تاريخ حركة الحرية الكردستانية الحلقة 7
تاريخ حركة الحرية الكردستانية الحلقة 7
جميل بايك
الإعداد للمؤتمر، وعقد المؤتمر ثم التنظيم بعد تأسيس الحزب كلها تزامنت مع مرحلة الإعداد لخطة سويرك، كنا قد قررنا الإعلان عن الحزب بعملية بوجاق، وكنا قد قررنا عملية بوجاق، أولاً: لحماية حيلوان، لأن جلال بوجاق كان يهددها باستمرار، كان يجب إزالة ذلك التهديد. ثانياً: كنا نريد خلق حيلوان جديدة، فقد كنا ألحقنا ضربة مؤلمة بالإقطاع والعصابات المتواطئة في حيلوان، وكنا نريد الاستمرار في هذا النهج للقضاء على العصابات الكبيرة المتواطئة، فلو استطعنا إزالة نفوذ وهيمنة بوجاق لاستطعنا القضاء على أحد أعمدة المحتلين الأساسيين في كردستان، لأن بؤر التواطؤ من أمثال بوجاق كانت قليلة في كردستان، فقد كان يمثل أحد بؤر التواطؤ الرئيسية، فلو استطعنا تحييده فإن الآخرين من تلك الطبقة لن يستطيعوا المقاومة كثيراً أمام الحركة، لأن حركتنا لم تكن تناهض المحتلين فقط بل كانت تعمل من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة، لهذا لم تكن حركة وطنية فقط ، بل حركة ديمقراطية في نفس الوقت، كنا قد ألقينا خطوة ديمقراطية في حيلوان ونريد أن نستمر ونتقدم بها، لهذا كنا نستهدف سويرك.
كنا نتقدم على الصعيد التنظيمي “التحول إلى حزب” وعسكرياً في نفس الوقت أي بشكل متداخل، وهذا أمر مهم استمر حتى المؤامرة الدولية التي استهدفت القائد، أي الحزب وتطويره بشكل متزامن مع الكريلا، استمر حتى التغيير الاستراتيجي، فالتحزب يعني التجيش، والتجيش يعني التحزب، لو يتذكر الرفاق أن ERNK (الجبهة الوطنية لتحرير كردستان) كان خارج ذلك، وبالتغيير الاستراتيجي سنخرج التجيش والكريلا من هذا التداخل، لنقيم التداخل بين التحزب والجبهة الشعبية. هكذا كنا نلقي أسس التحزب والتجيش في سويرك بشكل متداخل، الذين كانوا يقودون العملية في سويرك كانوا كوادر الحزب المركزيين، وذلك هو الجانب الآخر المهم في مرحلة سويرك، النضال الذي كنا نقوم به في سويرك كان الإعداد لإعلان الحزب وكان يجب على الحزب أن ينظم نفسه بعد أن أنهى مؤتمره التأسيسي، ولهدف التنظيم تم إنشاء مكتب التنظيم، وأنا كنت أحد أعضاء ذلك المكتب، ومهمتنا هي تنظيم أجهزة الحزب، من لجان وهيئات وفروع، وبدأنا بأداء وظيفتنا، على صعيد التحزب ربما كنا نعرف بعض الأمور النظرية، لكن لم تكن لدينا خبرة في التنظيم، فما هي الأسس التي سنعتمد عليها عند تأسيس اللجان والهيئات والمنظمات؟ ومن هم الذين نضعهم في تلك الهيئات؟ وكيف سنقوم بإعدادهم؟ لكي لا تبقى تلك اللجان والهيئات شكلية؟. حيث كنا نفتقر إلى الخبرة والتركيز على هذه الأمور، ما كان لدينا كان سطحياً، ونحن الذين تولينا هذه المهمة كنا آتين من مرحلة المجموعة، الثورية التي نمارسها كانت ثورية الهواة، الأمر الآخر هو: بما أننا كنا مع الحركة منذ بداياتها فقد كنا في المقدمة طبيعياً في تلك الممارسة، ربما كانت فرصة جيدة من ناحية، وسوء حظ من الجانب الآخر، أي كان لهذا الوضع ايجابياته وسلبياته، وسط تلك السلبيات والإيجابيات وبثورية الهواة تلك بدأنا بالتنظيم والتحول إلى حزب، فقد بدأنا بتكوين اللجان في كل منطقة ونختار ممثلاً لها، وكنا مقتنعين بأننا نقوم بتنظيم الحزب، خلال هذا العمل حدثت مجزرة “مرعش”، وقام القائد بإجراء تقييم لتلك المجزرة في آمد وطلب مني الذهاب إلى أنقرا للقاء اليسار التركي، فقد كانت مجزرة مرعش رداً على حركتنا، بتلك المجزرة أراد المحتلون إعطاء رسالة للشعب مفادها: إذا نهضتم وساندتم هذه الحركة وأردتم إلقاء خطوات معها فإن نهايتكم ستكون كما جرى لـ “مرعش “. أي على الشعب أن لا يتقدم نحونا. فمن خلال قتل الرفيق حقي وجهت تلك الرسالة للكوادر، ومن خلال مرعش وجهت تلك الرسالة للشعب.
من خلال تلك الأحداث رأى القائد أن الخطوات تسير نحو انقلاب عسكري في تركيا، ولهذه الغاية أرسلني إلى أنقرا، لأتحدث إلى اليسار التركي في سبيل عقد تحالف بيننا وبينهم من جهة، وبين أطراف اليسار التركي أنفسهم من الجهة الأخرى، حتى نتمكن من التصدي للفاشية التي تتقدم خطوة بخطوة، وحتى لا نتلقى ضربات قاضية، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى كانت الحركة الثورية قد تلقت ضربة مؤلمة في انقلاب 1971، وخسرت كوادرها المتقدمة، وعاشت فوضى كبيرة على الصعيد التنظيمي، ضاع وقت وجهد كبير حتى تم التخلص من ذلك الوضع، ولا زالت الحركة عاجزة عن الوصول إلى مستوى عام 1971، حتى لا يتكرر ذلك الوضع مرة أخرى، عليهم أن يخرجوا بعض كوادرهم المتقدمة إلى خارج تركيا، ففي حال تلقي تنظيماتهم لأية ضربة محتملة تكون لحركتهم كوادر في الخارج تستطيع مواصلة النضال، حتى لا تتكرر مأساة 1971، لكي لا تتعرض قيادات تلك الحركات للتصفية الكاملة، ذلك كان الهدف من ذهابي إلى أنقرا. التقيت ببعض أطراف اليسار التركي، أمثال DEV-YOL و KURTULUS و TIKKO وغيرهم، ومن بينهم كان THKP-C مهماً لدينا، لأن جماهيرهم كبيرة، وكوادرهم عديدة، ومعروف أكثر من DEV-YOL، ويمكننا القول أن ذلك التنظيمان كانا يعادلان جميع المنظمات اليسارية التركية الأخرى مجتمعة من حيث الجماهير والكوادر والممارسة، أنا أبديت اهتماماً زائداً بـ DEV-YOL، كما التقيت بالآخرين مثل KUTULUS فقد كانت لنا علاقات بهم سابقاً، عندما شرحت لهم الأمر لم يكونوا يعتقدون بأن يقوم الجيش بانقلاب عسكري في تركيا، وقالوا: لا يمكن أن يحدث هذا، من أين أتيتم بهذا؟ حتى لو حدث فإننا منظمون ويمكننا تصعيد مقاومة ونضال كبير ضدهم. حول مسألة الخروج قالوا: لماذا نخرج؟ وضعنا قوي وتنظيمنا قوي وعلاقاتنا قوية، ولا أحد يستطيع أذيتنا!!. حين وجدتهم على هذه الحال لا يمكن إقناعهم، ولا يصدقون شيئاً مما نقوله عدت إلى ألعزيز.
