الظاهرة الكردية الشعب الذي كون النيولوتيك
الظاهرة الكردية الشعب الذي كون النيولوتيك
شيار كوجكري
العلم الأكثر تعرضاً للانحراف من قبل الحكام والمستبدين هو التاريخ. أما أكثر المواضيع التي تم تحريفها ضمن علم التاريخ فهي الظاهرة الكردية. إذ تم ترك الظاهرة الكردية عادةً بدون تعريف ضمن علم التاريخ.
حرم الشعب الكردي من جامعاته ومؤسساته التاريخية الذاتية. قامت الدولة بإعلان هذه المنطقة كمنطقة حظر وخطرٍ، لدرجة لم يُترك فيها للكرد أية إمكانية ليبحثوا وينقبوا في تاريخيهم. ولكن هذا لا يعني بأن الكرد بدون تاريخ وتعريف.
يمكننا البحث عن الكرد في بداية التاريخ، أي في المكان والزمان الذي بدأ فيه التاريخ. قيام جغرافية كردستان المسماة بالهلال الذهبي بدور المهد للإنسانية والحضارة هي حقيقة لا نقاش عليها. والبحوث والاكتشافات الجديدة تقوي هذه الحقيقة، وكأنه يتم إثبات هذه الحقيقة في كل يوم من جديد.
فقد كان يتم القبول بأن اليونان هي منبع الحضارة الأم حتى أواخر أعوام القرن التاسع عشر بحيث كانت تعرف ب «معجزة اليونان ». ولدى اكتشاف الحضارة المصرية أواخر أعوام القرن التاسع عشر، تم الإشارة هذه المرة إلى أن مصر هي المكان الأول الذي تطورت فيه الحضارة. ومن ثم اكتشفت الحضارة السومرية، وعلى أساسه تم التبيان بأن مزوبوتاميا السفلى وسومر هما منبع التاريخ وبداية تطور الحضارة. وبعد ذلك تحقق اكتشاف جوردون كليدا ) Gordon Childe ( المؤرخ والأركولوجي الإنكليزي للثورة النيوليتيكية. وبذلك يمكننا القول بأنه قد بقيت الأطروحة الداعية بأن سومر هي المنبع الأول مرة أخرى. أدارت المعلومات والاكتشافات الناتجة عن البحوث الجارية في الخمسين السنة الأخيرة الأنظار إلى كردستان يومنا الراهن إلى مزوبوتاميا العليا.
بحيث تم تعريف وطن الكرد، المنطقة المسماة بالهلال الذهبي أو الهلال الخصيب كمهد الحضارة.
يعرف بأنه مع الثورة النيوليتيكية- بحيث يمكن تعريفها بالثورة الزراعية أيضاً- والثورة القروية قامت الإنسانية بخطو الخطوة الاولى من الصيد والجمع نحو الزراعة وتربية الحيوان، وانتقلت من الحياة المستندة على الهجرة إلى الحياة المستقرة وإنشاء القرى. هذه هي التطورات التي يتم قبولها كبداية التاريخ. فقد تأكد للجميع بأن المناطق التي عاشت فيها المجموعات الكردية والكرد الأوائل هي نظام جبال زاغروس و طوروس التي تشكل الجبال نصفها والسهول نصفها الآخر. ويتم القبول من قبل فئات واسعة بأن الشعب الكردي هو الشعب الخالق للنيوليتك. إذ يأتي دور الشعب الكردي التاريخي في الأساس من كونه الشعب الخالق للنيوليتك. بحيث تصبح هذه ميزة وخاصية هامة وتعني القيام بدور المهد للتاريخ. ما تزال الخصائص الأساسية للثقافة النيوليتية تدوم وتؤثر في الحياة حتى يومنا الراهن. الشعب الكردي هو من الشعوب الأصلية المكونة للثقافة النيوليتيكة في بداية الزمان. إذ أن تكوّن الهوية الكردية وتكوّن الثقافة النيوليتيكية هو متداخل. وبشكل طبيعي تطغى خصائص الثقافة النيوليتكية على النسيج الثقافي الكردي.
تعبر الثقافة في حياة المجتمع عن الإنتاج المادي والمعنوي. تقوم المجتمعات الإنسانية بإنتاجياتها الحياتية على جغرافية معينة. ذهنية الحياة وإنتاجها بالمعنى الضيق هي الثقافة. لا يمكن تناول ثقافة مجتمع ما بشكل منفصل عن ذهنيتها وإنتاجها الحياتي والجغرافية التي تحقق عليه هذا الإنتاج. مثلما أنه لا يمكن تخيل حياة بدون جغرافية، وذهنية بلا حياة، وبالتالي لا يمكن لنا أن نتخيل وجود الثقافة أيضاً.
