تاريخ حركة الحرية الكردستانية الحلقة 8
تاريخ حركة الحرية الكردستانية الحلقة 8
جميل بايك
بعد أن عبر الرفيق كمال الحدود وصلتنا تلك التعليمات التي أشرنا إليها وأردنا عقد اجتماع مركزي لتدارس تلك التعليمات ، وقررنا أن يكون الاجتماع في “قيزيلتبه” ، عندما كان الرفيق مظلوم دوغان في طريقه إلى الاجتماع جرى اعتقاله وبحوزته نص تلك التعليمات. بالطبع كان اعتقال الرفيق مظلوم ضربة كبيرة لنا ، فقد كان يعمل في الإعلام التابع لنا وكان يقيم في عنتاب ، فبعد أن انضم الرفيق عباس إلى اللجنة التنفيذية وضعنا الرفيق فؤاد في الإعلام ، أي لجنة الإعلام كانت تضم الرفيق فؤاد والرفيق مظلوم وفاطمة وكانوا ينشطون في عنتاب ، وكنا قد قررنا أن نصدر نشرة حزبية ، وأثناء قدومه للانضمام إلى الاجتماع جرى اعتقاله في الطريق ، فقد كان الرفيق مظلوم أحد الذين نعتمد عليهم في التنظيم ، ولهذا السبب كان اعتقاله ضربة مؤلمة لنا ، فالرفيق مظلوم كان متعمقاً وقوياً على الصعيد الإيديولوجي ، بالإضافة إلى حدته الإيديولوجية ، فقد كان أكثر من يقرأ ويبحث في الكتب بعد القائد من بيننا ، يومياً يقرأ ما يقارب الأربعمائة أو الخمسمائة صفحة ، هكذا كان تركيزه ، فقد كان يدرب نفسه بالإضافة إلى تطبيق كل ما كان يتعلمه بشكل ذكي جداً ، لم يكن هناك من يجاريه في النقاش الإيديولوجي ، كل التنظيمات التي ناقشتنا تهربت منه لأنهم عجزوا عن مقارعته بالحجة ، الجميع يمكن أن يتحدث ولكن ليس الجميع يمكن أن يكون متمكناً من الإيديولوجية إلى تلك الدرجة ، وهي خصوصيته التي كانت تميزه عن الآخرين . واعتقاله يعني حرماننا من مثل هذا الرفيق مما يعني ضربة مؤلمة لنا .
عقدنا اجتماعنا في قيزيلتبه لتدارس التعليمات الواردة من القائد ، وفيه قررنا التدخل في سويرك ، وكلفنا الرفيق خيري بتلك المهمة ، وكان القائد قد اقترح إرسال الرفيق محمد قاراسونغور إلى إيران ، فاتخذنا القرار بذلك ، لأن الثورة الإيرانية كانت قد اندلعت ، وكان هناك فراغ في شرق كردستان بينما شعبنا هناك كان ناهضاً ، وحتى نقيم العلاقات مع شعبنا هناك وحتى نصنع لأنفسنا بعض المواقع والإمكانيات على الحدود بين تركيا وإيران قررنا إرسال الرفيق قاراسونغور إلى هناك ، كساحة بديلة لنا إذا ما حدثت مضايقات لنا في الساحة الفلسطينية ، فإذا كانت لدينا ساحة في لبنان وأخرى في إيران لن يستطيع أحد فرض شروطه أو الهيمنة علينا ، وسنتمكن من الاستمرار في نضالنا براحة أكثر . صحيح أن القائد استطاع توثيق العلاقات مع الفلسطينيين في لبنان وكان علينا أن نوثق العلاقات مع شرق كردستان أيضاً ، لهذا السبب اقترح القائد أن يذهب ذلك الرفيق ، ونحن قررنا أن ذلك الرفيق يرافقه عدد آخر من الرفاق . وكان موضوع الإعلام مطروحاً أيضاً أي أن نجعل من الإعلام تنظيماً ، بينما نحن كنا قد تلقينا ضربة من هذا الجانب ولم تكن لدينا إمكانيات للقيام بذلك ، ولم يكن أمامنا سوى الاحتفاظ بالوضع القائم بالنسبة للإعلام ، فلو لم يعتقل الرفيق مظلوم لاستطعنا تنفيذ ما خططنا له ، ولكن بعد اعتقال مظلوم حاولنا الحفاظ على ما هو قائم ، وكانت هناك بعض القرارات الأخرى التي اتخذناها .
بعد ذلك الاجتماع تحركت لأذهب إلى القائد ، لأنه كان قد طلبني أيضاً ، غادرت قيزيلتبه إلى سروج كي أعبر إلى سوريا ، وعندما كنت في سروج وصلني خبر اعتقال الرفيق خيري ، وكان ذلك ضربة كبرى أخرى بعد اعتقال الرفيق مظلوم ، فرفاقنا المركزيون الذين اعتمدنا عليهم في نضالنا تم اعتقالهم ، فلو لم يعتقل الرفيق خيري ربما استطعنا القيام بالأمور ولكن اعتقاله أكد لنا بأننا لن نتمكن من الخروج من أزمتنا بسهولة . لما وصلت إلى سروج بدأ البوليس بملاحقتي أيضاً ، واستطعت العبور إلى سوريا بالقطار ووصلت إلى القائد ، فالقائد والرفيق أدهم والرفيق كمال فقط كانوا هناك ، فاجتمعت بالقائد والآخرين وعدت بتعليمات جديدة إلى الشمال . التعليمات الجديدة تتطلب إنشاء مركزية مؤقتة ، ونقوم بنقل الرفاق المركزيين الباقين والرفاق المعرضين للخطر إلى سوريا ، ثم نقل فاطمة إلى سوريا . عدت وكان الرفيق عباس في قرية بيرينجيك بالقرب من آمد فذهبت إليه واجتمعنا واتخذنا نحن الاثنان قرارات جديدة على ضوء التعليمات ، بشأن من الذي سيأخذ مكانه في المركزية المؤقتة ، وكيفية نقل الرفاق الموجودين إلى سوريا ، ومن هم الرفاق المعرضون للخطر في الساحات وكيفية نقلهم ، ثم غادرت إلى عنتاب من أجل فاطمة التي لم تكن حتى ذلك الوقت تعلم بوجود القائد في الخارج . عندما اعتقل الرفيق مظلوم كنا قد أرسلنا سمير إلى جانب الرفيق فؤاد وفاطمة في لجنة الإعلام قبل ذهابي للقاء القائد ، بعد أن ذهب سمير إلى هناك وبقي لثلاثة أيام كان قد قال لهم بأنه سيذهب إلى