عدت إلى ألعزيز لأن تذكرة السفر كانت إليها ، ولأنني كنت قد مررت منها في طريقي إلى أنقرا ووجدت أن هناك بعض القضايا التي تتطلب الحل، فبعض الذين كانوا قد انضموا إلينا من DEV-SOL ومن DEV-YOL ومن الحزب الديمقراطي الكردستاني – تركيا PDK-T كانوا لا ينسجمون مع رفاقنا، أي مشاكل من ذلك النوع، بل كان هناك رضا ساري كايا كان قد انضم إلينا من DEV-SOL كان يشبه دون كيشوت، الرفاق كانوا يحتارون معه. فعند ذهابي مررت بهم والتقيت بلجنتنا هناك، طلبت منهم اتخاذ بعض التدابير، ويمكن عزل بعضهم إذا تطلب الأمر، وعليكم أن تستبدلوا أماكنكم تحسباً لكل احتمال، وعندما عدت لأستوضح الأمور وهل أخذوا تدابيرهم أم لا, وهل قاموا بعزل أحد أم لا، لأننا لا يمكن أن نبقى مع تلك المشاكل دون حلها، فذهبت إلى حي “فوزي جاكماك” التقيت بأحد الرفاق، سألته عما يفعله هناك؟. قال: لقد اعتقلوا جميع الرفاق والبوليس في كل مكان في المدينة، والذين نجوا من الاعتقال قليلون، وعليك أن تغادر فوراً، سألته عن أسماء المعتقلين فسرد بعض الأسماء ورأيت أن “جمعة كر” لم يعتقل، بينما لا يعرف إن كان شاهين قد اعتقل أم لا. بينما الآخرون أمثال شاميل، ساكينة جانسيز، وعلي كوندوز والآخرون وكلهم من اللجنة، وكان جمعة أيضاً من اللجنة ولم يعتقل هو فقط ووضع شاهين غامض، فقلت مادام الأمر كذلك يجب أن نتخذ بعض التدابير مع الباقين من الرفاق قبل أن أذهب، وإذا كان شاهين ليس معتقلاً نتخذ معه بعض التدابير لحماية الرفاق. فذهبت إلى بيت أعرفه لأنني كنت ناضلت هناك، بيتاً كان من المؤيدين لنا وهو منزل ساكينة قرميزي توبراك، ولم يكن مكشوفاً، وكان بيتاً جيداً فقد كانت ساكينة منضمة إلينا ولكن بيتها لم يكن مكشوفاً، وأرسلت وراء جمعة كر للقائي فجاء إلى ذلك البيت ليلاً، فسألته وأخبرني أن شاهين أيضاً من بين المعتقلين، والرفاق في اللجنة كلهم اعتقلوا ماعدا جمعة، أما الباقون القلائل من الرفاق فهم من خارج اللجنة، وتحدثنا عن التدابير من أجل الباقين، وتأخر الوقت فطلب أن نذهب إلى بيت يعرفه، فطلبت منه الذهاب وقلت أنني سأبقى فإن حدث اعتقال يجب أن لا نكون مع بعضنا، لأنني وجدت الوضع ليس على ما يرام، فذهب هو بينما كنت أفكر في أن أخرج بعده وأذهب إلى الخلاء خارج البيوت لأنام هناك، لأن المداهمات تتم ليلاً، بعد ذهابه هممت أن أخرج ولكنني وجدت السيارات حول البيت، وبسبب الليل لم أعرف إذا ما كانت السيارات للبوليس أم لبعض الجيران، وسألت أهل البيت فأفادوا بعدم وجود سيارات لجيرانهم، عندها فهمت أنه البوليس، فأرسلت احد أبناء العائلة ليرى إن كانت هناك إمكانية للخروج من منفذ ما، عاد وقال الخروج غير ممكن جميع المنافذ مسدودة، وكنت قد جئت من أنقرا في نفس اليوم ولم أكن قد رميت بطاقة السفر عن إدراك، والهوية التي أحملها تعود لـ متين الأعرج (متين أصلان) وكنت قد ألصقت بها صورتي، وكنت تدبرتها لنفسي عندما هربنا الرفيق كمال بير من سجن على ساحل البحر الأسود، فقد كنا أعدينا هويتين لسفرتنا تلك، وكنت أعرف كل المعلومات عن أهل البيت أسم الأب والأم والأخوة وكل شيء ما عدا عنوان البيت الذي نسيته، فقلت لأصحاب البيت: لا أحد منكم يعرفني، وأنا زميل أخيكم وجئت اليوم إليكم، هذا كل ما تعرفونه وأسمي متين، ولهم أبن قلت له: قل لهم أنك عرفتني في أنقرا ودعوتني إلى البيت ضيفاً، ولا شيء سواه، كل أهل البيت يعرفونني، ثم فتشت جيوبي ولم يكن فيها شيئاً. طرق البوليس الباب ودخلوا، وأخذونا جميعاً ما عدا ربة البيت، وعندما خرجنا رأيت سيارة تغادر وفيها أحد الرفاق اسمه حيدر واستشهد فيما بعد، أي ليبدو كأنه هو الذي جاء بالبوليس إلى البيت، ثم قام البوليس بمداهمة سبعة أو ثمانية بيوت، بما فيه البيت الذي طلب مني جمعة الذهاب إليه، ولم يكن فيه جمعة، ولاحظت أن البوليس ذهب إلى بيتين آخرين ليسا من بيوتنا أحدهما لـ PDA لجماعة دوغو بيرينجيك، والآخر لـ DEV-SOL واعتقلوا شخصاً من كل بيت، والرفاق الذين يركبون السيارة يجدونني فيها، والكل يستغرب، فلم يكن أحد يعلم بوجودي هناك، لا المعتقلون ولا الباقون لم يكن يعلم بقدومي، كانوا يستغربون عندما يرونني في السيارة، بالطبع كانوا قد وضعوا عنصراً من البوليس بيننا كي يتعرف على من يتحدث مع من، ويتأكد من الكلام الدائر بيننا، بالطبع كانت لدي خبرتي بهذا الشأن من أنقرا، فلاحظت أن بعض الرفاق ينظرون إلي، فأشرت بأن لا ينظروا، وكأنهم لا يعرفونني، لكن النقطة المهمة بالنسبة لي هي لماذا اعتقلوا هؤلاء الآخرين من PDA و DEV-SOL ! الحملة هي ضدنا فلماذا يعتقلون هؤلاء؟ خاصة أن الحملة وصلت إلى نهايتها فلماذا يعتقلونهم. وتوقعت أن يكونا عميلين ويجلبونهما للتثبيت والتأكد من الرفاق. وخاصة أنه كان بيننا وبينهم بعض سوء التفاهم في حينه، أخذونا إلى حارة (1800 بيت) وأنزلونا واحداً..واحداً وقالوا أديروا وجوهكم إلى الحائط، وأفرغوا جيوبكم، عندها رأيت أن بعض الستائر تتحرك مما يدل على وجود بعضهم خلفها للتعرف علينا، فأخذوا البعض من بيننا، أما الباقون فقالوا: خذوا أغراضكم وأركبوا السيارات، بعدها أخذونا إلى مركز البوليس المدني في ألعزيز، سجلوا إفاداتنا، واعتذروا بأنهم عاملون في الدولة وينفذون الأوامر وما إلى ذلك، وفهمت بأنهم سيفرجون عنا، فقد اعتقلوا من اعتقلوا وكان ذلك واضحاً من كلامهم، بالطبع يتأكدون من الهويات قبل الإفراج، فنظر إلى هويتي وقال : ماذا تفعل هنا؟ قلت: أليست هذه تركيا، وقد جئت ضيفاً للسياحة، قال: ألم تر مكاناً آخر للسياحة؟. قلت: كيف لي أن أعلم بوجود هذه الأمور لديكم، اعتقدت أن هذا المكان يماثل أنقرا فجئت إليه. قال لنأخذ عناوينهم. عندها شعرت بالخطر، بعدها قال بعضهم لا داعي للعناوين لنتأكد فقط ما إذا كان اسمهم موجوداً في قائمة المطلوبين، فلو نظروا إلى القوائم لا يهم لأن اسم متين ليس في القوائم، لكن لو سألوا عن العنوان فلا أعلمه وسأضطر على إعطاء عنوان ملفق مما قد يكشف عن الباقي. عندما نظروا إلى القوائم قال: ليبق متين وليذهب الآخرون، وتوضح أن متين الذي يقصدونه ليس أنا وإنما متين آخر وهو الذي من PDA ويختلف من حيث الكنية. وأطلقوا سراحنا ولكنني بقيت أشك، معتقداً بأنهم أطلقوا سراحي ليتعقبونني. لهذا قلت للرفيق الذي أطلقوا سراحه معي: إنني ذاهب، خرجت فوراً من ألعزيز لأنني توقعت بأن الخطر سيزداد في المدينة، وكان يجب أن أذهب إلى آمد لألتقي بالقائد لأنقل إليه نتيجة لقاءاتي في أنقرا، ولكنني لم أتوجه إلى هناك مباشرة، لأنني توقعت بأن حملة الاعتقالات ستستمر نتيجة لاعتقالات ألعزيز، وكان علي أن ألتقي القائد لأعلمه بما جرى لاتخاذ التدابير، وخاصة أن شاهين كان يعلم بالمكان الذي يقيم فيه القائد، ولهذا كان هناك خطر كبير، لأنني ظننت بأنهم أفرجوا عني لغاية تتبعي فلا يمكن أن لا يعرفونني، هم يريدون تتبعي حتى يلقوا القبض على القائد، لهذا لم أتوجه إلى آمد مباشرة، فذهبت إلى مكان آخر وأرسلت بعض الناس، أرسلتهم إلى الرفيق “دليل دوغان ” والآخرين، قلت لهم: تم اعتقال الرفاق في ألعزيز بمن فيهم شاهين، ولا أعلم إن كانوا قد أدلوا بالمعلومات أم لا، ولكن ذلك ممكن وعلينا اتخاذ التدابير. لهذا يجب إخلاء كل الأماكن التي يعرفها شاهين. بعدها ذهبت بنفسي ووجدت أن القائد قد غادر إلى أورفا فالتقيت به هناك.
