ”الجبهة العربية” ذلك التنظيم الذي أسسه العراقيون بين الفلسطينيين ولها علاقات مع صدام، ونحن نحمل معنا هوية الجبهة الديموقراطية، سألونا عمن نكون، قلنا : نحن فلسطينيون، والرفيق “رياض” يجيد العربية، وسألونا : من أي تنظيم ؟ قلنا : من الجبهة الديموقراطية . وعما تبحثون ؟ قلنا : حدث القصف فاضطرينا إلى الدخول . طلبوا هوياتنا فوجودها صحيحة من الجبهة الديموقراطية . قالوا : لنسأل الجبهة الديموقراطية هل كلامهم صحيح أم لا . قلت للرفيق رياض : علينا أن نخرج فهؤلاء خطيرون، فلومتنا في الخارج ربما يرانا أحدهم ولكن إذا متنا هنا فسنضيع، لأن ذلك التنظيم كان قذراً جداً، ولو علم أننا من PKK لقتلونا بكل تأكيد . وعندما هممنا بالخروج قالوا : القصف مستمر لا تذهبوا، قلنا : لا بأس علينا أن نخرج . وخرجنا إلى البيت وعندما وصلناه وجدنا أن باب العمارة مفتوح واعتقدنا أن البواب نسيه مفتوحاً، والعادة هي أن يكون مغلقاً، وعندما وصلنا إلى باب الشقة فوجئنا بمحاصرتنا من جميع الجوانب من فوق ومن تحت، ونحن لا نعرف من هم هؤلاء، وكانوا قد أخذوا الرفاق الموجودين في الشقة من قبل، وهم الذين أقنعوا البواب بترك الباب مفتوحاً، ليعرفوا هل سيكون آخرون يأتون إلى البيت أم لا، وكان معنا أحد الأشخاص المنتمين إلى DEV-YOL من اليسار التركي، لأننا كنا نحميهم أيضاً وهم فريق صغير، اعتقلونا وربطوا أعيننا وأخذونا بالسيارات، وأخذونا إلى تنظيم له علاقات مع العراق، وأدخلونا وفكوا عيوننا فوجدنا أن رفاقنا أيضاً هناك، فجلسنا وهم يسبوننا ويشتموننا ورأيت من بينهم أحد المنتمين إلى تنظيم KUK، حيث يجب أن لا يكون له عمل هناك، ولكنه هناك، وهو عميل للأتراك، والذين أخذونا كان التنظيم الذي أسسه المخابرات العراقية وبينهم بعض الأتراك، وكانوا سيقتلوننا جميعاً . ولكن عندما داهموا البيت كانت إحدى الرفيقات في البلكون ورمت بنفسها إلى أحد الجوانب ولم يروها، وتقوم هي بمتابعتهم حتى المكان الذي أخذوا الرفاق إليه وتقوم بإعلام “جبهة النضال” بأنهم أخذوا الرفاق إلى ذلك المكان ليبيدوهم وعليهم سرعة الوصول لإنقاذهم، وعندما ذهبت الرفيقة لم نكن قد وصلنا نحن، أي أنها ذهبت من أجل اولئك الرفاق وليس لها علم بنا . ومن مسباتهم وتصرفاتهم بدا واضحاً أنهم سيبيدوننا، ولم يمض سوى خمسة دقائق حتى جاءت “جبهة النضال” و “الجبهة الديموقراطية” وحاصروا ذلك المبنى، وصوبوا الأسلحة الثقيلة إليه، وكان لدى “جبهة النضال” قائداً أعرفه وعندما دخل عرفت بأنه تم إنقاذنا، ولن يكون بمقدورهم القيام بشيء، وفور دخوله طلب منا الذهاب إليه، وقال لهم : إن أقدمتم على فعل شيء فإننا سنهدم البناء كله على رؤوسكم ولن يفلت أحد منكم، وأخرجونا من هناك، وبذلك نجينا من الإبادة . ولو تأخروا قليلاً لما نجا أحد منا، فالأجواء هي الحرب ولن يتمكن أحد من إثبات ما اقترفت أياديهم، وهكذا أرادت الاستخبارات العراقية والتركية تصفيتنا تماماً، تلك هي الفرصة التي توفرت لهم ولم نمنحهم أية فرصة أخرى .