ديرسيم بذريعة وجود عمل له هناك ، قال له الرفاق : لقد جئت إلى هنا لتقوم بالنضال ولا نعلم بوجود عمل لك هناك ، ولو كان لك عمل لأخبرنا الرفاق بذلك ، فالتعليمات التي وصلتنا لا تحتوي على شيء من ذلك القبيل . ولكنه أصر قائلاً : لقد نسي الرفاق تسجيله في التعليمات ولدي عمل هناك ويجب أن أذهب وسأعود فوراً . ولم يقل له الرفاق شيئاً آخر وذهب . ذهاب سمير إلى ديرسيم لم يكن بريئاً فهو كان قد كذب على الرفاق ليقوم ببعض الأمور هناك ، فهدفه من الذهاب إلى ديرسيم هو أن يعلن من هناك بأن الحركة قد تلقت ضربات كبيرة وانتهت ولم يبق شيء وهو الآن يمثل الحركة لإنقاذها . بالطبع سمير لم يكن يعلم بوجود القائد في الخارج ، وأننا فتحنا قنوات على الخارج وأرسلنا الرفاق ، ولهذا كان يعتقد أن الحركة في ضيق شديد وستختنق . ذهب إلى ديرسيم والتقى داوود وبعض الرفاق هناك ، وتحدث إلى بعضهم بشكل مكشوف ، ولم يتجرأ على الحديث المكشوف مع آخرين ، وبذلك يقوم بالإعداد لإلقاء خطوته التالية ، وأنا بدوري كنت قد أرسلت رسالة طلبت فيها بعض الرفاق ، حيث لم أشرح فيها التفاصيل بل أشرت أنهم مطلوبون للتدريب ، وهو يعرف بعدم توفر إمكانيات التدريب في الداخل ولهذا تتولد لديه شكوك حول “هل الحركة استطاعت توفير بعض الإمكانيات في مكان ما ؟” ولم يكن يتوقع فلسطين ، بل يعتقد أنها في شرق كردستان ، ولهذا تراجع عما كان يعتزم عليه ، وبات يرغب في فهم الوضع . ذهبت إلى عنتاب وأخذت فاطمة وهي لا تعلم بخروج القائد ولا إلى أين تذهب ، حيث طلبت منها أن ترافقني إلى أورفا ، وعندما وصلنا إلى سروج سألتني عن سبب مجيئنا إلى سروج ، قلت لها : إننا سنرسلك إلى الخارج . ولم تصدق ، وكانت الأجواء بيننا ليست على ما يرام ، وربما ظنت أنني أتيت بها إلى هنا لغاية أخرى ، وطمأنتها بأن لا تخاف ، وأنني أتيت بها إلى هنا لكي أرسلها إلى الخارج ، سألت : أي خارج ؟ قلت : سوريا . قالت : إلى أين سأذهب ، وماذا سأفعل ؟ قلت : هناك رفاق وستذهبين إليهم . ولم أخبرها بوجود القائد هناك . والنتيجة أنني أقنعتها وأرسلتها ، لأن القائد رأى خروجها مهماً ، فقد كان لديه قلق ، العدو يتحامل على الحركة ، والحركة تلقت ضربات مؤلمة ، وربما تتلقى ضربات أخرى ، وفي مثل تلك الأجواء ربما كانت قادرة على تشكيل خطر على الحركة ، ولهذا طالب القائد بإخراجها قبل أي شخص آخر حتى يتقي خطرها وكي لا تشغل التنظيم بنفسها ، ولهذا استعجلنا في إخراج فاطمة .
بعد أن أخرجنا فاطمة وبعض الرفاق الآخرين استعديت للخروج للمرة الثانية من سروج ، كان القائد قد أرسل شخصين من المجموعة الأولى بعد أن تلقيا تدريبهما في بيروت بشكل خاص ليأخذا مكانهما في المركزية المؤقتة ، أحدهما كان “شكري غوموش” وشخص آخر . عندما وصلت إلى سروج كانا قد عبرا إلى الشمال ، أحدهما ذهب إلى آمد والآخر شكري ذهب إلى أورفا للقائنا ، وصلني الخبر فطلبت أن يأتي شكري إلى سروج ، وكتبت رسالة إلى الآخر ليلتقي الرفيق عباس ، جاء شكري إلى سروج وكنا في بيت وقت الظهيرة ، قالت ربة البيت : أنقذوا أنفسكم لقد وصل البوليس إلى القرية ، كنا أنا وشكري ومحمود رش وشاب آخر من المنطقة يعمل مراسلاً على الحدود . فلما خرجنا رأيت أن الجيش والبوليس قد داهموا القرية بما يقارب العشرة سيارات ، في وقت الظهيرة وفي سهل سروج ، فطلبت من شكري أن يذهب مع أحد الرفاق في اتجاه وأذهب أنا والرفيق الآخر في اتجاه آخر على أمل أن ننقذ نصفنا ، فغادر شكري والرفيق الآخر ولم يروهما ورأونا فلحقوا بنا أنا ومحمود رش ، وكان هناك بيت منفرد أمام القرية فقلت لمحمود : لنمشي بشكل عادي حتى ذلك المنزل ، وفور وصولنا إليه عليك أن تركض بكل ما لديك من قوة حتى نبتعد عنهم لننقذ أنفسنا وإلا لن نتمكن من الإفلات ، اقتربنا من البيت وفجأة لم أجد محمود إلى جانبي ، فالبوليس كان ينادينا أن نقف ، وسمعت صوته خلفي ، فقد رجع إلى الخلف ، فيطلب منه البوليس أن يناديني للوقوف ، بينما هو يقول لهم إنه أصم ولا يسمع ، بينما أنا مستمر في السير ، وصلت إلى خلف ذلك البيت وركضت بكل طاقتي كالرصاصة ، ورأى البوليس أن المسافة بيننا بعدت كثيراً ، فلاحقوني بالسيارات ، سهل سروج ليس فيه شجرة ولا حجرة ولا وادي وفي النهار ، الكل يراك من بعيد أينما ذهبت ، وكنت أحمل مسدساً ، الأمر الذي كان في صالحي هو أن بعض الحقول كانت محروثة وعندما أدخلها كانت السيارات تعجز عن الدخول إليها ، وعندما يلتفون أكون قد ابتعدت مرة أخرى ، بقينا على تلك الحال حتى المساء وعتمت الدنيا واستطعت التخلص . وعادوا هم والتقيت راعياً سألته ووجدني غريباً عن المنطقة أخبرني بأنني قرب الحدود وهناك حقل ألغام ويجب أن لا أقترب من هذه الناحية وأذهب إلى الناحية