عرفنا فيما بعد أن شاهين دونميز قد اعترف وقال كل شيء لحظة التحقيق معه دون أن يتعرض للضغط أو التعذيب. حيث يقول أن القائد في المكان الفلاني والعمارة الفلانية، لكن البوليس لا يثق بأقواله، ويقول: إنه كاذب ويريد أن يخدعنا. بعدها فهموا أن كلامه صحيح ولكننا كنا اتخذنا التدابير. لو تحرك البوليس فور أخذ المعلومات من شاهين لاستطاع اعتقال جميع الرفاق بما فيهم القائد، فالبوليس لم يكن لديه المعلومات الصحيحة وكانوا غير متأكدين من أقوال شاهين، لهذا لم يتحركوا فوراً، عندما تحركوا وذهبوا إلى العمارة التي فيها القائد وجدوا المكان خالياً. هكذا بقيت هذه الحملة محصورة في ألعزيز و قراكوجان وجوارهما.
البوليس من جانبه كان ينشر الدعايات عن كيفية مقاومة شاهين، وأنه سجل شعاراته على الجدران بدمه، وما إلى ذلك، لدرجة أن الرفاق في ديرسيم صنعوا الكوادر للدعاية عن مقاومة شاهين، لكن عندما تأكدنا أرسلنا الخبر لهم بأن الحقيقة عكس ما يعرفون، عندها فهموا الحقيقة وأن البوليس نشر ذلك حتى لا يُفهم وضع شاهين.
أول من فهم وضع شاهين هو: الرفيق آيتكين توغلوك الذي كان في السجن معه. يفهم حقيقته ويتصدى له ويدفع الرفاق إلى التصدي له، فإذا كانوا قد قتلوا الرفيق آيتكين في سجن ألعزيز فقد كان ذلك هو السبب، لأنه كشف عن حقيقة وضع شاهين دونميز، لهذا جعلوا ذلك الرفيق هدفاً حتى الشهادة.
لقد كانت اعتقالات ألعزيز ضربة مؤلمة لنا، ذلك صحيح ولكنها من جانب آخر أفهمتنا مدى الخطر الذي يحيق بنا، فقد عرفنا أن العدو سخر كل طاقته واتخذ القرار بتصفية الحركة، هذا ما دفعنا إلى الانتباه، والتدابير التي اتخذناها كان بسبب ذلك، لولا ذلك ربما تعرضنا لضربة أكبر وأكثر إيلاماً. كانت أحكام الطوارئ سائدة في تركيا حينذاك، تقوم إدارة الطوارئ بإرسال تقريرها إلى أنقرا مفتخرة بأنها استطاعت كيل ضربة ماحقة بـ PKK، بينما أنقرا تقوم بإلقاء اللوم على الإدارة جواباً على تقريرها بالقول: “لقد نسفت كل مخططاتنا”، الإدارة كانت تتوقع الحصول على مكافأة ويأتي الرد عكس ذلك تماماً. السبب في ذلك هو أنه قد تم تشكيل دائرة خاصة ضمن الاستخبارات (MIT) من أجل الحرب على PKK، وتلك الدائرة تخطط لشن حملة متكاملة عامة على الحزب في وقت واحد من أجل القضاء المبرم عليه. بينما الإدارة تتصرف بشكل منفرد خارج ذلك المخطط مما أدى إلى تعطيله، فتلك الحملة دفعتنا إلى اتخاذ التدابير، ولهذا يلومون الإدارة في ألعزيز.
لقد ارتكب شاهين دونميز خيانة كبرى بحق الحركة، لأنه أفشى بكل ما لديه من معلومات عن الحركة للبوليس، لأول مرة تتوفر المعلومات الصحيحة والموثوقة بهذا الكم في يد أجهزة الدولة التركية عن الحركة وكيفية تنظيمها، عندها علمت بأننا عقدنا المؤتمر الأول التأسيسي للحزب، أي أصبحنا حزباً وننوي الإعلان عن تأسيسنا بعملية ضد جلال بوجاق، أي أنه لم يبق على معلومة لم يقلها، لدرجة أنه ضغط على ذاكرته حتى لا ينسى أية معلومة، بالطبع هذه الخيانة من جانب شاهين أدت إلى تحطيم الإرادة لدى الرفاق في سجن ألعزيز، وصل إلى درجة التردد لدى البعض والاستسلام لدى البعض الآخر وهكذا بقوا حتى جاؤوا إلى سجن آمد، والرفاق الذين عاشوا في السجن يعرفون هذا الأمر جيداً، فالرفاق في سجن ألعزيز باتوا كالأموات عاجزين عن الحركة، فبعدها قام علي كوندوز بالاستسلام والإدلاء بما لديه، كما لم يبق لدينا أية أسرار في الخارج حيث أدلى بكافة المعلومات عن اللجان وأماكنها وأعضائها في كل مكان، ورغم كل التدابير التي اتخذناها تحامل العدو علينا وحدثت بعض الاعتقالات الأخرى.
في تلك المرحلة أقام القائد في أورفا، ومرت عليه أيام عصيبة جداً، كنا قد قمنا بتحديد بعض الأماكن التي يمكن للقائد أن يبقى فيها بأمان عند الضرورة الملزمة، الأول هو في وان والآخر في أورفا، الآخر في ماردين وكان شاهين قد كشف عن كل هذه الأماكن التي يمكن أن يقيم فيها القائد، فحدثت مداهمات لكل تلك المنازل، وفي أورفا ساد نوع من الرعب نتيجة للمداهمات، ففي يوم توجه القائد إلى أحد البيوت، وعندما عرفت زوجة الرفيق أنه القائد لم تفتح له الباب خشية أن تطالهم المداهمات. أي أن الأوضاع كانت صعبة جداً والدولة تريد الوصول إلى القائد بأي ثمن، تقوم بالمداهمات للحصول على معلومات عن مكان تواجده لاعتقاله، لهذا حصلت اعتقالات كثيرة من الكوادر والمؤيدين والمناصرين.
بعد هذه الأوضاع عقدنا اجتماعاً في أورفا مرة أخرى، وقررنا في هذا الاجتماع ضم يلدريم مركيت بدلاً من شاهين، من أجل تعطيل خيانة شاهين وألاعيب العدو، يلدريم لم يكن مركزياً بل كادراً متقدماً لنا في ديرسيم، كان له وضعه العائلي وعلاقاته وبعض الأعمال التي قام بها، لهذا رأينا من الأنسب أن نضم يلدريم مركيت إلى اللجنة التنفيذية لكي نبرزه في مواجهة خيانة شاهين . قبل ضم يلدريم كنا قد قررنا ضم الرفيق عباس إلى اللجنة التنفيذية أيضاً، حيث أخذناه من لجنة الإعلام، كنا قد تناقشنا مع الرفيق عباس في أورفا بشأن خروج القائد إلى الخارج، فقد كان القائد يشرح قناعته بأننا لا يمكن أن نستمر في الحركة بهذا الشكل، لو أصرينا على الاستمرار فإننا سنتلقى ضربات قاضية، فبالوضع الذي آلت إليه الحركة يستحيل إخراجها من الوضع الذي آلت إليه بالإمكانيات الداخلية المتوفرة، ولا يمكن سوى اتخاذ بعض التدابير من الخارج لإنقاذ الحركة من وضعها. لكن لم تكن لدينا أية علاقة بالخارج، بل لم نكن نعرف إنساناً واحداً في الخارج.