فإن بدأ مجتمع ما بالإنتاج على الجغرافية التي يعيش فيها، إلى جانب تطور اللغة وتكوّن الذهنية بشكل متواز مع ذلك يخلق مميزات دائمة وجذرية في ذلك المجتمع. بحيث تصبح هذه المميزات هوية ذلك المجتمع. الهويات الاجتماعية أصلية وطبيعية. فهي لا تفقد بسهولة المميزات التي تكتسبها في بداية تشكلها.
يمكنكم رؤية الكرد لدى تفحصكم للتاريخ المكتوب اعتباراً من السومريين. بحيث يُفهم من ملفات التاريخ الأولى هذه بأنه تم تعريف الكرد في أزمنة مختلفة ومناطق مختلفة من وطنهم بأسماء عديدة منها اللولو، كوتي، كودا، كاسيت، هوري، ميتاني، نائيري، ميديين وكوماغانا وغيرها من الأسماء الأخرى المختلفة التي لقبت من قبل الشعوب المجاورة للشعب الكردي.
أما اسم « كردستان » فيستخدم لأول مرة في الآثار المكتوبة في العهد السلجوقي. هذا ويستخدم هذا الاسم في كتاب ماكرو بولو « )Marco Polo( السياحات « الذي كتبه عام 1294 أيضاً. كما ذكر اسم كردستان في كتاب Nuzhat el « »« Qulb نزاهة القولب « الذي ألفه حمد الله مصطو في عام 1340 ، و في كتاب الجغرافية المعنون ب « سبعة إقليم »Heft İqlim« » المكتوب عام 1347 .
ويستخدم كافة السلاطين العثمانيين بدءاً من السلطان سليم وحتى السلطان عبد الحميد اسم كردستان أيضاً. بحيث تمر المصطلحات من قبيل « إيالات كردستان « و « حكومات كردستان » بشكل مكثف في الملفات العثمانية المكتوبة.
وتؤسس إيالة كردستان بشكل رسمي في بيان قانون الأراضي لعام 1848 و 1867 . ويتم تعيين عدد من مندوبي المجلس وأصواته لأجل كردستان في مرحلة المشروطية. ويستخدمِ مصطفى كمال أيضاً مصطلحِ «كردستان » كتابةً وتلفظاً مراتٍ كثيرة، وعرَّفَ النُّوَّابُ الأوائلُ الآتون من المناطقِ إلى البرلمانِ التركيِّ أنفسَهم ب »مندوبي كردستان ». أما حظر مصطلح الكرد وكردستان وإنكار كل ما يتعلق بالكرد وكردستان والكردياتية، فيتم أو يطبق اعتبارا من عام 1925 وما بعده وذلك على أساس سياسة الإنكار والإمحاء المبينة بحق الكرد.
القيام ببدء تاريخ الشعب الكردي بدولة أو تناول الظاهرة الكردية مع الدولة أمرٌ غير ممكن وليس له أي معنىً. لغة وثقافة الكرد الذين يعيشون على هذه الأراضي منذ عشرين ألف عام هي المبينة لحدود كردستان. لأن الشعب الكردي لم يقم بفتح كردستان وتشكيل حدودها بوضع الأسلاك حولها. بل إنهم ولدوا وعاشوا على هذه الأراضي واتخذوها وطناً بتحولهم إلى ثقافة. أي أن كردستان وطنهم الأصلي التي تطورت وتشكلت فيها ثقافتهم. لذلك فإن عدم وجود حدود أو موقع أو مكانة سياسية يتم قبولها فيما بين الدول، لا يغير من حقيقة كون كردستان هي وطن الكرد.
فكردستان هي وطن الكرد. ومثلما أنها قد أخذت أصالتها وأصلها وطبيعتها من الثقافة التي خلقها الكرد، فإنها أضفت بجمالها على هذه الثقافة أيضاً. لا يمكن التفكير بكردستان من دون الكرد، ولا بالكرد من دون كردستان. تغيير نسيج جغرافية ما ليس بأمرٍ هين وسهل كتغيير اسمها. إذ لا معنى لذلك، و لا مجال لتحقيقه بأي شكل من الأشكال. علماً بأن الشعب الكردي مستعد لمشاركة وتقاسم وطنهم مع كافة الشعوب على أساس الأخوة والحرية والمساواة والديمقراطية واحترام الفوارق.
الأكراد أقدم من الدولة لا مكان للعنف والشدة والضغط في ثقافة الشعب الكردي. دخل وانتشر العنف والشدة ضمن المجتمعية الكردية فيما بعد وأصيبت بها من الخارج. إذ أن القضايا الاجتماعية تبدأ بالظهور مع استثمار النظام الأموي و ظهور سلطة و حاكمية الدولة. وبظهور سلطة الدولة المنشأة على خصب ونهب قيم المجتمع المادية يتم إعاقة تطور المجتمع المعنوي والمادي.
