الدمقرطة وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية
الدمقرطة وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية
اسماعيل خالد
ترتكز الفكرة الرئيسية لمانفستو الحضارة الديمقراطية التي قدمها القائد عبد الله اوجلان على المناورة الإيديولوجية الفنية والنقدية التي حملت التأثيرات الاجتماعية و الثقافية في اللحظة والعمق التاريخيين ، والتي اَعتبَرها المفْصل الحقيقي في رحلة الوعي البشري نحو إشكالية حداثية جديدة هي )الحداثة الرأسمالية(.
وإذا كان المجلد الأول من المرافعة التي قدمها القائد ترتكز وبشكل كبير وتفصيلي على عصور ما قبل التاريخ وتاريخ المجتمعات القائمة إلى الآن والتركيز على اليوتوبيا، فاعتبار تلك التفاصيل هي تاريخ كفاح الطبقات الاجتماعية وأيضاً صراع الثنائيات والايديولوجيات والمصطلحات )الحر والعبد، النبيل والسوقي، السيّد والتابع، الميثولوجيا والدين، الآلهة والبشر ،الظالم والمظلوم(، ووقوف تلك الثنائيات في تعارض دائم الواحد ضد الآخر، وخوضها صراعات متواصلة، علناً تارة وسراً مستتراً تارة أخرى، صراعاً انتهى في كل مرة، إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بالهلاك العام للطبقات المتصارعة .
وباعتبار المرافعة أيضاً تركز وبدرجة كبيرة على كشف حقيقة الفكر الميثولوجي والوجه الباطني المشحون بالرياء والخداعِ المقنَّع المستلهم من الآلهة والآلهة الملوك. كما تم التركيز أيضاً على القوالب الدينية التي اعُتبرت الأساس في فهم الكون، وأن أي حراك رئيسي في الفكر الديني يتلخص في الخضوع للذات الإلهية المقنَّعة، كما كشفها ووصفها القائد في الفصل الأول من مانفيستو الحضارة الديمقراطية .
وأيضاً باعتبار الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يتعايش مع الميتافيزيقا، كان لا بد من الاسلوب ونسق الحقيقة انطلاقاً من الحيوية والجمود في الإنسان كما يطرح القائد . وهذه لا شك فيها طالما الوقائع الاجتماعية مصنوعة من قبل أناس ينوطون المؤسسات والبنى الاجتماعية بخاصية وكأنها واقع طبيعي واعتيادي ومقدس وثابت وإلهي .
لا يمكن لأيّ عمل أن يصبح ذات قيمة وحياة دون فكرة الصراع وتخطي القوالب الجامدة ومحاربة التفكير العقائدي الدوغمائي. وهذا ما ركز عليه القائد في مرافعته العظيمة حين طرح وبقوة فكره عندما عاد مجدداً ليكمل ما بدأه عن الأسلوب ونسق الحقيقة وليميز هذه المرة بين الفكر العاطفي والفكر التحليلي وأن النظام الكوني يكمن خلف العلاقة بين الحقيقة والعدالة وأن الحياة الخاطئة لا تعاش بصواب وأن الدول القومية هي من ثمار الحداثة الرأسمالية وهذه الحداثة الرأسمالية هي السبب الرئيسي في مآسي الشعوب .
في الفصل الثاني يعود بنا الكاتب إلى تاريخ ظهور المدنية وإلى قضايا انتشار اللغة والثقافة والتطور الاجتماعي والتفسير السليم للحداثة وما بعدها . ويركز الكاتب هنا حديثه عن منطقة الهلال الخصيب وقوس جبال طوروس وزاغروس ويتحدث عن السر الذي جعل العلماء والباحثين في الآثار يتوجهوا إلى هذه المنطقة بالذات .
وهنا يسرد سيرة حياته الطفولية في القرية عندما كان يرى النسوة كيف كن تخرجن إلى العمل صباحاً وكيف كان يرى أمه والنسوة الأخريات وهن عائدات من البئر لاحضار الماء وكيف كان المعاناة والأنين بسبب ثقل الدلو المملوء بالماء ، وما كان لذلك من الأثر البالغ بضرورة الخروج عن العادات والموروثات التقليدية المتبعة وطرح فلسفة جديدة قائمة على إعطاء المرأة الريادة والدور الكبير باعتبارها العنصر المحرك لأي مجتمع وفي الباخوسيات وديونيسوس كما كان يحلم القائد عبرة كبيرة للوصول إلى المرحلة التي كان يخطط لها ويعايشها في وجدانه وقلبه على الدوام .
ويربط الكاتب بداية تكون المجتمعات المدنية ببداية دولة الرهبان السومرية وعلاقتها بالثورة النيوليتية في منطقة الهلال الخصيب والسيسولوجيا الوضعية باعتبارها البنية الارتكازية لنشوء القبيلة التي هي الاساس في نشوء المدنية .
في الفصل الثالث يركز الكاتب اهتمامه في المجتمع الحضري في المدينة ويتحدث عن عصر الآلهة المقنعة والملوك المتسترين وتفسير المجتمع السومري من خلال الدور الذي كان يلعبه الرهبان ودور الزقورات في ادارة شؤون المجتمع السومري القديم ويعرج على قضايا انتشار المجتمع الحضري وتوسع المدنيات ذات الأصول السومرية . ولا يهمل قضايا المقاومة في مراحل المجتمع الحضري في اوائل التشريعات الدينية لدى المسيحية والإسلامية ايضا واللاهوتية المستقاة من الفلسفة اليونانية والسومرية والمصرية والدعامات الهشة لليوتوبيا المسيحية والاسلامية .
ولا ينتهي الصراع المستمر والدائم كما يعتقد القائد بين ما تفرضه وتصنعه مجتمعات عصر الحداثة الرأسمالية ومفهوم الحرية التي يسعى إلى تحقيقها إلا كما قال « إن الماضي والتاريخ يبين اليوم والمستقبل ،تعلموا ، أنْهَلوا من معارفها ولا تنسوا أبداً، ما تم عيشه ضمن هذه الجغرافية. » الشيء الأساسي والبارز هو الإيمان بالحرية والإصرار في السير على طريق الحرية، أما سلاطين اليوم فما هي إلا مؤقتة كما كانت عليه في غابر الزمان.
وأخيراً ليس آخراً يعبر القائد من خلال مرافعته الأخيرة مانفستو الحضارة الديمقراطية إنه انقطع وتخلص من الحداثة الرأسمالية إلى الأبد، من دون الالتفات إلى الوراء أو الرجوع له ،من خلال الوعي الايديولوجي والفكري لسياسته التي تعتمد على التنظيم والعمل والأخلاق والثقافة، والإيمان الكامل بقدرات الفرد والمجتمع وخلق الممكن من المستحيل، والإمكانيات من العدم.