كان هناك الرفيق أدهم (محمد سعيد آكجان) من أهالي سروج، وكان رفيقاً يعمل على نطاق سروج، أخبرنا أن له أقارب على الطرف السوري، كان ذلك كل أملنا وكل إمكانياتنا ولا شيء غيره، حتى أنه لم يكن يعرف أقاربه في كوباني جيداً، قال أن إخوانه يذهبون إلى هناك ويعرفون بعضهم البعض، وأعلم فقط أن لنا أقارب هناك، لكن كيف سيعبر القائد الحدود؟ وهل ستقبل تلك العائلة به إذا ذهب إليها أم لا؟ لم يكن كل ذلك واضحاً، ورغم ذلك قررنا أن نستخدم هذه الإمكانية. سألنا محمد سعيد: كيف سيتم العبور؟ قال: كما يعبر المهربون ندفع ألف ليرة تركية على كل رأس ونعبر. قلنا: هذا غير ممكن وفيه خطر كبير، فيمكن أن يتعرفوا على القائد لأن صورته باتت منتشرة ومعروفة من جانب عناصر الدولة، وفي ذلك خطر كبير. ولكن محمد سعيد قال: لا توجد أية إمكانيات غير ذلك، قلنا: ألا توجد إمكانيات بشكل آخر مثل أن يعبر بواسطة المهربين دون علم الدولة؟. قال: إن المهربين ذاتهم يعبرون بهذا الشكل، ناقشنا الأمر وقال القائد: إننا سنجرب هذه اللعبة. ولكن لو وضعوا احتمال أن يكون هذا الشخص هو القائد ولو بنسبة واحد بالمائة فإنه سيقضى عليه مائة بالمائة. بهذا الشكل ذهب القائد والرفيق محمد سعيد، بينما نحن كنا في قلق شديد حول عبور القائد بسلامة إلى أن تأكدنا أن العبور تم بسلامة. فقد ذهبا إلى كوباني إلى ذلك البيت، لم يغمض لنا جفن حتى تأكدنا من وصولهما إلى ذلك البيت، عندها زال القلق عنا وقلنا لا يهم مهما حدث هنا فما دام القائد قد وصل إلى الخارج سيتمكن من تسيير الحركة، لم يعد لدينا أي خوف ويمكننا النضال دون تردد.
عندما يذهبان إلى ذلك البيت كان أهل البيت يعرفون محمد سعيد من قبل، ويسألونه: من هذا؟ يقول محمد سعيد: إنه أحد أقاربنا، يقولون: نحن لم نرى هذا القريب من قبل، يقول الرفيق أدهم: إنه يقيم في جانب تركيا ولهذا ربما لم تلتقوا به. هكذا كان ذهاب القائد، بالطبع حاول القائد كسب ذلك البيت أولاً لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يدور في الشمال، ثم تعرف على بيوت أخرى واستطاع كسبهم، هكذا حتى استطاع أن يكوّن محيطاً له في كوباني، من خلال تلك العلاقة استطاع الذهاب إلى دمشق ثم وصل إلى لبنان كل ذلك بسبب تلك العلاقة وسنتوقف عليها فيما بعد.
بعد أن ذهب القائد بقيت التنفيذية محصورة بي والرفيق عباس ويلدريم مركيت، حيث لم يكن لـ يلدريم فعالية، وقد ذكرت سابقاً أن سبب ضمه هو الاستفادة منه في التصدي لتأثير شاهين في ديرسيم وعليه كنا قد بدأنا بالعمل.
بالنسبة لسويرك، مثلما كان الرفاق يريدون توجيه ضربة إلى جلال بوجاق، كان بوجاق أيضاً يريد إلحاق ضربة مؤلمة بالرفاق، لهذا كان يصعب علينا توجيه الضربة كما نريدها ولا هو قادر على توجيه الضربة التي يريدها. بالنتيجة يأتي جلال بوجاق إلى قرية آكشون بقافلة من السيارات، وهي تقع على الطريق بين حيلوان وسويرك، ويصل الخبر الى الرفاق بأن جلال قد جاء إلى تلك القرية، يقرر الرفاق الهجوم عليه وأن المكان مناسب لمثل ذلك العمل. يبدأون بمحاصرة القرية والبيت الذي هو فيه وكانت لدى الرفاق قنبلة واحدة أعطانا إياها أحد المؤيدين من ويرانشهير، حيث رأينا قنبلة لأول مرة ولم نكن نعرف استخدامها، كنا نعتقد أن تفجير القنبلة يعني تحطيم العالم، أي أن معنى تفجير القنبلة لدينا يماثل معنى تفجير قنبلة نووية لدى دولة. عندما جاء الرفيق محمد قاراسونغور وأخبرناه بشأن القنبلة قال: أين هي؟ قلنا إنها هناك، ولم نكن قد لمسناها اعتقادا منا أن لمسها سيؤدي إلى انفجارها وبالتالي موتنا جميعاً، ولهذا حتى لم نكن نقترب منها، رأينا أن الرفيق محمد ذهب وأمسك بها، تعجبنا وقلنا: ماذا تفعل إنها قنبلة وخطيرة؟ قال: أنا أعرف القنابل لأنني خدمت في الجيش التركي، قلنا هل هذا صحيح؟ وكيف تنفجر؟ فمد يده إلى الحلقة وقال: بانتزاع هذه. قلنا كفاك لعباً بها فهي خطيرة. ذلك هو السلاح الذي كنا سنستخدمه في تلك العملية دون أن نعرف مدى صلاحية تلك القنبلة، عند التجربة اتضح أنها كانت معطوبة، فالذي أعطانا إياها كان قد وجدها مرمية في الحقل.
كل مخطط العملية يعتمد على تلك القنبلة، سيتم إلقاءها إلى داخل المجلس ثم يقتحم الرفاق للإجهاز على بوجاق، سيكون الرفيق صالح كندال في المقدمة، في الخارج وفي الداخل هناك حراس بوجاق ويطلقون النار، يستطيع الرفاق تحييدهم ويصلون إلى المضافة ويطلقون النار على من في الداخل من النوافذ ويلقون بالقنبلة إلى الداخل ولم تنفجر، ثم يدخل الرفيق صالح كاندال من الباب ويطلقون عليه النار فيستشهد، عندها يبدأ الرفاق بالانسحاب. قتل من قتل من الحراس ولكن جلال بوجاق لم يقتل بل أصيب بجروح، بينما يعتقد الرفاق أنه لم يبق أحد حياً، فيأخذون جثة الرفيق ويغادرون. في البداية ينتشر الخبر في سويرك بمقتل جلال بوجاق فيفرح جميع أهالي سويرك ويذبحون الذبائح لخلاصهم من بوجاق، بعد ساعة يصل الخبر بعدم مقتله وأنه جريح في مستشفى في أورفا، عندها يذهب كل هؤلاء الذين ذبحوا الذبائح إلى منزل بوجاق للتأكيد على ولائهم له، بعد ساعة واحدة، لأنهم ذبحوا الذبائح وأدبكوا ولو علم بوجاق بفعلتهم سيقضي عليهم، ولهذا ذهبوا إلى بيته. بعد أن أخذ الرفاق الجثة إلى أحد الأماكن والتموا وتوجهوا إلى سويرك وجدوها عكس ما كانوا يتمنون تماماً، فهم غير قادرون على الدخول إلى سويرك، بل غير قادرون على دخول بعض قراها، أي أن الوضع قد انعكس تماماً. بعدها بدأت الاشتباكات التي تزايدت مع الوقت. قام رجال بوجاق بمحاصرة الرفاق في بيت في قرية ومن بينهم الرفيق “جمعة تاك” وقاموا بقتل الرفاق بكل وحشية، لم يستطيعوا قتل الرفاق ولا فرض الاستسلام عليهم فقاموا بإضرام النار في المنزل، أي جلبوا التبن والقش إلى داخل وحول المنزل وأضرموا النار، رغم ذلك لم يخرج الرفاق حتى انتهت ذخيرتهم، وقاموا بتكسير أسلحتهم بضربها على الجدران حتى لا يستولوا عليها، عندما ألقوا القبض على جمعة تاك وهم يعرفونه لأن والده بينهم، بعضهم يقول لن نقتله والبعض الآخر يصر على قتله، فقاموا برميه في الحصادة التي كانت تعمل هناك، أي قتلوا الرفاق بمنتهى الوحشية.
