مقاومة ١٤ تموز هي روح PKK التحررية
مقاومة ١٤ تموز هي روح PKK التحررية
ورجان قلاووز
هل فكرتم يوماً أن يُمنع عنكم السعال والحك وطرف العين والنظر يمنة أو يسرة، والقمل متعشش في أجسادكم..؟ وهل يمكنكم تخيل نفسية ذاك الإنسان المسجون في غرفة خاصة وهو يتعرض للتعذيب اليومي على مدى أشهر عدة..؟ هل تعرضت لمثل هذه الأشكال من التعذيب لعدم قبولك الخنوع والرضوخ وتبني هويتك..؟
تخيلوا أنكم واحد من بين 120 شخصاً مسجونين في حجرة من حجرات السجن التي لا يزيد عرضها عن عدة أمتار وكذلك طولها..! لمجرد خطأ بسيط يرتكبه أحد من هؤلاء الأشحاص، يُحكم عليكم بالتعذيب مئة مرة في اليوم الواحد دون أي تفريق بين المذنب والمظلوم… أجل… أخذ الأوكسجين في سجن ديار بكر كان كافياً لأن يغدو مبرر التعذيب والضرب، عدا ذلك يتّبع التعذيب بدءاً من الصباح مروراً بالظهيرة وصولاً إلى العصر والمساء ولاسيما أثناء النوم الذي كان يشبه كل شيء عدا ذلك.
في الفرع الثاني من السجن العسكري لديار بكر تتعلم النشيد الرسمي مع موسيقاه، خلال عشرة أيام حتى لو كنت تجهل حروف اللغة التركية. في غضون قلة قليلة من الأيام يمكنك تقديم تقييمك بتركيةٍ تخلو من الأخطاء، طبعاً كل ذلك ناتج عن الآلام المتمخضة عن التعذيب والذي يفرض عليك كل ماهو خارج عن إرادتك.
يستحيل عليكم التفكير بالمأوى والنوم ولا حتى تنفس الصعداء، لأن ذلك كفيل بأن تتعرضوا لتعذيب يترك أثره على جسدكم حتى الموت. فبالرغم من معرفتهم وإدراكهم لضرورة هذه الحاجات لمواصلة الحياة الطبيعية، تجدهم يعذبونك بأساليب لا تطبق بحق الحيوانات، لدرجة يصعب على العقل تصورها. أن تكون من أنبل الناس وأكثرهم احتراماً وأصالة، هذا لا يحرك من شعورهم قيد أنملة، بل وليس له أية مكانة في قاموسهم، مهما يكن فليكن، فلا فرق ولا قيمة إن كنت شيعياً أو علوياً أو سنياً، فالمسألة تكمن في كونك كردي الأصل أولاً، وهذا ما يشكل الحلقة الأساسية في ديار بكر، وتُزاد شدة التعذيب إذا كنت كردياً تؤيد القضية الديمقراطية والحرية الكردية. فيكفي أن تطالب بالديمقراطية حتى تتعرض- وإن كنت تركي الأصل- لما لم تشهده عيناك، وذلك بتبرير المواقف الوحشية؛ إنكم خونة وعملاء ولا أصل لكم… يجبرونكم على تقيؤ الحليب الذي رضعتموه من أمهاتكم.
نعم، لا بد من هدف وراء كل هذه الممارسات، والهدف الأساسي الذي ترمي إليه هذه السياسات هو التتريك، والاستغناء عن الهوية الكردية والتخلي عن الإنسانية التي تخدم شعبك وشعوب الشرق الأوسط، فعليك قبول الخيانة وجعلها تاجاً تضعه على رأسك رغماً عن إيمانك.