الأخرى ، وزودني ببعض الأسماء الذين يمكنهم أن يساعدوني ، وكنت منهكاً أردت أن أرتاح بعض الشيء ، وكان حقلاً طويلاً ، وفجأة رأيت عدة سيارات تتجول ، بالطبع أنا خائف على نفسي واعتقدت أن البوليس لا زال يلاحقني ، وفكرت في كيفية تخليص نفسي من الحصار ، بينما هم كانوا من رفاقنا ، حيث ذهب الراعي وأخبرهم بأن رفيقاً لهم ذهب في ذلك الاتجاه ، ورفاق سروج يبحثون عني وأنا كلما أرى سيارة أهرب ، حتى وصلت إلى قرية كنت قد ذهبت إليها سابقاً ، ولم يكن رب البيت موجوداً ، ربة البيت شاهدتني وكانت قدماي تدميان فاعتقدت أنني جريح ، طمأنتها وغسلت قدماي ثم جلبت الطعام فتناولته ، قلت لها : إنني ذاهب فالرفاق بانتظاري . قالت : لا تذهب ولا تخف ، حسب علمي الآبوجيون لا يخافون !! . ثم ذهبت وأخرجت الكلاشينكوف من بين الفرش وقالت : نم وأنا سأتولى حراستك ، ولن يستطيع أحد الاقتراب منك إذا لم يقتلني . لقد كانت امرأة شهماء حقاً ، وبقيت هناك وفي الصباح قالت : لقد جاءت سيارة ويسالون عليك ، ولا أعلم ما إذا كانوا رفاقاً أم لا . قلت : هل يمكنك أن تجعلي أحداً منهم يمر من أمام المنزل ؟ قالت : نعم . وعندما مروا وجدتهم من رفاقنا فناديتهم وقالوا إننا نبحث عنك . قلت : لماذا تبحثون ؟ فإن اعتقلت أكون قد ذهبت ، وإن لم أعتقل فسأصل إلى أي مكان وأرسل لكم الخبر . قالوا : نحن نبحث عنك منذ مساء البارحة . قلت : هل أنتم الذين كنتم تتجولون ؟ قالوا : نعم . قلت : ألم تفكروا في كيف ستجدون شخصاً هرب من البوليس وسياراتهم ، وأنتم تبحثون عنه بالسيارات ليلاً ؟ . قالوا : لقد قلقنا كثيراً . سألت : ماذا حدث للآخرين ؟ قالوا : لقد اعتقلوا شكري غوموش والآخرين . يذهبون إلى قرية أخرى ويتخلصون ، وعندما يعود البوليس يمر من تلك القرية ، وشكري والآخر يعتقد أن البوليس جاء من أجلهما فيخرجان من القرية ويهربان فيلحق بهما البوليس ويقبض عليهما . وبذلك فشلت الجهود نحو تأسيس المركزية المؤقتة التي اقترحها القائد ، لأن شكري اعتقل ، أما الآخر فقد ذهب والتقى الرفيق عباس ، ثم جاء انقلاب 12 أيلول ، فذهب إلى بيته وضاع ولكنه لم يخن كما فعل شكري غوموش الذي أصبح كارثة علينا . أردت أن أعبر ولكنني لم أستطع لأن البوليس والعسكر لم يكونوا يعطون الفرصة لأنهم علموا بوجودي هناك ، ولهذا كانوا يداهمون القرى بشكل يومي ، مما أرغمنا على استبدال القرى عدة مرات في اليوم ، كما أن مراسلنا اعتقل . كنت أعرف بعض المهربين فطلبتهم وقلت لهم : سأعبر معكم ولكن سيعدمونني إذا اعتقلوني ، قالوا : ليعدموننا أيضاً إذا أعدموك !! . ثم أخذوني إلى الطرف الآخر من الحدود . وصلت إلى القائد وقد كان في بيروت فزودته بالمعلومات ، والذين أخذوني إلى بيروت كان أولئك الأشخاص الذين نظمهم القائد هناك ، وهم الذين فتحوا بيوتهم للرفاق وخدموهم وأطعموهم ونقلوهم إلى دمشق والأماكن الأخرى ، أي أن أولئك الناس قدموا خدمات عظيمة جداً ، وكلهم كانوا من أسرتين فقط ، وكل ذلك كان في أيام مشاكل الأخوان المسلمين ، ولو كشفتهم الدولة السورية لقضت عليهم جميعاً وعلينا ، ولكن لم يكن أحد يعلم بما يجري ، ولهذا فإن ما قاموا به كان تضحية كبيرة من جانبهم . ذهبت إلى هناك حيث الرفيق أدهم لنذهب إلى دمشق ومنها إلى بيروت ، والرفيق أدهم لم يكن يعرف العربية ربما يعرف عدة كلمات تعلمها خلال وجوده هناك ، وكنا سنذهب إلى مكتب الفلسطينيين لنذهب من هناك إلى بيروت ، وقال الرفيق أدهم : إنني أعرف بناية مكتوب عليها “سانا” باللاتينية ، فإن وصلنا إليها يمكنني أن أذهب من هناك إلى حيث الفلسطينيون في دمشق . قلت : يا رفيق هذه دمشق ، مدينة كبيرة كيف سنجد تلك البناية ؟ قال : سنبحث عنها إلى أن نجدها ، فإن لم نجدها لن أتمكن من معرفة الطريق . نحن لا نعرف اللغة العربية حتى نسأل عن ذلك المبنى . وبقينا نحوم ونجول إلى أن وجدنا المبنى بعد تعب كبير ، ونريد التوجه إلى مخيم فلسطين ولا نعرف أية سيارة تتوجه إلى هناك ، قلت : ماذا سنفعل يا رفيق أدهم ؟ قال : سنمشي ، قلت : هل تعرف الطريق حتى لا نضيع ؟ قال : إنني أعرف الطريق فقد ذهبت إليه وعدت سيراً على الأقدام . والرفاق الذين أقاموا في دمشق يعرفون تلك المناطق ، فالطريق من المكان الذي نحن فيه طويل إلى مخيم فلسطين ، فذهبنا مشياً إلى أن وصلنا إلى المخيم ولكننا عجزنا عن الاستدلال على مكتب الفلسطينيين ، قلت : لنطرق أحد الأبواب لعلهم يدلوننا على المكتب . قال : ماذا سنقول ؟ قلت : سنقول “مكتب الفلسطينيين” ولا نحتاج إلى مزيد من الكلام . طرقنا ما يقارب العشرين باباً ويتحدثون بالعربية ولا نفهم منهم شيئاً فيغلقون الباب في وجهنا . وأخيراً وجدنا طفلة صغيرة قالت تعالوا . وأنا لا أعلم معنى “تعال” ولكنني فهمت من حركتها . فقلت للرفيق أدهم : لنلحق بها فإما أن تأخذنا إلى مكتب الاستخبارات السورية أو إلى مكتب الفلسطينيين ، نحن وحظنا ، فلاحظ الأماكن التي نسير فيها فإن عرفتها ، هذا يعني أننا في السبيل السليم ، أما إذا كان غير ذلك فلنهرب . فلو اعتقلتنا الاستخبارات لن يعلم أحد بأمرنا . إلى أن وصلنا إلى منطقة عرفها الرفيق محمد سعيد ، فأوصلتنا الطفلة إلى المكتب وغادرت دون أن نشكرها لعدم معرفتنا العربية . وكان الوقت مساء فجلسنا في المكتب ثم جاء رجل عجوز ، ألقى علينا التحية ، وقلنا : عليكم السلام ، فجلس وبدأ بالحديث ، فقلت : يا رفيق محمد سعيد أنت تتكلم العربية ، قل له نحن لا نفهم العربية كي لا يتحدث بدون جدوى ، قال الرفيق سعيد : فليتحدث ربما إنه لا يجد من يستمع إليه فليتحدث ليفرج عن كربه بعض الشيء . قلت : لن يكون ذلك حسنا بحقنا . ولكن الرفيق سعيد تمسك بموقفه وقال : ليتكلم . وبقي الرجل يتحدث لأكثر من ساعة ، ومن بين كلامه كانت تمر مصطلحات مثل الصهيونية والامبريالية وفهمت أنه يقوم بالدعاية لنا ، ولا نفهم أي شيء آخر من كلامه ، وفي الأخير فهمت من حركاته أنه يسألنا عن أمر ما ، قلت : تفضل وجاوبه يا رفيق سعيد . عندها قال له الرفيق : نحن لا نعرف العربية !!! . وانفجر الرجل غاضباً دفعة واحدة ، ونحن لا نفهم ما يقوله . وكأنه يقول : مادمتم لا تعرفون العربية لماذا لم تقولوها منذ البداية ؟ وكان على حق . قلت : ماذا يقول الرجل يا رفيق أدهم؟. قال : لاشك أنه يسبنا فليقل ما يشاء مادمنا لا نفهمه !!! . ونمنا الليلة هناك واستخرج الرجل هوية لي ، وفي الصباح قال يمكنك أن تذهب ، وأخبرني بالاسم وأسم الأب والأم وما إلى ذلك ، وقلت : إذا سألوني أمور أخرى ماذا سأقول ؟ . قال : لن يسألوك أي شيء آخر . قلت : وإن سألوني ؟ قال : أنت وحظك . وأوصلوني إلى السيارة وسافرت وحدي ، وبقي محمد سعيد هناك في دمشق . ووصلت إلى بوابة الحدود والاستخبارات السورية تسأل عن الهويات ، حيث هناك بوابة خاصة بالفلسطينيين تعبرها سياراتهم فقط . سألني عن أسمي فذكرته ثم من أين أنا وأين أقيم وما إلى ذلك ، جاوبته على كل ذلك وانتهت لغتي العربية ، ووجدته يسأل عن أمور أخرى لا أفهمها ، ويبدو أنه فهم من لهجتي بأنني لا أتحدث العربية ، فقال : بشرفك هل أنت فلسطيني ؟ فهمت “الشرف” و”فلسطيني” ، قلت له بشرفي !! عندها ابتسم الرجل ، ثم نطق بكلمات أخرى قلت : إنني بحاجة إلى مترجم ، جاء بأحدهم ، فسألني عمن أكون ومن أين ؟ وإلى أين أنا ذاهب ؟ ، قلت : إنني ذاهب لأحارب إسرائيل مع الفلسطينيين . وأنا كردي من تركيا . قال : لماذا أقسمت بشرفك بأنك فلسطيني ؟ قلت : هو يعرف جيداً بأنني لست عربياً فلماذا يسألني هذا السؤال ؟ فمادام هو يسأل على ذلك النحو فإنني أيضاً سأجاوبه بنفس الطريقة وهذا ليس ذنبي . ثم ابتسم هو وعنصر المخابرات وسمح لنا بالعبور . وكان ذلك اليوم هو ذكرى تأسيس الجبهة الديموقراطية وكان المطر شديداً في شهر شباط ، ذلك المطر كله انهمر على رأسي ، والشخص الذي سأعرفه كان تركمانياً من العراق لأنني لا أعرف اللغة ولا أي مكان ، وكان التوتر مخيماً على بيروت ، فحرصت على أن لا أضيع ذلك الشخص ، لذلك السبب بقيت تحت المطر ، وقال ذلك الشخص : اجلس هنا ولدي عمل عاجل لساعتين وسأعود حالاً . وجلست هناك لثلاثة أيام ، والتقيت به بعد ثلاثة أيام بالصدفة . قلت : لقد أجلستني لساعتين وغبت ثلاثة أيام ؟ فتذرع بمشغوليته وما إلى ذلك ، فقلت له أن يأخذني إلى المكان الذي قالوه لي ، فأخذني والتقيت بالقائد . وبعد أن زودت القائد بما لدي طلب مني أن أذهب إلى الحدود ، وقال : ابق هناك حتى ينتهي تدريب الرفاق وأرسل لنا الخبر عن تأمين عبور الرفاق حتى نرسلهم ليعبروا . ثم عدت إلى كوباني ومن هناك إلى قامشلو بواسطة أولئك الناس ، وأنا لا أعرف الكردية ولا العربية ولا أعرف شخصاً واحداً ، فذهبت إلى قامشلو وجلست هناك واستقريت ، ومضى أكثر من شهر حتى استطعت تأمين طريق العبور . والطريق هو أنه كان هناك مهربون يعملون بين قامشلو ونصيبين والحمالون هم الذين يحملون مواد التهريب . وتعرفت على الرفيق “عبد الرحمن إيل” وكان من أهالي نصيبين وعقدت العلاقة معه ، وعن طريقه فتحنا ذلك الطريق . وكان ذلك الشخص من مؤيدينا واستشهد خلال عمله ذاك فيما بعد عندما كان يعمل على عبور الرفاق من منطقة ديريك ، وكان رفيقاً قيماً مخلصاً جداً ومن الشعب . فمن خلاله استطعنا تأمين عبور كل المجموعات الأولى من قامشلو إلى نصيبين ، وكل الرفاق كانوا يحملون الحمل ويختلطون مع الحمالين ويعبرون ليلاً حيث لا يعرفون بعضهم البعض . دون أن يعلم أحد بما يجري . إلى أن اعتقل “محمد غيرغين” ، عندها علمت الدولة بما يجري .