المجموعة المسلحة التي وضعناها نصب أعيننا في سويرك (مجموعة الدعاية المسلحة) لم تتأسس، بدلاً من ذلك تقدم المفهوم التقليدي للمقاومة المسلحة، اسم التنظيم الذي كان مقترحاً هو:”وحدة الدعاية المسلحة في كردستان” وكنا ذكرنا إدارتها، بعدها تم اعتقال فهمي واستسلم في السجن وخان ولم تبق له علاقة بالتنظيم وتم اعتقال الرفيق رضا كما نعلم، أما محمد كاراسونغور فقد أخرجناه إلى إيران، كان محمد قاراسونغور هو الذي يقود الحرب في سويرك حتى خروجه إلى إيران.
لأننا لم نحصل على النتائج المخططة في سويرك لم نتمكن من تطبيق التكتيك كما لم تتحقق الأهداف التي وضعناها نصب أعيننا. ربما ألحقنا ضربات كبيرة ببوجاق واستطعنا كسر سواعده وأياديه، ذلك صحيح، وربما تكبدنا خسائر كبيرة في هذا العمل ولم نحقق الأهداف المرسومة لحرب سويرك، لكن كان لكل ما جرى تأثيراً كبيراً على كردستان. فقد تمت حماية حيلوان، الصراع الذي تم خوضه في سويرك ألقى بتأثيره الكبير على مناطق كثيرة وعشائرها، فقد تأثر بها الكثير من ركائز الدولة واستسلم بعضهم إلى الحركة والجماهير تأثرت كثيراً، كما تحول الصراع في سويرك إلى وسيلة للدعاية للحزب في المناطق الأخرى بعد حيلوان لنقوم بتعزيز تنظيمنا في المناطق الأخرى، لكن من الجانب الآخر كادت تجربة سويرك أن تقضي علينا سواء على صعيد الكوادر أو على الصعيد المادي. أي أنه كانت لتجربة سويرك نواحي إيجابية كبيرة إلى جانب النواحي السلبية التي كادت تقضي علينا، فقد وضعنا كل إمكانياتنا للحصول على نتيجة بحيث باتت سويرك “بئراً بدون قاع” بالنسبة لنا ولحقت بنا خسائر كبيرة مادياً وكادرياً، لماذا لأن التكتيكات الثورية للحركة باتت غير سارية، وفقدنا زمام المبادرة نتيجة لفشل عملية القضاء على جلال بوجاق، فقدنا السيطرة على مجريات الأحداث نظراً لأن رجال بوجاق بدأوا بالهجوم في كل مكان وحتى على القرويين، الذين يقفون إلى جانبنا، القرويون بدورهم باتوا يتحركون لحماية أنفسهم من رجال بوجاق ويطالبون الحركة بتزويدهم بالسلاح والذخيرة، لأن الحركة كانت تمثل قوتهم، وحتى يقوم محمد قاراسونغور بحمايتهم كان يلبي طلباتهم، ووصل بنا الأمر إلى الضياع بينهم، والحرب التي كانت تجري باتت حرب المواقع أو حرب الجبهات التقليدية، تم الابتعاد تماماً عن التكتيكات الثورية التي كان يجب الالتزام بها، باتت الحرب كالتي تخوضها العشائر والقبائل فيما بينها واللجوء إلى المواقع والستائر. رغم كل المحاولات لم نتمكن من التحكم بها، فلا الكوادر باتت تكفي ولا الذخيرة. ففي ذلك الوقت كنا قد سيطرنا على الحدود السورية تماماً، وكل الأسلحة والذخيرة المهربة كانت تأتي إلينا أولاً ونحن نأخذ منها ما يفيدنا ثم نقول للمهرب يمكنك أن تبيع الباقي أينما تريد، كانت تصلنا الذخيرة بسيارات جيب ونأخذها إلى سويرك وحيلوان، مثلاً كان هناك رفيق باسم سعادت، أخذنا سيارة جيب محملة بالذخيرة إلى سويرك وحيلوان عن طريق بوزوفا، وأفرغنا السيارة هناك وعدنا، قبل أن نصل إلى سروج أرسل قاراسونغور الخبر بأن الذخيرة قد انتهت وعلينا تأمينها، نعم سيارة من الذخيرة خلال ساعات، لأنه كان يوزعها على القرويين وهم يستهلكونها بدون تحفظ ، والخلاصة كادت تلك الحرب أن تخنقنا.
عقدنا اجتماعاً في “قيزيلتبة” بعد تلك التطورات، واتخذنا قراراً بمداخلة جذرية في الأمر وهذا التوجه في سويرك، قررنا إرسال الرفيق محمد خيري دورموش للتدخل والقيام بإعفاء بعض الرفاق وبسحب بعضهم من هناك، بدون ذلك لن نتمكن من ترسيخ الخطط والتكتيكات التي تخصنا هناك، فالحرب التي نخوضها هناك يتثاقل عبئها علينا مع مرور الوقت، ولم يحدث ذلك لآن الرفيق محمد خيري تعرض للاعتقال بعد ذلك الاجتماع مباشرة. أننا كنا قد وضعنا خطة تأسيس قوة الكريلا من خلال تجربة سويرك ومن ثم نقل تلك القوة وتجذيرها في بوتان، لم نستطع الوصول إلى ذلك الهدف حينئذ ولكننا لم نتخلى عنه أيضاً، فلم نتخلى عنه بل قمنا بتحقيقه ولو بشكل متأخر، هذه إحدى حقائق هذه الحركة، فعندما تقوم هذه الحركة بوضع هدف لها لا تتراجع عنه مطلقاً، فحتى عندما قمنا بجعل جلال بوجاق هدفاً لنا، قام شاهين بتزويد العدو بكل تفاصيل العملية ورغم ذلك لم نتراجع عن استهداف جلال بوجاق، بينما الآن نرى أن بعض العاملين يستطيعون التخلي عن الأهداف التي ترسمها الحركة بكل سهولة بشتى الذرائع، بل يخلقون الذريعة من أجل التخلي عنها، هذا لا يعبر عن حقيقة هذه الحركة، ربما تستطيع إجراء تعديلات على خططك والتكتيك ولكن لا تستطيع التخلي عن الهدف لأي سبب كان. عندما تم تنفيذ عملية بوجاق تم الإعلان عن تأسيس الحزب أيضاً، تم توزيع بيان التأسيس في كل المناطق، وألقى هذا الإعلان بتأثيره على الكادر والشعب على حد سواء، كما كان له تأثير على الخارج أيضاً، حتى ذلك الوقت كانت قد تأسست أحزاب كثيرة في كردستان، لكن لم يقم أي حزب بالإعلان عن نفسه، كلها بقيت سرية وانكشفت خلال تحقيقات البوليس، فلم يتجرأ أي حزب عن الإعلان عن نفسه، PKK هو الوحيد الذي قام بذلك في شمال كردستان وكانت تلك خطوة جديدة، أي أن يقوم حزب بالإعلان عن نفسه من خلال عملية، كان ذلك أمراً مهماً أن يقوم حزب بالإعلان عن نفسه بهذا الشكل. لماذا لم نجعل من الدولة هدفاً لنا وجعلنا بوجاق هدفاً؟ لم يكن ذلك الاختيار صدفة أيضاً، فرغم المكاسب والتقدم الذي حدث في حيلوان وعلى الصعيد التنظيمي إلا أن ما تحقق لم يصل إلى مستوى استهداف الدولة والإعلان عن تأسيس الحزب بعملية تستهدف الدولة، فقد كان استهداف الدولة مبكراً من أجلنا في ذلك الوقت، لهذا جعلنا من الطبقة المهيمنة في كردستان هدفاً لنا، فتلك الطبقة هي التي كانت تغذي وتحيي الاستعمار في كردستان، وتشكل دعامة له، ومستوى تنظيمنا كان يساعدنا على استهداف تلك الطبقة، فتلك الطبقة لم تكن رسمية مثل استهداف الدولة، لهذا جعلنا من جلال بوجاق هدفاً عن دراية وإدراك. عندما أعلن PKK عن تأسيسه كان ذلك يعني فتح صفحة جديدة وإغلاق صفحات سابقة في تاريخ كردستان، كان بمثابة وضع نقطة في نهاية عصر عدم التنظيم، ولن يعود عدم التنظيم إلى كردستان بعد ذلك، المجتمعية المنظمة ستكون هي الأساس في كل شيء وسيتم الإصرار على هذا الأمر، كل ذلك كان هو المعنى من إعلان الحزب، فالحزبية في كردستان باتت تعني المجتمعية، إلقاء الخطوة اللازمة على هذا الصعيد والإصرار على هذا يعني المجتمعية الكردية، على أساس تلك الخطوة سيتم التقدم نحو بناء المجتمعية الكردية، الإعلان عن الحزب كان بمثابة إعلان للمستعمر وللمتواطئين وللخارج بأن هذا المجتمع سيبقى مصراً على مجتمعيته وسيتقدم بها تحت كل الظروف، وهذا الشعب قد اتخذ قراره بذلك ولن تستطيع أية قوة منعه من تحقيق هدفه، وكان يعني طي الصفحات السوداء من تاريخ الشعب الكردي ليقوم بكتابة تاريخه بيده من جديد، كل ذلك كان معنى الإعلان عن الحزب، قرار الإعلان عن الحزب كان يعني أننا قررنا أن نحيا بحرية أو لا نحيا أبداً، لهذا شكل الإعلان عن تأسيس الحزب انعطافاً تاريخياً في حياة شعبنا، بداية لتاريخ الكرامة والحرية وإلقاء الخطوة الأولى على صعيد الاعتماد على الذات في هذا المضمار، كما كان رفضاً لمقاييس حياة الاستعمار بكل جوانبها الأخلاقية والثقافية والإيديولوجية ورفضاً للاستعمار وللتواطؤ والعمالة معه، لهذا كان قراراً تاريخياً وترك أثراً ايجابياً على الكوادر وعلى الشعب، فالجماهير التي كانت تؤمن بهذه الحركة زاد إيمانها، وباتت تتقرب إلى الحركة أكثر وتحتضنها وتحقق المزيد من الانضمام للمشاركة في النضال من أجل الحرية، زادت ثقة الشعب بنفسه، الكادر أصبح أكثر ثقة بحركته وبنفسه وبشعبه، أي زاد الإيمان بالحركة والثقة بالنفس وشدت الهمة لدى الجميع لمزيد من النضال من أجل الحرية والديمقراطية، ولو استطعنا الحصول على النتائج التي خططناها في سويرك لاستطعنا تسجيل خطوات أكبر على الصعيد التنظيمي والتجييش، والنضال من أجل الديمقراطية والعدالة، وربما تخلصنا من كثير من المشاكل التي واجهتنا فيما بعد.
كما أسلفنا كانت لحرب سويرك مكاسب وإيجابيات كبيرة على صعيد التعريف بالحركة واحترامها، لكن كانت لها سلبيات وأخطاء كبيرة أيضاً، ليس على صعيد الخسائر المادية والكوادر فقط وإنما على صعيد تقدم مفهوم مختلف للحرب خارج مفهوم هذه الحركة، بقي ذلك المفهوم بين كريلا هذه الحركة منتشراً لفترة طويلة، أي لم ينته ذلك المفهوم مع انتهاء سويرك بل استمر لسنوات طويلة، فإذا لم يتم التوصل إلى نوعية الكريلا التي كان يتصورها القائد، فإن ذلك مرتبط بمفهوم الممارسة التي تمت في سويرك، لأن ذلك المفهوم الذي تولد في سويرك بقي منتشراً حتى عندما انتقلنا إلى بوتان، أي أن ذلك المفهوم التقليدي لم ينفك عنا وكان سبباً في تأخر الوصول إلى النوعية التي كان يريدها القائد، كما تسبب ذلك المفهوم في تقدم العصاباتية في صفوف الكريلا، لأننا ألقينا أسس أول تنظيم عسكري في سويرك وأردنا تطوير التكتيك العسكري هناك ، ولكن التنظيم والتكتيك لم يتطورا كما كنا نأمل ولهذا ساد ما كان تقليدياً، مما تسبب في تعثر ما قمنا بتطويره لاحقاً تنظيماً وتكتيكاً. كما يقال “إن البدايات مهمة”، إنه كلام صحيح، فنظراً لذلك المفهوم الذي انتشر في بداية التنظيم العسكري، لم نستطع التخلص من تأثيره وآثاره رغم كل الجهود والمحاولات التي بذلت فيما بعد، وأصبح عائقاً أمام تجييش الكريلا وتطبيق تكتيكاته على النحو المنشود، بل أصبح أساساً للعصاباتية بكل أشكالها في صفوف الكريلا.
بعد أن عبر القائد الحدود استطاع الوصول إلى دمشق بالإمكانيات التي صنعها بنفسه، والتقى بالفلسطينيين في محاولة لإقامة العلاقات وخلق بعض الإمكانيات للحركة ونقل بعض كوادرنا إلى تلك الساحة. فقد التقى بمسؤول الجبهة الديمقراطية بقيادة “نايف حواتمة” وطلب منه أن يأخذه إلى لبنان ليلتقي بمركز منظمته ويتحدث معهم، لأن ذلك المسؤول لم يكن بمستوى اتخاذ القرار بهكذا شأن، بل لم يرغب في إيصاله إلى بيروت، لم ينفك عنه القائد حتى أقنعه بإرساله إلى بيروت. فذهب القائد إلى بيروت والتقى بالجبهة الديمقراطية ثم بـ “فتح” ثم بـ “بالمنظمة الشعبية لجورج حبش”، وتحدث إلى الجميع في سبيل منح بعض الإمكانيات لأخذ بعض كوادرنا إلى هناك بهدف تدريبهم، لكن لم يقبل بذلك أيٌ منهم ولم يبدوا رغبتهم في القبول، القائد بقي مصراً، وأخيراً وبهدف التخلص من إلحاحه قالوا: يمكنك أن تأتي بمجموعة صغيرة. طلب منهم القائد إعطاءه بعض الهويات لنقلهم نظراً لتعذر انتقالهم بدونها، حيث كانت مرحلة الإخوان المسلمين في سوريا، والتدابير السورية كانت قاسية للانتقال، الدولة السورية تتحامل على الإخوان، في هذه الظروف يصعب نقل أشخاص عبر الحدود ثم إيصالهم إلى دمشق ومنها إلى بيروت، كان ذلك عملاً صعباً بل يكاد يكون مستحيلاً بدون هويات، خاصة لم يكن لدينا تنظيماً يقوم بذلك، فلو وجد التنظيم ربما تمكننا من ذلك، في غياب مثل هذا التنظيم كان لابد من الاعتماد على ما يوفرون من إمكانيات، وهم لا يعطون ويقولون: نحن لا نعطي الهويات، عليك أن تأتي بهم بإمكانياتك، يعتقدون أن القائد لن يتمكن وبذلك يتخلصون منه، أي كل الإمكانيات التي حصل القائد عليها منهم هي كلمة “لا مانع إن أتيت بهم” فقط. بعدها عاد إلى كوباني مرة أخرى وأرسل لنا تعليماته مع الرفيق “أدهم”،وهما الوحيدان هناك.