سعى نظام / 12 / أيلول إلى تحويل كافة أعضاء PKK إلى دمى ليتسلوا بها كما تقتضي حاجاتهم الغريزية، ومن ثم جعلهم عبراً للمجتمع : «انظروا، انظروا إلى أحوال الذين عاهدوكم ببناء كردستان حرة، انظروا وليكن عبرة لكل من ينوي سلك هذا السبيل، وسيكون حالكم لا يحسد عليه إذا ما نطقتم بالكردية .»…
اتبع نظام / 12 / أيلول كافة الأساليب ليستسلم الكوادر الآبوجيون طواعية، ومن ثم خنق القضية الكردية بين جدران سجن ديار بكر الأربعة ودفنها تحت سبع طبقات من الأرض. لم يترك أية وسيلة أو أسلوب كي يقول: » لم اتبع هذا الأسلوب، إذ كان بوسعي اتباعه.. ». رغم كل ذلك انصهرت سياسة نظام / 12 / أيلول بنار مقاومة / 14 / تموز «صيام الموت الكبير » لم ينهزم المطالبون بالديمقراطية والحرية في الصراع، فالذين سعوا إلى تجسيد سياسة التتريك والإنكار هم من خسروا المعركة منذ اللحظة الأولى.
على الجميع أن يدرك تمام الإدراك بأن مقاومتهم ليس لها مكان، لا في الدين ولا في الكتب ولا في أية فلسفة؛ انتصرت هذه القضية الإنسانية في زمن كان النظام الظالم نظام / 12 / أيلول سائداً، والنتيجة التي سيصل إليها النظام القائم حالياً لن تكون مغايرة لسابقاتها. لأن «الكرد » كردي بكل ما للكلمة من معنى. ولم يكن ثمة أمر طبيعي أكثر من أن يكون الكرد كردياً.
فهل من المعقول أن يضحى الكرد تركاً، حتى بفرض هذه السياسات لن يقبل »الكرد » إلا أن يكون كردياً، لكنه مستعد لإقامة الصداقة والإخاء، أما أن يغدو تركاً فهذا ما لا يجب تأمله من الكرد. أن تولد على وجه الحياة بالهوية الكردية ليس ذنب الكرد، كما «الترك » بالهوية التركية ليس ذنبه. لماذا يتعرضون لهذه الأساليب الوحشية واللا أخلاقية، ألكونهم يطالبون بالحياة الحرة في وطن ديمقراطي..؟
أول رد على نظام / 12 / أيلول كان من إنسان تركي الأصل. كمال بير هو أول من وجه صفعة لهذا النظام الفاشي وأول من بدأ بالمقاومة وصيام الموت، ليقول لكل شخص وحشي وفاشي: «توقفوا.. هذا جنون وتهور.. .» كان كمال بير قائداً للشبيبة الثورية، درس في كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا، وبعد نقاش دام لنصف ساعة مع القائد آبو، قرر تقديم مساهماته لنضال الحرية الذي بدأه الكرد، وردد في قرارة نفسه » لا حرية للترك دون حرية الكرد ». وهكذا احتل مكانه في أول مجموعة ثورية معروفة بالآبوجية.
الذين عرفوه عن كثب يدركون جيداً المستوى الثقافي الذي تمتع به الرفيق كمال بير، فما من إنسان أجرى النقاشات معه وتحدث معه إلا وتأثر وانضم إلى حركة الحرية الآبوجية. أغلب الناس يعرفونه بصفة الجندي المخلص، إلا أن هذا التعريف لا يعبر عن حقيقته لأنه أسمى من كونه جندياً مخلصاً، فهو إنسان أيديولوجي قبل كل شيء، كان متمكناً من علم التاريخ. وقد كانت النظرية الاشتراكية العلمية نقية كالمرآة أمام ناظريه. كان صاحب خطاب قادر على تحريك الحجارة، قد يكون ذلك مبالغاً فيه وفق وجهة نظر بعض الشخصيات، لكنني واحد ممن تأثر بخطابه لدرجة أنني لم أتمالك نفسي، فقد بعث فيّ رغبة جامحة في تسيير الأنشطة ليلاً ونهاراً دون الشعور بالكلل أو الملل. كانت نبرة صوته الناضجة تبعث الأمل والثقة في نفس الجماهير المصغية. نعم… احتل مكانه في الصفوف الأمامية لمعركة مواجهة الفاشية. كان قائداً جاداً لا يعرف السكون ويشعر بالحاجة إلى عمل المزيد والمزيد.