بعد أن عبرت جميع المجموعات تقريباً جاء الرفيق عباس أيضاً ، حيث أجلسناه في قامشلو ، وأنا عدت إلى بيروت مرة أخرى ، والرفيق عباس كان يهتم بشؤون الحدود ، وكنا قد استطعنا إرسال الرفاق المركزيين الذين لم يعتقلوا ، كما عبرنا الرفاق الذين كان وضعهم في خطر والدولة تبحث عنهم ، ولم نكن نرغب في عبور الآخرين . فقد أقمنا المجالس المؤقتة في المناطق والمدن ، وكنا قد كلفناهم بأن يحافظوا على الموجود من التنظيم والعلاقات فقط ، أي أننا لم نكلفهم بكثير من العمل . الحزب لم يكن قادراً على القيام بدوره الطليعي آنذاك بعد أن ناضلنا طويلاً وأعلننا عن تأسيس الحزب وبدأ الحزب ينتشر ويتقدم ، والناس يطالبون الحزب بمزيد من الطليعة ، فالطليعة الحزبية كانت ضعيفة نظراً للاعتقالات الكثيفة ، والتنظيم الموجود كان ضعيفاً عاجزاً عن القيام بدور الطليعة ، ولو توفرت طليعة قوية وراسخة في تلك المرحلة ، لكنا كسبنا الشعب برمته وكان على استعداد للقيام بكل ما يطلب منه ، ولكن تنظيمنا وإدارتنا في المنطقة كانت ضعيفة جداً وعاجزة عن القيام بالدور الطليعي ، ومن الجانب الآخر كانت الدولة تتحامل كثيراً على الحركة . وهكذا كان تحامل الدولة ونهوض الشعب وعدم توفر طليعة راسخة قوية تشكل قضية جادة بالنسبة لنا . ففي تاريخنا يمر مصطلح ” الخطر على الصعيد التنظيمي في حركتنا ” هذا هو تلك المرحلة ، أي عام 1979 . حتى في تلك المرحلة أعلننا عن “الأسبوع الأحمر” فتجاوب الشعب معنا ، فحتى في آمد تم إغلاق المحلات ، أي أن الشعب كان متجاوباً جداً حتى في مرحلة الضعف التنظيمي . فلو توفرت الطليعة المناسبة لاستطعنا القيام بسرهلدان شعبي واسع النطاق ، فقد كان ذلك واضحاً . فخلال ذلك الأسبوع الذي أعلننا عنه حدثت إضرابات ومسيرات وأنشطة مهمة رغم ضعف الطليعة ، وحصلنا على نتائج جيدة ، ولكننا عجزنا عن التقدم أكثر ، بينما الشعب كان يرغب في الاستمرار ولكننا اكتفينا بذلك لضعف التنظيم لدينا . وفي هذا الوضع حدث بعض الانكسار لدى الجماهير لأنهم رغبوا في الاستمرار بينما التنظيم لا يلبي طلبهم . وعندها عرفوا بوضع التنظيم . في تلك المرحلة كنا نمر في “أزمة التنظيم” التي ذكرناها . ماذا كانت الأزمة ؟ الضعف في التنظيم والاعتقالات الكثيرة وظهور الخيانة وتحامل الدولة على الحركة والشعب يطالب بمزيد من الخطوات بينما التنظيم عاجز عن القيام بدور الطليعة . لقد ألقى هذا الوضع بتأثيره على الشعب والكوادر معاً ، تلك كانت الأزمة .
في ظل هذه الأزمة وعندما عدت إلى الخارج تناقشت مع نفسي وتوصلت إلى قرار مع ذاتي ، وهو أن التنظيم آل إلى هذا الوضع في ظل إدارتي وظهر أنني غير قادر على القيام بهذا العمل ، ولهذا يجب أن يتولى المسؤولية شخص قادر على القيام بالمسؤولية وأن أعمل أنا تحت إمرته ، ذلك هو القرار السليم والأفضل وهنا تكمن منفعة التنظيم ، وهذا ما تتطلبه الاستقامة والصدق ومنفعة التنظيم . هذا ما ناقشته مع نفسي وتلك هي النتيجة التي توصلت إليها ، وعندما أردت تطبيق القرار الذي توصلت إليه على الصعيد العملي أدرك القائد ما أنا بصدده ، عندها قال لي : “إما أن تبقى ضمن هذه الحركة بواقعها وحقيقتها أو أن تبتعد عنها” . لقد أصبت بصدمة عندما سمعت هذا الكلام من القائد ، وتساءلت عما فعلته حتى يقول لي القائد مثل هذا الكلام ؟ فلا أتذكر عملاً شنيعاً ارتكبته حيث أقول : إنني غير قادر على القيام بهذه المسؤولية فليتولاها غيري ، وهذا لا يتضمن أمراً سيئاً ، بل إنني أدافع عن منفعة التنظيم ، وأنا مستقيم ومرتبط بالحزب والقيم ولا أحاول الابتعاد عن الحزب أو النضال ، كما ليست لدي قضية إبراز الشخصية أو مزيد من الصلاحيات ، فلماذا يقول القائد لي مثل هذا الكلام ؟ ومادام يقول لي القائد ذلك ، فهذا يعني وجود مشكلة أو أمر لا أعلمه ، لأنني كنت قد عرفت القائد جيداً وهو لا ينطق بمثل هذا الكلام من فراغ ، وحتى أفهم هذا الأمر فكرت كثيراً وكاد رأسي ينفجر ، وبالنتيجة أدركت أن القائد لم يقل ذلك من فراغ وهو يقول الحقيقة ، ووجدت أن الاستقامة والإخلاص والارتباط الذي أتحدث عنه غير موجود ، كل ذلك مجرد نواياي ، وعندما عرفت هذه الحقيقة أصبت بصدمة أخرى . لماذا قال القائد ذلك ؟ كان يقوله لهذا الواقع ، لأن المستعمر لم يكن يرى الشعب الكردي لائقاً بهذه القيادة ، ولا يراه لائقاً بالانتصار وكان يعمل دائماً من أجل هزيمة الشعب الكردي ، فهو يرى أن الشعب الكردي تليق به الهزيمة فقط . فحتى هذا اليوم لا زال يقول : “أنتم عاجزون عن تحقيق أي شيء وعليكم أن تقبلوا بهذا الأمر وتتخلوا عما تقومون به . وإذا كانت هناك حقيقة فهي وجودنا نحن على رؤوسكم “. ويفعل العدو كل شيء من أجل أن لا يحقق الكردي أي نجاح ، هذا هو النهج الذي يراه العدو لائقاً بالكردي . أما في نهج القائد يجب أن لا يقبل الكردي بالهزيمة مطلقاً ، وحتى لو لم تتمكن من لانتصار في أمر ما عليك أن لا ترضخ بل تجعل من ذلك سبباً للنجاح ، والقائد يرى رفاقه غير لائقين بالفشل أبداً ، لأنه لا يرى أن الفشل يليق به أيضاً . بل يرى النجاح والنصر في فلسفته وإيديولوجيته ، لأنه بذلك فقط يمكن أن يتحقق النصر للشعب الكردي ، وأي شيء آخر غير النصر لا يمكن أن يحل القضية الكردية ، وقد وضع القائد نهجه على هذا الأساس . بينما أنا فشلت وكنت بتصرفي هذا أقبل بالفشل، حيث كنت أقول: لقد فشلت في هذه المهمة فليأتي غيري ويقوم بها وسأكون أنا في خدمته . وكان ذلك