القضية المجتمعية تبدأ مع الدولة التي تعني العنف والضغط المتمأسس.
لم يخضع و يقبل أي تجمع كومينالي والذي ندعوه بالمجتمع السياسي والأخلاقي العبودية بسهولة. وقد قاوم ضد الاستعباد حتى الموت. المقاومة ضد العنف والظلم كأقدس حق ووظيفة يشكل أساس حق الدفاع المشروع.
تعرّف الكرد على العنف والشدة مع التقاءهم بالدولة والقوى السلطوية المتحكمة بالدولة. فتاريخ الكرد هو أقدم من تاريخ التدول. ويمكننا القول بأن الشعب الكردي من أوائل الشعوب المتعرضة لعنف واضطهاد الدولة.
وقد استمر هذا الاشتباك والتضاد منذ ولادة الدولة وحتى يومنا هذا نتيجة خاصية وميزة جغرافية الكرد. ويمكن القول بأن جميع القوى الحاكمة والمتسلطة في التاريخ مارست صراع السلطة على هذه الجغرافية.
وشنت هجمات لا تحصى لأجل نهب ثروات وغنى هذه الجغرافية والاستفادة من موقعها الاستراتيجي. يستهدف صراع السلطة الممارس على هذه الجغرافية نهب القيم المادية والمعنوية للشعب الكردي الذي يحيا على هذه الجغرافية. بحيث تفرض سيطرتها وتستولي على منابع الغذاء والأدوات اللازمة لأجل تلبية حاجة استمرار الوجود الاجتماعي عنوةً. لذا يتم ممارسة العنف والاضطهاد، يتم تخريب المجتمع بحيث تصل الحياة إلى وضع لا يمكن فيها أن تعاش. حماية المجتمع ذاته مقابل ذلك الاضطهاد، وخوضه لمعارك طاحنة لأجل ذلك هو من أكثر المواقف إنسانية. فإن لم يقم مجتمع ما بالمقاومة في مثل هذه الأوضاع، ولم يقم بحماية ذاته بكافة الأشكال فهذا يعني بأن ذلك المجتمع قد فقد الكثير من قيمه ووصل لحد الانتهاء.
يمكننا القول بأن الشعب الكردي قد عاش بعض التجارب التي لم تطل كثيرا،ً إلا أنه مع ذلك لم يقبل الدولة ويتبناها بشكل جدي. فمثلما أنهم لم يقوموا ويطوروا حركات نهب تجاه الشعوب الأخرى وأراضيهم، فإنهم لم يصبحوا أصحاب مواقف تأخذ من الحكم والحاكمية أساساً. ولكنهم تعرضوا لمثل هذا النوع من الهجمات دائماً. تُعرف الإمبراطورية الأشورية كأكثر وأبرز البنى الحاملة والمتضمنة للعنف والشدة في التاريخ. فقد طبق عنف وشدة أشور على جغرافية كردستان أكثر من أي مكان أخر.
استمرت الإمبريالية المدنية المبتدئة مع سومر والمستمرة على شكل تقليد آشور من مقدونيا حتى إمبراطورية روما، ومنها حتى إمبراطورية إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية في يومنا الراهن بأكثر الأشكال إراقة للدماء. إذ أن أرشيف التاريخ وذاكرة الإنسانية مليئة بهذه التسجيلات. أما التاريخ المكتوب فإنه يعمل على تحريف هذه الحقائق لصالح المدنية الدولتية. ويسعى من خلال تهجير وقطع المجتمعات عن جغرافيتها القيام بإخفاء النهب الثقافي والجور الإنساني. ما يفعلونه هو جعل الظلم مالً للمظلومين.
سير التاريخ ليس كما هو مكتوب. المرآة الحقيقية للتاريخ هي الحياة. لا يفنى شيء أبداً، أهم ميزة للنسيج الثقافي هو حمله وحفاظه على التراكم والزخم الثقافي الذي قام بإنشائه ضمن الزمن. إذ أن الظاهرة والأحداث الاجتماعية المعاشة في الراهن تتحقق على أرضية هذه الثقافة وتستند على أساس وبنية هذه الثقافة. فكيفما تتكون الثقافة التاريخية فإنها تعاش بالشكل ذاته في يومنا أيضاً. لا يمكن لأي كلام رسمي أن يغير من هذه الحقيقة.