له قلب يجتمع فيه حب الإنسان والشعب ليغدوا جسداً واحداً. لم يترك شحاذاً ومتسولاً إلا وتعامل معه وفي قرارة نفسه توعد بأخذ ثأرهم من الذين أوصلوهم لتلك الحالة. كان يكنّ حباً شديداً لتركيا وحبه لتركيا كما المجنون، إذ كان يقول بين الحين والآخر » ليس لأي دولة أربعة بحور مثل دولتنا .. أتعلمون ذلك .. .»
اُعتقل كمال بير ثلاث مرات، لكنه لم يبح بأي سر للظالمين، والصراع والكفاح الذي خاضه في سبيل القضية التي اقتنع بها جعل الجدران تذوب رغماً عن صلابتها، وتعجز عن حبسه. حاول الهروب لكنه لم يتمكن من اجتياز عراقيل ديار بكر، لم يتخطَّ جدار سجن ديار بكر ولم يخرج منه حياً.
كان من الأوائل الذين تعرضوا للتعذيب في سجن ديار بكر. رغم ذلك أحب الشعب الكردي، فهو يعشق ويحب الكردية أكثر من الكرد أنفسهم. كان تركياً يسرع بخطواته لإعاقة الأوليغارشية الناكرة للكرد.
الوحشية التركية أدت به لأن يقول » أخجل من كوني تركياً » أو « هؤلاء ليسوا أتراكاً بل أوغاد ليس إلا .« هو الذي قرر مع الرفيق محمد خيري دورمش البدء بصيام الموت المعروف ب 14 تموز، ليعيق بذلك سياسة التتريك والاستسلام التي فرضها النظام الأوليغارشي.
فقد البصر في اليوم الخامس والثلاثين من أيام صيام الموت، لكنه لم يبح بذلك لأي من الرفاق كي لا يتأثروا به. لكن وبعد أن أدركنا المرض الذي أصابه لم يكن باليد حيلة لننقذه من حالته. بعد مرور عدة أيام جاء الطبيب المختص بشؤون مرضى السجون ففحصه وقال » هل ترغبون بالموت كونكم لا تحبون الحياة.. إن كان العكس صحيحاً، عليك التراجع عن صيام الموت.. .» أجابه الرفيق كمال بثقة وإصرار باديان : كلا … إننا نحب الحياة لدرجة أننا مستعدون لأن نضحي بأغلى ما نملكه في سبيلها.. ». إجابته كانت فلسفية لأنه في الأصل فيلسوف حكيم.
استشهد الرفيق كمال بير في اليوم السادس والخمسين من العملية.
لن أسأل عن البطل، الجميل والعظيم. من يرغب أن يكون من أبناء الترك، فليأخذ الرفيق كمال بير مثالاً يحتذي به. و من يرد أن يضحى ثورياً حقيقياً فكمال بير خير مثال للشخصية الثورية، وعليه إحياءه لحظة بلحظة، وأن يكون صاحب قوة قادرة على استقبال الموت كالفلاسفة.
على الإنسان أن يقف ويفكر عندما يلفظ اسم محمد خيري دورمش. فهو قائد شعب يصعب التعبير عنه. لو أنه فضل الحياة التقليدية لتمكن من بلوغ المستويات العليا.