يعني قبولي بالفشل، مما يعني القبول بنهج العدو حسب مفاهيم هذه الحركة. أنا في قيادة هذه الحركة وإذا أرتضيت بنهج العدو فإن هذه الحركة لن تتمكن من إلقاء خطوة واحدة إلى الأمام. وهذا هو السبب في عدم قبول القائد. ولهذا قال: “إما أن تقبل بواقع وحقيقة هذه الحركة أو أن تتخلى عنها “، ولا يمكنك البقاء ضمنها وأنت تقبل بالنهج الذي يفرضه العدو. بل عليك أن لا تقبل بالفشل وتجعله سبباً للانتصار، وتجعل من النجاح أساساً لنضالك. وما كنت مقتنعاً بصوابه وينم عن الصدق والاستقامة ويخدم التنظيم، كان القائد يرى أنه لا يتضمن أي شيء من كل ذلك. أن تضع التنظيم في أزمة ثم تطلب أن يأتي أحدهم لينتشله من الأزمة، هذا لا يعبر عن الاستقامة، والاستقامة هي أن تنقذ التنظيم من الأزمة التي أنت وضعته فيها، وهذا يعبر عن الارتباط بالقيم، الاسم الآخر لهذا العمل هو التهرب، أي أن تضع الحركة في هذا الوضع ثم تهرب وتطلب أن يأتي غيرك لإصلاحه. إنه تهرب من مسؤولية الواجب، أما الحفاظ على منفعة التنظيم فيمر عبر النجاح في مهمتك، بينما الفشل في المهمة والادعاء بالحفاظ على منفعة الحركة لا ينم عن الحقيقة, أما إذا قمت بتحقيق تقدم في الحركة وترسيخ نهجها ومقاييسها وتوسيع قيمها وتحقيق أهدافها فهذا فقط يعني أنك تحمي منفعة الحركة، فإذا كان القائد يقول : إما أن تقبل بحقيقة الحركة أو تتخلى عنها كان يقصد هذا الأمر. أي أن هناك طراز وحقائق لهذه الحركة يجب أن تلتزم بها وتتبناها، أي ليس في الحركة مزاجية. أي عليك أن تبقى ضمنها بذهنية ومقاييس وثقافة وطراز هذه الحركة، وما تكلفك بمهام وتعمل على تحقيق أهدافها، عندها فقط تصبح إنساناً في هذه الحركة، وممارستك هي ملك لهذه الحركة. أما إذا تصرفت بمزاجية لن تصبح إنساناً في هذه الحركة كما أن ممارساتك لن تكون ملكاً لها. ومن ذلك نستنتج أن الحزب لم ينتظم في ذلك الوقت بسبب أننا قمنا بتنظيمه حسب مزاجنا وليس كما يتطلبه الحزب. ولهذا السبب كان الحزب يمر في أزمة، ولهذا كان القائد يصر على التخلي عن المزاجية، فما دمتم تقبلون الانضمام إلى هذه الحركة عليكم أن تتصرفوا بما تمليه الحركة وليس حسب مزاجكم وأهوائكم وتحققوا انضمامكم حسب حقيقة هذه الحركة، وتجعلوا من حقيقة الحركة حقيقة لكم، ولن يتبقى لديكم واقع آخر أو حقيقة أخرى. هذا الأمر الذي عشته أنا في عام 1979 يعيشه الآن العديد من الرفاق، وأقول لهؤلاء الرفاق بأنني عملت على فرض حزب حسب مزاجي على القائد في عام 1979 ولكنني لم أستطع !!. ولهذا على الجميع أن لا يعمل على فرض مزاجيته على الحزب في مسار التحول الحزبي مطلقاً. لأن ذلك لن يكون مقبولاً، فقد حاولت القيام بذلك في عام 1979 نيابة عن الجميع ولم أفلح. الأمر المقبول هو كادرية هذه الحركة، وفيما عدا ذلك ليس مقبولاً. وهذه هي الحقيقة التي يجب قبولها كما هي. حتى يتمكن الحزب من تجاوز أزمته كان قد تم إلقاء تلك الخطوة الخارجية، حيث كان القائد يتخذ من الانفتاح على فلسطين وشرقي كردستان أساساً للحركة، فقد كان الرفاق “محمد قاراسونغور” و “حميد آفجي” وفيما بعد الرفيق “عكيد” كانوا قد توجهوا إلى شرق كردستان، وقاموا بتأمين بعض الأماكن والمواقع هناك، كما تواصلوا مع القوى التابعة للبارزاني والطالباني عبر الشرق لأنهم كانوا يترددون على تلك المناطق حينذاك. ومن هناك جعل الرفاق الجنوب أساساً لهم أكثر من الشرق، حتى وصلوا إلى الحدود العراقية التركية وأقاموا بعض العلاقات هناك، مثلما طوروا العلاقات في الشرق، إلى درجة أنهم قاموا بتشخيص بعض المناطق التي يمكن جعلها معسكرات لنا في حال رغبتنا في ذلك. ففي ذلك الوقت لم تكن هناك سيطرة للدولة الإيرانية مثلما لم تكن هناك سيطرة للحزب الديموقراطي وكومالا، ثم وقعت الحرب العراقية الإيرانية ولم تبق للسلطتين أية سيطرة على المناطق الحدودية ، والمخافر الموجودة كانت بعيدة عن الحدود إلى الداخل، وجنود صدام لم يكونوا يخرجون من المخافر، وبقيت مجموعتنا المؤلفة من الرفاق محمد وعكيد وآفجي والآخرين في تلك المناطق حتى الكونفرانس الأول، فعندما أردنا عقد الكونفرانس طلبناهم للانضمام إليه. عندما أرسلنا مجموعتنا الأولى إلى الفلسطينيين لم تكن مجموعة كبيرة ، وكانت تضم الرفاق كمال وعكيد ودليل دوغان والرفاق الآخرين، وكذلك سليمان وفاطمة وكان هناك “علي دورسون” الذي كان قد جرح في أحد المواجهات ونزيل المستشفى في آمد برفقة البوليس، فقمنا بحجز البوليس واختطفناه من هناك وأرسلناه عبر الحدود إلى لبنان، والقائد كان يعتني به في لبنان بذاته. واستطاع القائد تدريب تلك المجموعة لدى الجبهة الديموقراطية وفتح، وجزئياً لدى جورج حبش الذي أقمنا معه شيئاً من العلاقات، على الأغلب كان التدريب لدى فتح والجبهة الديموقراطية. عندما كانت تلك المجموعة تتلقى التدريب بدأ الصراع مع فاطمة وسليمان هناك مرة أخرى، فقد كانا يقومان بخلط ما يقوم القائد بتأسيسه هناك، إلى درجة أن سليمان كان قد وضع بعض الرفاق في وضع الأزمة والتشويش أمثال “سيف الدين زوغورلو” ودليل دوغان وآخرين ، وتوقف القائد على أولئك الرفاق حتى أعادهم إلى الصواب بصعوبة، فقد كانا يتصارعان فيما بينهما، ويجمعان على محاربة القائد وينتقمان عندما يجدان الفرصة مواتية لهما، ويبعثران ما بناه القائد هناك بألف صعوبة وجهد كبير، فالقائد كان يقوم بتدريب المجموعة بذاته ويؤسس العلاقات من الجانب الآخر ويتصدى لفاطمة وسليمان في نفس الوقت.