وصل إلينا أدهم وسلمنا التعليمات التي يقول فيها القائد: يمكنكم إرسال مجموعة ما بين عشرة إلى خمسة عشر رفيقاً، من الذين في وضع خطير والذين لديهم إمكانيات التعلم والتقدم، بالطبع كانت هناك تعليمات أخرى. عندما وصلت التعليمات كنا أنا والرفيق عباس فقط حيث لم يكن يلدريم قد انضم إلينا بعد، واستغربنا سرعة وصول القائد إلى هناك وخلقه لإمكانية إرسال وتدريب الكوادر هناك، لم نصدق ذلك لأنه لم تكن لدينا إمكانية، لما سألنا الرفيق أدهم قال: صحيح إن القائد استفاد من إمكانيات أقاربي وذهب إلى دمشق ثم بيروت وعاد. عندها صدقنا بعض الشيء لأن القائد لم يذكر شيئاً في تعليماته. كتبنا تقريراً أعطيناه لأدهم ليسلمها للقائد، قمنا بالإعداد لإرسال بعض الرفاق، وقد منحتنا تلك التعليمات معنويات قوية دفعتنا لمزيد من النضال، الثقة متوفرة لدينا بأننا سنقوم ببناء الحزب وتنظيمه من جديد بحيث نستطيع تلافي كل الخسائر التي نجمت عن الخيانة والأخطاء والاعتقالات. ألقينا بعض الخطوات التي أكدت لنا ثقتنا بأنفسنا على أننا سنتقدم بالتنظيم ونحقق ما نصبو إليه، عندها قمنا باختطاف الرفيق كمال بير من السجن في أورفا لنرسله إلى القائد، كمال قال إنه لن يذهب مهما حاولنا وقال: إن الحزب اختطفني من السجن أول مرة، هذه هي المرة الثانية بينما أنا لم أفعل شيئاً بعد للحزب، فلماذا أذهب إلى الخارج؟ أنا مدين لهذه الحركة ولن أذهب. حاولنا كثيراً لإقناعه ولم يقتنع، عندها قلت له: يا رفيق كمال إنها تعليمات القائد ويجب أن تذهب، إذا لم تذهب فإننا سنضطر إلى القبض عليك وإرسالك، عندها اقتنع. قال كيف سأذهب؟ قلت: ستركب القطار وتذهب. لم يصدق طبعاً وقال: أنا لن أركب القطار وقد ندمت للمرة السابقة. قلت إنها توجيهات القائد، قال: حتى ولو كانت توجيهات القائد فإنني لا أريد العودة إلى السجن مرة أخرى كيف سأركب القطار، وبذلت جهداً كبيراً وأعطيناه سلاحاً لإقناعه مرة أخرى حتى أرسلناه إلى جانب القائد في كوباني.
عندما قمنا بتهريب الرفيق كمال من السجن كان قد أخبرنا بأنه وشخص آخر معه سيهربون من السجن، نحن كنا قد اتخذنا تدابيرنا حسب ذلك، عندما ذهبنا في اليوم المحدد، كان سيخرج السجناء إلى اللقاء المفتوح وكنا سنتدخل لتهريبهم، ذهبنا وانتظرنا كثيراً ولكنهم لم يخرجوا، بل أن المجموعة تعرضت للخطر بسبب ذلك، حين اتصلنا به وسألناه عن السبب أو أنه لا يرغب في الخروج، فهمنا منه أن الشخص الذي حفر النفق حفره ضيقاً ولهذا لم يتمكنوا من النفاذ منه، لأن الرقابة كانت مشددة عليه، وهو يتصرف كإنسان عادي دخل السجن، ولا يسعى إلى حفر النفق، كان يدفع شخصاً آخر إلى حفره بمفرده، وذلك الشخص حفره ضيقاً ولم يكمله تماماً، لهذا جاؤوا ولكن لم يتمكنوا من النفاذ من النفق. في المرة الثانية حددنا الموعد وأرسلنا سيارة إلى قرب السجن، وجهزنا بعض السيارات في أماكن أخرى للحماية، أي بثلاث سيارات لنتمكن من إخفاء الأثر. عندما خرجوا وجدناهم تسعة أشخاص، ليس بينهم أي ثوري، كلهم أشخاص عاديون محكوم عليهم بالمؤبد أو الإعدام، كلهم ركضوا إلى السيارة، قلنا: يا رفيق كمال ما هذا؟ لماذا لم تخبرنا كي نتخذ التدابير حسب ذلك؟ قال: ماذا سأقول يا رفيق، كل هؤلاء محكوم عليهم بالمؤبد أو الإعدام ويريدون الخروج، هل سأقول لهم لا تخرجوا؟ أنا لا أستطيع أن أقول لهم ذلك. كل هؤلاء ركبوا في سيارة تكسي واحدة، بعضهم دخل السيارة والبعض الآخر تعلق بالنافذة ونصفه في الخارج والبعض الآخر تعلق بالسقف، حتى وصلنا إلى السيارة الثانية، ركب بعضهم في السيارة الثانية وخف العبء بعض الشيء، ثم أخذناهم جميعاً إلى بستان رمان في سروج، تدبرنا لهم هويات لنرسلهم جميعاً إلى بيوتهم، ولكنهم يرفضون الذهاب ويقولون: نحن وعدنا الرفيق كمال ولن نتركه، بل سنسطو على البنوك للحصول على النقود. نقول لهم: إن الأوضاع لا تسمح بذلك وهناك خطر، أذهبوا إلى بيوتكم وسنتصل بكم فيما بعد، لكن دون جدوى، يرفضون الذهاب، اضطررنا إلى الاستنجاد بكمال وقلنا: تعال وتحدث إلى هؤلاء الذين صنعتهم وأقنعهم بالذهاب إلى بيوتهم. فجاء كمال وأقنعهم بالذهاب على أن يتصل بهم فيما بعد. فأرسلناهم ولكن عندما ذهبنا إلى حيلوان أرسل الرفاق الخبر بأنهم عادوا جميعاً مرة أخرى، مصممون على الذهاب لعند الرفيق كمال. لقد عادوا جميعاً خلال عشرة أيام، ومرة أخرى حتى استطعنا إرسالهم بألف صعوبة، فهم يصرون على البقاء إلى جانب كمال لأنهم وعدوه بذلك، ويقولون: نحن سنخوض الثورة إلى جانب الرفيق كمال. تخلصنا منهم بألف صعوبة وهم جميعاً من كبار السن وليسوا شباباً. هكذا كان الرفيق كمال يكسب الناس في السجن.
الحديث عن الرفيق كمال يعني التحريض والدعاية والممارسة العملية، أتذكر عندما كنا نذهب إلى بعض القرى في بازارجيك وألبيستان وكان كثير منهم مؤيدون للتنظيمات الأخرى مثل PDA و KURTULUS وغيرها وكثير منهم لا يفهم اللغة التركية، كان الرفيق كمال يتحدث بالتركية، عندما نخرج من القرية يقول بعضهم نريد أن ننضم إليكم ونذهب معكم، نريد أن نذهب مع كمال، أسألهم: هل فهمتم شيئاً من كمال؟ يقولون نعم، فهمنا منه. أقول: أنتم لا تفهمون التركية وهو تحدث بالتركية. يقولون: فليكن نحن فهمنا منه. أقول : كيف فهمتم؟ يقولون: من حركاته!!!. أي أن الرفيق كمال كان مؤثراً حتى بحركاته.