لكنه سد أبوابها وانضم الى القافلة الآبوجية بعد أن درس الدكتوراه في)حجي تبه(. كان هادئاً كالبحر ومناضلاً ثورياً مثقفاً ناجحاً في تربية ذاته، كذلك شخصيته الناضجة المتواضعة لدرجة تأسفه على نملةٍ إذا ما داس عليها أحد، يتعامل مع كافة الأجيال والأجناس دون تفريق، وله قدرة طارئة على خوض النقاش والحوار وجذب الجميع إلى النهج الصحيح دون أن يصيب أحدا بأذى أو يشعر بإزعاج. يتراءى لك للوهلة الأولى أنه شخصية عاجزة عن النقاش والحديث إلا أنه يجعل العيون والشفاه تبقى محتارة في أمره عندما يباشر الحديث. كان آبوجياً حقاً، كثيراً ما تمنينا لو يتحدث هو ونصغي إليه. لم يتحدث عبثاً، بل كانت نقاشاته غنية وراكزة و متواضعة، إلى جانب أنه لم يتصرف ويتحدث إن لم تدع الحاجة. يمكنني تعريفه باللغة الشعبية القائلة » الإنسان الكامل » بالمعنى الحرفي.
كان له من النضج ما يجعلك تبدي الاحترام له رغماً عنك. كنا نتأسف في الوقت الذي كنا نتحدث فيه بالحروف الكبيرة «بصوت عال » وهو موجود، ولا نتردد في تقديم الاعتذار له ولم نكن نود مفارقته للحظة. ما من عائلة صاغية إلى الرفيق محمد خيري دورمش قالت «ليذهب إنه ممل »، على العكس من ذلك كانوا يقومون بكل ما في وسعهم لكسب احترامه. تحبه العوائل أكثر من أبنائها وكأنهم عثروا على من كانوا يبحثون عنه منذ زمن طويل. كان يتمتع بخصائص الأنبياء. لا يلبس إلا النظيف والمتواضع، رفيع القامة ذو ابتسامة خافية يتحدث معك بلغة عيونه الألماسية. في يوم من أيام زياراته إلى العائلة في بينغول قال له والده: » أرسلتك إلى أنقرة كي تعود إليّ بشهادة الدكتواره، ها أنا أراك الآن تعود لي كردي الأصل.. .» أجاب والده بسكون ونضج : «ما نقوم به الآن ليس بعيدا عن وظيفة الدكاترة والدي، انظر إلى الوضع الذي يعانيه الشعب، هل تجد عضواً سليماً فيه..؟ قررت أن أصبح دكتوراً لشعبي .» لم تأبه هذه الشخصية المنظمة بالعراقيل والعقبات.
لم يكن في يد الإنسان أن يبقى في حيرة من أمره، فالسكون والهدوء والتواضع والأخلاق والتنظيم كلها سويةً كانت تشع من عيونه وتنعكس على كل تصرفاته. كان خلاقاً وقائداً يشكل تنظيمه أينما كان و في أي مكان يذهب إليه.
و هو الذي دوّن الشكل الأخير من برنامج PKK عام 1977 . قلمه أيضاً كان متواضعاً وجذاباً مثله تماماً.
كان قلماً من النوع الذي يفرض عليك سبر أغواره. كان قائداً يجمع في شخصيته المفاهيم الديمقراطية والإيكولوجية . لم يقم بأية عملية مسلحة، لكنه كان المخلص والنشيط الذي يكتفي بصحن من البرغل وكأس من الماء ليخدم شعبه ويسعى إلى بناء مستقبل حر له؛ هو ذا الذي كنا نبحث عنه دائماً ولم نره إلا قليلا. فضلاً عن تواضعه هذا كان يعمل ليلاً نهاراً، يود تقديم كل ما يملكه، فهو رجل السياسة بمعناها الحقيقي.