عندما انتهى تدريب تلك المجموعة هناك وأردنا إرسالها إلى الوطن، وكان من المقرر أن يبقى الرفيق كمال في بيروت، ولكن بعد أن أرسلنا عدة مجموعات، جاء إليّ الرفيق كمال من بيروت إلى قامشلو وسألته عن سبب مجيئه قال: يا رفيق أنا لا أستطيع البقاء في مكان تقيم فيه فاطمة، فقد أصر القائد أيضاً على بقائي ولكنني لم أذكر له أن السبب هو فاطمة ولكنني أصرّيت على المغادرة فوافق القائد مرغماً فجئت. وكان ذلك صحيحاً فقد كان القائد يريد بقاء الرفيق كمال في بيروت ولم يرغب في إرساله إلى الوطن، ولكن نظراً لإصرار كمال وافق، بل كلفه بإدارة تلك المجموعة التي تلقت التدريب لتدريبها وتنظيم حرب الكريلا في الوطن، أي حمله مسؤولية تنظيم الحزب في الوطن من جديد، والتدخل في سويرك. عندما كنا نرسل الرفاق إلى الوطن من نصيبين لم يكن وضعنا المادي جيداً، فعندما يعبر الرفاق إلى الوطن لم تكن لدينا إمكانية شراء حوائجهم، كل ما كنا قادرين على شرائه هو كوفية حتى لا يتم معرفة الرفاق من الحمالين، فكل الحمالين كانوا يتلفحون بالكوفيات، كل الرفاق كانوا يعبرون دون سلاح، ولو عرفهم العدو لأبادهم دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، فلم تكن لدينا إمكانية شراء السلاح للرفاق، ناهيك عن السلاح، لم تكن لدينا إمكانية إطعام الرفاق كما يجب عندما يعبرون إلى نصبين، هذه حقائق عشناها، الرفاق كانوا يعبرون وهم جائعون أحياناً، الرفيق فرحان كان يرسل الرفاق ويجلب الطعام من البيوت إلى قامشلو لنأكلها، ولم يكن يفعل ذلك دائماً، بهذا الشكل أرسلنا تلك المجموعات كلها، كنت قد عرفت شخصاً هناك اسمه حسن ولا أعلم إن كان على قيد الحياة الآن فقد كان عائشاً حتى قبل أربع سنوات، ولم يكن يعرف من أنا، ذهبت إليه واستدنت منه بعض المال مرغماً حتى أتمكن من شراء بعض الحوائج الضرورية لإرسال الرفاق، وعلي أن أقول بأنه ليس في هذه الحركة ما يسمى بالدين أو الاستدانة، فقد تطور مثل هذا السلوك غير الأخلاقي في الحركة الآن، فبعضهم يذهب ويستدين لنفسه باسم الحركة ويصرف على هواه كما يشاء دون علم الحركة ولا يسد الدين مثلما لا يضع ما استدانه في خدمة الحركة، وبعدها يأتي الناس إلينا ويطالبوننا بالدين، وهذا تصرف بعيد عن أخلاق هذه الحركة تماماً، وعندما استدنت في ذلك الوقت فقد كان من أجل التنظيم وكنت مرغماً، ولولا ذلك لما استدنت، لم يكن من أجل المأكل، فمن أجل الطعام لا أستدين مطلقاً، بل كانت هناك حاجات ضرورية يجب شراءها وخاصة للمجموعة التي تلت مجموعة الرفيق كمال، وعندها قلت للرفيق كمال: إنني استدنت المال ويجب أن ترسله في حينه لنسده، فلو لم أسد الدين حتى ذلك التاريخ لن أستطيع البقاء هنا لأمارس الثوروية، كنت قد استدنت عشرة آلاف بينما الرفاق أرسلوا لي تسعة آلاف فذهبت للرجل لأعطيه المبلغ، عندها فهم بأنني لا أملك المبلغ كاملاً وقال: لتبقى النقود لديك فقد تحتاجها، وعندما يتوفر لديك المبلغ يمكنك سداده، قلت: أنا أملك المال. قال: مادام لديك المال لماذا لا تدفع كامل المبلغ؟ قلت: يلزمني ما لدي. فقبل، وبعدها أرسل الرفاق المال وذهبت إليه وأعطيته ما تبقى له. سألني: هل كان لديك المال الكافي في المرة الماضية؟ قلت: كلا، لم يكن لدي. قال: لماذا كذبت علي؟ قلت: كنت قد وعدتك. قال: سأسألك سؤالاً آخر أرجو أن تجاوبني بصراحة. ولم يكن يعرف من أنا حتى ذلك الوقت، قلت نعم سأجاوبك بصراحة، قال: هل أنت من الثوريين؟ قلت: نعم، قال: هل أنت من الآبوجيين؟ قلت: نعم، ولكن كيف عرفت؟ قال : عندما طلبت مني المال قلت لنفسي لو كان من المهربين لاستدان منهم، وأنا أعرف كل الأحزاب السياسية هنا وأنت لست منهم، ولو كان منهم لطلب من أقاربه، ولهذا توقعت أن تكون آبوجياً. قلت: صدقت. وسألته: كيف دفعت لي ذلك المبلغ وعلى ماذا اعتمدت وأنت لا تعرفني؟ وربما ما رأيتني مرة أخرى. قال: حسبت ذلك أيضاً، فلو لم تدفع لما فعلت شيئاً، وعليه دفعت لك. وبعدها أصبحنا أصدقاء. بهذا أردت توضيح الوضع المادي الذي كنا فيه. ففي قامشلو وكلهم أكراد كنت قادراً على طرق أي باب لطلب الخبز أو أي شيء آخر، ولكن لم أجعل من ذلك أساساً لي، فقد كنا نبقى جائعين والمجموعات كانت تبقى جائعة وكنا ننتظر فرحان ليأتي لنا بما نحتاج، لأنه لم يكن لنا تنظيم هناك ولم يكن هناك من يعرفنا، ونحن لم نكن قادرين على فعل ذلك، والأخلاق التي تعلمناها لا تسمح لنا بذلك.