في المرة الأولى عندما هرّبناه من السجن في منطقة البحر الأسود، جئنا إلى أنقرا ثم أرزينجان ثم ديرسيم ثم ألعزيز حتى وصلنا إلى بازارجيك، من هناك ذهبنا إلى قرية كنا قد نشطنا فيها سابقاً مؤيدة لنا نعرفهم ويعرفوننا، وجدنا أن هناك عرساً في القرية اجتمع فيها جمع كبير، عندما رأوا كمال ويعرفون أنه في السجن، تحول العرس إلى احتفاء بكمال، فاجتمع جميع الرجال في المساء وطلبوا منا الحديث، نحن لم نكن نفوت مثل هذه الفرص، خاصة أن الرفيق كمال خارج من السجن ولم يتحدث منذ فترة طويلة، قلت: تحدث يا رفيق كمال، فأسهب في الكلام حتى منتصف الليل، في الصباح كان هناك أحد شباب القرية جاء إلينا وقال: هل يمكنكم التحدث إلينا؟ قلنا طبعاً نحن مستعدون. ذهب وعاد قائلاً: لقد جمعتهم من أجلكم، فذهبنا وأخذنا إلى جمع من النساء، لقد جمع النساء ولم يعلمنا بذلك، فدخلنا وسط الجمع في ميدان القرية وقد وضع طاولة وكرسيين ومن حولها جمع غفير من النساء بانتظارنا، جميع نساء القرية والقادمات إلى العرس من القرى المجاورة والمدينة، أي جمع كبير، حتى ذلك الوقت كنا قد تحدثنا إلى مجموعات صغيرة من النساء ولكن لم نكن ظهرنا أمام مثل هذا الجمع الغفير من النساء من الشعب ولم نتحدث إليهن، لأول مرة نجد أنفسنا أمام مثل هذا الجمع الغفير من جماهير النساء لنتحدث إليهن. فقلت: يا رفيق كمال لقد تحدثت الليلة الماضية وكان حديثك جميلاً جداً، ثم أنك كنت في السجن وتحتفظ بطاقتك على الكلام، بينما أنا تعبت من كثرة الحديث، فقم وتحدث الآن. قال: كلا عليك أن تتحدث أنت. فلم يبق أمامي إلا أن أتحدث أنا. كنت واقفاً وكمال جلس إلى جانبي، بدأت بالحديث وطال لأربعين أو خمس وأربعين دقيقة، ولكن لا أعلم ما قلته، وأصبحت كمن صبوا عليه الماء من كثرة التعرّق، أعتقد أنني مررت بكل الألوان خلال الحديث من كثرة الحياء، خاصة أن بعض النساء كن يزغردن من الحماس فتختلط الأمور أكثر. بعد أن أنهيت الحديث تكلمت سراً مع كمال دون أن ألتفت إليه: كيف كان الحديث؟ قال: لا أعلم أبداً. عندها ظننت أن حديثي كان سيئاً جداً وتحطمت معنوياتي وكأنني بلا روح، حاولت أن أسأله عن السبب، لكني عندما نظرت إليه وجدته مثلي كمن غاص في الماء، عندها قلت: يا رفيق أنا من تحدث واستحى وتغيرت ألوانه فما بالك أنت؟ قال: لا تسألني مطلقاً، إن الجلوس أمام جمع من النساء أمر صعب بحد ذاته، تعال واسألني عن ذلك ربما لم تشعر بذلك لأنك كنت تتحدث، إنني لم أسمع حديثك مطلقاً. عندها قلت هذا جيد مما يعني أن حديثي لم يكن سيئاً إلى تلك الدرجة. ثم ودعناهن وخرجنا، وعندها شعرت وكأن عبئاً ثقيلاً قد زال عن كاهلي، كأنني ولدت من جديد، ذلك حدث لن أنساه في حياتي.
تركت الرفيق كمال هناك وذهبت لأتدبر هوية سليمة له وبعد أسبوع طلبني مرة أخرى فعدت إليه ورأيته قد نفذ صبره يسألني لماذا لم تتجهز الهوية؟ لماذا أنا بدون عمل؟. الرفيق كمال لم يكن قادراً على السكون لحظة واحدة، كان يجب أن يعمل دائماً. قام بتوجيه النقد اللاذع لي؛ لماذا أهملتني هنا، تركتني بدون عمل بدون نضال، إلى أن ذهبت وأتيته بالهوية، بقي في تلك المنطقة، عندما حدثت مجزرة مرعش كان هناك، ولعب دوراً بارزاً في توجيه الشعب خلال المجزرة، حيث لم يكن وضعه يسمح بالاختلاط بالشعب وقيادتهم مباشرة، ولهذا بقي على مستوى التوجيه سراً. بينما الذي تصدى للمجزرة مباشرة كان الرفيق عمر، حيث لم يتصدى أحد للمجزرة سوى الشعب ورفاقنا، الرفيق عمر فقد ساعده في تلك الحوادث، أما الحركات الأخرى فلم تحرك ساكناً، ولم تقم بأي عمل.
بعد أن أرسلنا الرفيق كمال إلى جانب القائد أرسل القائد تعليمات ثانية لنا جاء بها الرفيق أدهم، تتضمن التعليمات تقييمات أشمل من السابق ويطلب فيها إرسال مائتين وخمسين كادراً آخر!!! عندما قرأنا ذلك لم نصدق، ربما خمسة عشر أو عشرين ولكن مائتان وخمسون هذا مستحيل ولا يمكن تصديقه. حتى ولو أرسلنا مائتان وخمسون كادراً لا يتبقى أحد للنضال هنا، فقد اعتقل من اعتقل والمتبقون كلهم بالكاد يصلون إلى مائتين وخمسين، لو أرسلناهم لا يبقى أحد، ويسودنا مفهوم أننا نعيد بناء التنظيم ونديره هنا، بينما نحن نقوم بذلك يطلب القائد منا إرسالهم!!. اعتقدنا أننا لو فعلنا ذلك فإن النضال سيتوقف، سيحدث فراغ هنا، بينما نحن نأمل في أن نستولي على بعض النواحي، بالإضافة إلى أن إرسال مائتين وخمسين شخصاً وإعاشتهم في الخارج ليس سهلاً وخاصة لا تتوفر لدينا الإمكانيات اللازمة، لهذه الأسباب لم نقم بتنفيذ تلك التعليمات بكاملها، فأنا والرفيق عباس لم نكن نصدق أن القائد سيتمكن من تأمين المأوى والتدريب لكل هؤلاء، ثم الناحية الأخرى المتعلقة بنا والتي شرحتها.
لو قمنا بتنفيذ تلك التعليمات بالكامل ربما لم تحدث الاعتقالات التي حدثت ضمن صفوفنا فيما بعد، فالاعتقالات حدثت بعد تلك التعليمات، فهي كانت قد حدثت من قبل، لكن الاعتقالات اللاحقة كانت ذو نوعية مميزة، بسببها تلقينا ضربات مؤلمة، لو تصرفنا بموجب تلك التعليمات ربما ما حدثت تلك الاعتقالات. ولما امتلأ سجن آمد بكل ذلك العدد من الكوادر النوعية المتميزة، فتقصيرنا كان سبباً في حدوث ذلك، هذا ما يجب فهمه. فقد تولدت القناعة لدى القائد بأن النضال لا يمكن أن يستمر بذلك الشكل، لهذا طلب هذا الكم من الكوادر، خاصة أنه كان يرى الاعتقالات تجري وكان لا يريد مزيداً منها، فهو كان يريد أن يسحب الكوادر إلى الأمان ثم التدريب هناك، لسد الطريق أمام التخريب، بينما أنا والرفيق عباس لم نكن نفكر هكذا، فقد كنا نؤسس لجان جديدة ونجهد من أجل تصحيح الأوضاع ونزيل التخريب ونلقي بعض الخطوات، بذلك نعتقد أن ما نقوم به صحيح، تلك هي الغفلة التي كنا نعيشها، فلم نكن نعيش وندرك عمق الأوضاع التي نحن فيها، ذلك هو سبب عدم تنفيذنا للتعليمات، ثم بعدها فهمنا أن ما طلبه القائد كان صحيحاً وما فكرنا به كان خطأً، ولكن بعد فوات الأوان. هذا الأمر صحيح بالنسبة للجوانب الإيديولوجية والسياسية والفلسفية والتنظيمية والثقافية وكل ذلك مرتبط بالتاريخ. فنحن لو أردنا تنفيذ التعليمات لاستطعنا تنفيذها، لكن لأننا تناولناها حسب فهمنا تلك كانت نتيجتها، لهذا فالمزاجية لا تجوز في التنظيم، لو تصرف أي شخص بمزاجية ستكون نتيجته كما حصل لنا، النوايا لا تفيد هنا فالأمور تقيم بنتائجها في العمل التنظيمي والعمل السياسي، لا فرق أن تتسبب في معاناة وخسائر سواء أكانت نواياك حسنة أو نواياك سيئة، المهم هو أنك تسببت في الخسارة أو المعاناة، أي إن النتيجة هي الأهم. طبعاً نوايانا كانت جيدة وحسنة، بل كنا نعمل ليلا نهاراً، لم نكن خاملين، بل كنا نواجه كثيراً من الأخطار حتى نتمكن من إخراج التنظيم من الوضع الذي هو فيه، كنا نلقي بعض الخطوات حسب ذلك، لكن النتيجة التي عشناها جاءت مختلفة، كما تضمنت تلك التعليمات ضرورة أن يتحول إعلامنا إلى تنظيم، أي أن يقوم إعلامنا بتنظيم نفسه على شكل تنظيم. كذلك تضمنت تلك التعليمات ضرورة التدخل في سويرك اعتماداً على المعلومات التي أرسلناها للقائد، فعلاً كانت تعليمات شاملة وافية، تلك التعليمات غير موجودة في أرشيفنا، فقد كانت نسخة واحدة ولم تتوفر إمكانياتنا لتزويدها، وقد وقعت تلك النسخة الوحيدة في أيدي البوليس عندما اعتقل مظلوم دوغان ويلدريم مركيت وآيتان، وهي الآن في أرشيف البوليس.