كان المسؤول الأول في سجن ديار بكر، وعمل كما تقتضتي مسؤوليته. هو الذي أدرك الأهمية التاريخية والسياسية التي يتمتع بها الدفاع السياسي الذي سيقدم أثناء المحكمة. لهذا تحمل كل الأساليب الوحشية وتحلى بالصبر. عانى من التعذيب أكثر من أي واحد منا، إلا أنه كان فخوراً بقضيته ولم يتنازل عن كلمة نطقها سابقاً، بل كان مصرا على أن يلعب دوره أثناء المحكمة. ولم يجد النوم إلى جفونه سبيلاً وهو منشغل بإعداد وثائق قضية شعبه. أصر على أن يشارك كافة المجموعات في المحكمة، ونجح في ذلك، وعارض كافة الاتهامات التي لا علاقة لها بالحقيقة، مع التأكيد على إصراره وعزمه على مواصلة مسيرة الحرية، ولم يتوان عن التصريح بقرار البدء بصيام الموت في وجه المحكمة. وحتى في آخر محطات سفره و في أكثر اللحظات قيمة، عندما قدم حياته في سبيل حرية الشعب الكردي قال: » اكتبوا على شاهدة قبري بأنه مات مديوناً .»
يقف الإنسان لينظر ويتمعن من جديد، لا يجد في يده حلية إلا أن يقول » وا أسفاه .« عاكف يلماز كان واحداً من الرفاق المستشهدين في صيام الموت / 14 / تموز. كان من قارص وانضم إلى الحركة الآبوجية من المنطقة نفسها، تتمتع شخصيته بالنضج والنشاط والكدح. كان مناضلاً لا يبخل بتقديم ما يمكله لرفاقه، رغم تواضعه وسكونه المكتظ بالمعاني، يتكفل بأصعب الأعمال، أما من حيث التزامه بالهدف وحبه للوطن، يمكنني التعبير عنه بكلمة واحدة لا غير وهو أنه كان « مثالاً رائعا ». لم يحمل الحقد ورد الفعل، لأن الحب كان مسترخياً في صميم قلبه. فحتى التعذيب الذي تعرض له في سجن ديار بكر، كان بالنسبة له أمرا يجب استقباله بالتسامح، لأنه نتيجة من نتائج الذهنية، لكنه كان ينسى هذا التسامح إذا ما بدأ بالمحاسبة الذاتية.
عندما كان طليقاً حاول خطف الرفيق مظلوم دوغان من سجن ديار بكر، لكنه لم ينجح في عمله هذا، لهذا السبب لم يترك لنفسه مجالاً يعفو به عن ذاته، وازدادت هذه القطيعة بعد استشهاد الرفيق مظلوم دوغان، ليس لكونه شخصية عاطفية، بل لأن وجدانه لم يغفر له. جاء مدير السجن «بيرول شان «والسكر يغلب عليه، كان يتجول في الحُجر، وكان يحمل المصباح في يده، سأل
الرفيق عاكف قائلا: من أنت… ياو…
عاكف: أنا كردي.
ماذا يعني الكرد الذي تتحدث عنه..؟ عاكف بنظرات حادة: « إنسان .»
في تلك الليلة أخذوه إلى غرفة التعذيب. تخلى عنه المسؤول ليحتل الآخرون مكانه ويواصلوا التعذيب. كان الحقد يشع من وجوههم رغم كونهم مذنبين. أما عاكف فكانت عيناه تشعان أصالة ويتمتع بتسامح لا يقدر.
قبل استشهاده بساعات عدة طلب من حارس يقف بجانبه في المشفى العسكري كوب ماء. ربما كان هذا الحارس ابن حلال وإنساناً طيب القلب، لقد جلب له كأساً من العصير بدلاً من الماء. عندما أمسك الرفيق عاكف وشرب الرشفة الأولى عرف أنه جلب العصير وليس الماء، حينها لم يتمالك نفسه ليقول:| » طلبت منك كأساً من الماء، ألا تعلم بأننا لا نشرب الماء الحلو ونحن في فترة صيام الموت، لن أشرب شرابك ». حمل الكأس ورماه على الأرض.