الخصائص التي أكتسبها الكرد في مرحلة التطور التاريخي ما زالت تديم ذاتها ضمن حياتهم الراهنة. كيفما أنه لا يوجد العنف والشدة في ثقافة الشعب الكردي في بداية التاريخ فإنه لا مكان للعنف والشدة ضمن ثقافة الشعب الكردي في راهننا أيضاً. فالشعب الكردي هو الشعب المتعرض بشكل مكثف للعنف والشدة مذ بداية تاريخ الحضارة الدولتية وحتى يومنا. لقد أخذ حماية وجوده ضد عنف وشدة الدول أساساً لذاته كمجتمع غير متدول أو كمجتمع بلا دولة.
يستند جوهر ثقافة وذهنية الشعب الكردي على المجتمع الطبيعي وحياته التحررية الذي لا يعرف العنف والضغط. لم يهاجم الشعب الكردي أية هوية مجتمعية عاشت معه بشكل متداخل على مر التاريخ.
لم يقم بمراجعة أسلوب العنف والشدة أبداً. فقد عاش مع الشعوب الأخرى كالعرب، العجم، والترك… وغيرهم ضمن سلام ووئام. ترجيحه كان دائماً إلى جانب السلام. هذا وتبنى بنية المجتمع المتعدد الثقافات. لم يفرض في علاقاته الصهر الثقافي، ولم يقبل ويخضع لمثل هذه الضغوطات أيضاً.
منبع القضايا الاجتماعية ليس وجود الثقافات بل هو السلطويين والحكام الدوليين الذين يقومون بإنكار هذه الثقافات وتحريفها ونهب قيمها. فإن لم يتم رؤية هذه الحقيقة لدى تناول الظاهرة الكردية كقضية اجتماعية فإنه لن يتم الوصول إلى النتائج الصائبة.
القيام بحماية وجودك وثقافتك والمقاومة لأجلها هو من أكثر المواقف المتطورة ضد العنف الخارجي قداسةً. لا يمكن للعنف الخارجي ترسيخ نفسه وتحقيق ديمومته وتجزئة الديناميكية الاجتماعية في الداخل دون تشكيل زمرة تقوم له بالعمالة في الداخل.
لذا، لدى تناولنا لأسباب العنف في كردستان فإن الحقيقة الهامة الأخرى التي يجب رؤيتها أيضاً هي: قيام الدول الاستعمارية لأجل جعل الشدة والاضطهاد المفروض من قبلها مؤثراً ودائماً بجعل فئة صغيرة من بين الكرد عملاء لها وإشراكهم في استبدادها وجرائمها.
هذا ولم تكتفِ الدول الاستعمارية الفاشية بتطبيق العنف على الشعب الكردي فقط، بل إنهم قاموا بتحكيم ونشر وترسيخ العنف في جميع ساحات المجتمع. وأكثر من الدول فإن العنف والاضطهاد الذي كانت تطبقه هذه الفئات العميلة هو ما كان يخل ويفسخ وينخر في بنية المجتمع ويلعب دوراً تخريبياً أكثر. مع العلم بأن استناد هذه الفئات على العنف والشدة جعلهم يصلون إلى وضع لا يستطيعون فيه العيش دون العنف.
لدى السعي لتعريف مكان العنف بشكل صائب في القضية الكردية، علينا رؤية دور هذه الفئات العميلة التي أوصلت بالقضية الكردية إلى وضع متأزم لا يمكن الخروج منه بشكل جيد. تأبى هذه الفئات العميلة المبتعدة والمغتربة عن هويتها وثقافتها حل القضية الكردية. إذ أن دور هذه الفئات العميلة في تعميق وتجذير وتحريف القضية الكردية هام للغاية.
فإن رغبة الدولة التي يقوم وكلاء الكرد العاملون ضمن البنى السياسية والأحزاب الاستعمارية على خدمتها بتطوير كردها )الكردي العميل( لدى نقاش القضية الكردية في راهننا ليست بصدفة. ففي الوقت الذي يقوم الشعب الكردي بالإصرار على الحل السلمي والديمقراطي، فإن هذه الفئة تقوم بتحويل شراكتها المعتمدة أو القادمة من الماضي مع سلطة الدولة إلى سوق لمصالحها وبذلك تلعب دور الحائل والمعيق للحل. أي أنها تبذل كل ما في وسعها لكي تبقى الشدة والحرب سائرة في كردستان. على هذا الأساس فإن وضع هذه الفئة العميلة من الكرد يمثل أهم منبع يغذي العنف ويتغذى منه.
لهذا السبب فإن تعريف القضية الكردية بشكل صائب، وعلى أساسه يتم تطور وتحقق الحل مرتبط بإسقاط أقنعة مثل هذه الفئات والشخصيات العميلة وإظهار أوجهها الحقيقية للعيان.