كان ثورياً ملتزماً بقواعد عمليته حتى آخر نفس، دون أن يتنازل عن أي شيء. أما نحن.. فما مستوى التزامنا..؟ كم مرة في اليوم نتنازل عن مبادئنا وقراراتنا وقواعدنا..؟ عشر ، عشرون أم مائة..؟ وقد نكون في وضع يصعب علينا حسابه.
إن كنت راغباً في أن تكون إنساناً بمعناه الحق، فخذ مقاييس الرفيق عاكف يلماز المبدئية، الحريصة والمنظمة مثالاً لك وما تبقى ليس سوى كلمات فارغة.
علي جيجك هو آخر من استشهد من بين شهداء 14 تموز. كان معروفاً ب » النجمة الحمراء » من قبل الرفاق. وقد كان كذلك في الحقيقة. لم يجرؤ الإنسان أن ينظر إليه. كان دائم الابتسام والنشاط، مفعماً بروح عالية من المعنويات، وفضلاً عن ذلك، كانت ملامحه متناسقة وكأنه مرسوم بريشة رسام محترف. يعود أصله الى أورفا. انضم إلى الحركة وهو ما يزال في مقتبل عمره. في الوقت الذي فر فيه كمال بير من سجن أورفا، قام هو في الخارج بدور المرشد، وبعد فترة تشاركا الغرفة والسجن نفسه.
كان مناضلا ثورياً، نفذ عمليات لاتحصى، وقد تم القبض عليه وهو مسلح ويحمل العديد من الوثائق السرية. إلا أنه لم يقبل أي من الاتهامات؛ القيام بالعملية ولعب دور المرشد وحمل السلاح والوثائق. بناء عليه تُرك لمدة تسعين يوماً بالكامل تحت التعذيب والمحاكمة والاستجواب. لم يقبل بأي تهمة عدا أنه اعترف بهويته الشخصية. وأجبر العدو أن يدوّن ملاحظاته التي اعترف بها بإرادته وليس بقوة الضغط.
قرروا إرساله إلى ديار بكر. لكنهم أرادوا معرفة أمر من الرفيق جيجك، بناء عليه طرحوا السؤال التالي: » من منا كان هدفك هذه المرة، قبل أن نقبض عليك، ياعلي جيجك..؟ .»
رفع رأسه وعيناه معصوبتان، وجاوب: كلكم أوغاد….
علي جيجك في الثامنة عشرة من عمره كان ناضجاً أكثر من ذاك الذي يفتخر بنضجه. يحترم رفاقه ولا يتكبر على الأعمال التي ينجزها بنجاح، بل ولا يذكرها على الإطلاق. من هذه الخصائص تكوّن تمثال المقاومة للرفيق علي جيجك. كان من أوائل السائرين في مسيرة المقاومة، وقد تبادرت إلى ذهنه فكرة الانتحار عندما قاموا بعزل رفاقه وسجنهم في غرفة بعيدة. بدأ بالإضراب عن الطعام بمفرده رداً على التعذيب. من بين ستة رفاق كان أول من انضم لصيام الموت الذي أعلنه الرفيق محمد خيري دورمش في المحكمة، وطالب بحق الحديث من مسؤول المحكمة «امر الله قايا » بإصرار، وقال: سوف أدلي ببعض التصريحات بالغة الأهمية. وقد نجح في كسب حق الحديث بعد جهد جهيد. فعلي جيجك الذي لم يستطع التكلم أثناء المحاكمة نجده منتصب القامة ومرفوع الرأس وهو يتحدث قائلا: » يجب تدوين التاريخ بصورة صحيحة، وينبغي تفادي اتهام أحد آخر أنا الذي قمت بها ». وهكذا تبنى مسؤولية كافة العمليات التي نُفذت وواصل حديثه قائلا: » علمنا PKK درس المقاومة وليس الاستسلام، بناء عليه أنا أيضاً أنضم إلى عملية صيام الموت وستكون هذه آخر المحاكمات التي أنضم إليها .»
وهذا ماحدث بالفعل، استشهد الرفيق علي جيجك بعد ستين يوماً من صيام الموت. كان الابن البكر لعائلة فقيرة. كبر قبل أوانه، لأنه كسب رغيف خبزه بعرقه وجهده. أحب وطنه وشعبه وحاول الدفاع عن كل الحقوق المسلوبة منهم. فعل كل شيء لأجلهم. ودفع بنفسه تحت رحمة البلطة التي كانت تستهدف إبادة الشعب وأعاقها بجسده الناعم.
أجل… كان أغلب شهداء / 14 / تموز لا يبلغون الثلاثين بل أكبرهم كان في الخامسة والعشرين من عمره، أي كانوا قادة في مقتبل أعمارهم. وكانوا يطالبون بالديمقراطية والحرية ويرفضون الإنكار والإبادة، ويسعون إلى إعادة حياة تجمع صداقة الشعب التركي والكردي في كنف الإخاء والعدالة. إلا أن توازنات القرن العشرين وأسسها الذهنية وحقيقة الأنظمة أعاقت ذلك ولم تمنح لهم فرصة الحياة.
لم يفعلوا شيئاً لخدمتهم الخاصة ولمنافعهم الشخصية، لم يتركوا لحظة إلا وأخضعوها لخدمة هذا الشعب وقدموا كل ما يملكونه من الإمكانات التي تتمتع بها الشبيبة من الجهد والزمن والعاطفة والفكر والإيمان والإرادة لخدمة هذه القضية. لم يقولوا مرة واحدة جملة من قبيل: » ماذا سيحل بوضعي » بل قالوا: » مالذي كان بوسعنا القيام به ولم ننفذه لخدمة هذا الشعب ». لأنهم جميعاً كانوا رجال القضية… رجال الفكر… ورجال الإيمان.
لو كانوا يملكون الإمكانيات التي نملكها نحن اليوم لكانوا سيعملون ليلاً ونهاراً كي يحققوا الديمقراطية والسلام دون أي تأجيل في العمل، ولغدوا من القادة الحقيقيين لهذا الشعب. لأن روح التضحية والفداء وحب العمل والتواضع والاحترام الذي تمتعوا به، كان من الخصائص التي بإمكانها تقديم مساهمات جمة في يومنا الراهن. والأنكى من كل ذلك كانوا عشاق هذا التراب وهذا الشعب، و العكس صحيح كذلك.
فإن كانت ثقة وإيمان الكوادر في تلك الظروف الصعبة بالنصر مطلقة، فعلى كل كادر يسير على خطاهم اليوم أن يثق بالنصر ويعمل من أجل رفع وتيرة نضاله التحرري على أساس هذه الثقة. فالرفيق كمال بير، محمد خيري درموش، عاكف يلماز، علي جيجك وأمثالهم من الرفاق البواسل حققوا النصر في الحياة والفكر والعواطف. و تغلبوا على الموت وكافة أنواع الرجعية والتخلف بعواطفهم وأفكارهم وأيديولوجيتهم التحررية، وأصبحوا بشخصياتهم العظيمة رموزاً للحياة الحرة. وقول كمال بير » أحب الحياة لدرجة الموت من أجلها » يعني أن الحياة النوعية التي تستحق بأن يضحي الإنسان من أجلها هي الحياة التي يمكن للإنسان أن يحبها. لذا فإن كمال بير قام برد حياة الذل والهوان التي لا تملك قيمة الحياة، وضحى بحياته لإنشاء الحياة الحرة.
لذا يجب على كل كادر وكل وطني وكل من يناضل من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية مقابل هذه الحقائق العظيمة القيام بما يقع على عاتقه من مسؤوليات ويساهم بكل ما لديه من إمكانيات لإيصال هذا النضال إلى النصر المؤزر. فهذه مسؤولية أخلاقية ومسؤولية سياسية وضرورة من ضرورات العيش كإنسان.