القائد لم يعقد العلاقات مع الفلسطينيين بسهولة، لو يتذكر الرفاق أنه عندما عبر القائد الحدود إلى غرب كردستان كانت هناك علاقة الرفيق أدهم فقط، وحينها لم يقل القائد بأنه لا يمكن التقدم من خلالها، بل استفاد منها وذهب ومن خلالها تعرف على الأسرة ثم الأسرة الأخرى وأخرى إلى أن فتح تلك الساحة ليس لهذه الحركة فقط بل فتحها من أجل كامل الحركة الكردية، من خلال إمكانية صغيرة جداً استطاع خلق إمكانيات هائلة تسببت في تقدم ثورة كبيرة، هذه هي حقيقة هذه الحركة وحقيقة هذه القيادة، فما هي حقيقتنا نحن إذاً؟. نحن نقول إن هذه الإمكانية قليلة، وإذا لم تتوفر الإمكانية الفلانية لا يمكن، أو لم يتوفر المبلغ الفلاني لا يمكن، أو إذا لم يتحقق كذا لا يمكن وهكذا… ، هذه هي فلسفتنا، وهي تمثل واقعنا، بينما القيادة تثمن عالياً أية إمكانية مهما كانت صغيرة، وإن ثمنت أية إمكانية وقدرتها عالياً تصبح إمكانية عظيمة، فلسفته وإيديولوجيته تعتمد على هذا الأساس، وهذا يعبر عن طراز النضال الذي اعتمده القائد، ولهذا تحقق التقدم والانتصارات، فلدى القائد إذا استطعت خلق إمكانية صغيرة ستتمكن من خلق إمكانيات عظيمة اعتماداً عليها. أما نحن فعندما لا تتوفر الإمكانيات نقول مستحيل، وعندما تكون الإمكانيات قليلة نقول هذا غير ممكن، كما نقوم باستهلاك ما لدينا بدلاً من تعظيمه ومضاعفته، أي أننا نجعل من الاستهلاك أساساً لنا وليس الإنتاج والتوفير، وما تزودنا به الحركة يذوب وينتهي، وهذا لا يجوز، فما دمت رفيقاً لهذا القائد عليك أن تجعل من طرازه أساساً لك، عندها تستحق أن تكون رفيقاً للقائد، وما عدا ذلك لا يتجاوز سوى أن يكون كلاماً، فمثلاً بعض رفاقنا يجب أن تتوسل إليهم ليقبلوا برفاقه وبالساحة التي سيناضل فيها والإمكانيات المتوفرة ورغم ذلك يمنون ويتململون، بل تترجاهم حتى يقبلوا، هذا الطراز أيضاً ليست له علاقة بالحركة، ففي هذه الحركة يتم الاكتفاء بما هو موجود، ولا يقال هذا ناقص أو زائد، ولا يقبل الاعتراض كثيراً، ولكن ما يتم ممارسته هو أنك تتوسل حتى تدفعه نحو القيام بعمل ما، إحدى الساحات لا تقبل بالساحة الأخرى، والمهام لا تقبل ببعضها البعض، والرفيق لا يقبل بالرفيق، والإمكانية لا تقبل إمكانية أخرى، والصلاحية لا تقبل صلاحية أخرى، وإن أردت أحدهم ليقوم بعمل ما وجب عليك أن تبذل جهداً لتدفعه إلى القيام به. ولا يمكن لكادر هذه الحركة أن يكون على هذا النحو، ماذا تعطيه يقول هذا غير كاف وهل من مزيد، ولا يفكر بأن الحركة منحته ذلك وعليه أن يعظمها ويبني عليها، وأن يسعى إلى تعظيم الحركة من خلالها، ويقول المزيد، وعندما تقول: لا يوجد، يقول: كيف لا يوجد، يجب أن تخلقها وتمنحها مثلما أريد وإلا لن أقوم بها، أي أنه باتت مفاهيم PDK و YNK تتقدم لدينا، فهذه الصفات موجودة لديهم، حيث يتم التكليف بالمهام حسبما يرغبون، ويقومون بها إن رغبوا ولا ينفذونها عندما لا يرغبون بها، ويذهب إلى جانب من يدفع أكثر، ليس لهذا الواقع علاقة بالثورية والنضال، بل هذا يعني المساومة على الذات، ومن يدفع أكثر يذهب إليه، هذا يعني بيع النفس طبعاً، هذا الطراز غير موجود في كادرية هذه الحركة.
عندما ذهب القائد إلى الفلسطينيين لإقامة العلاقات لم يرغب الفلسطينيون في عقد العلاقات، لماذا؟ لأن ملا مصطفى البارزاني كان قد أقام العلاقات مع إسرائيل، والتناقض العربي الإسرائيلي كان في أوجه، ويرون في كل من يقيم العلاقات مع إسرائيل عدواً لهم، ولأن البارزاني وPDK أقاموا العلاقات مع إسرائيل كان كل العرب والفلسطينيون ينظرون إلى الأكراد نظرة أعداء، بل يرونهم عملاء لإسرائيل، والقائد كردي ويتزعم حركة كردية، ولهذا لم يكن الفلسطينيون يرغبون في توثيق العلاقة مع هذه الحركة، فلم يكن للأكراد وزناً لدى الفلسطينيين، وينظرون إليهم نظرة سيئة، فإذا لم يكونوا راغبين في إقامة العلاقة مع القائد فقد كان هذا الواقع هو أحد الأسباب، وفيما عدا ذلك كانت قد أٌرسلت كثير من الرسائل إلى الفلسطينيين بحق حركتنا من جانب الأحزاب الشيوعية حيث يصفوننا بالقوموية وبالعمالة للاستخبارات الأميريكية (CIA) والتركية (MIT) وما إلى ذلك، وكان هذا سبباً آخر للتهرب من العلاقات مع هذه الحركة. بينما القائد أقام العلاقة بإصراره وجهده وبطراز نضاله، فمنذ البداية وضعوا الصعوبات أمام الحركة عندما رفضوا منح الهويات، اعتقاداً منهم بأن القائد سيعجز عن إيصال رفاقه إليهم للتدريب في تلك الأجواء الصعبة، ولكن القائد حقق ذلك من خلال العائلة التي كسبها في كوباني، فبإمكانيات أولئك الناس أوصل القائد الرفاق إلى الفلسطينيين، وعندما وصل الرفاق إليهم اضطر الفلسطينيون إلى قبولهم واستغربوا كيفية وصول الرفاق إليهم، فهم لم يكونوا يتوقعون إيصال الرفاق إلى هناك ووعدوا بأنهم سيقبلون إن وصلوا، وعندما أوصلهم القائد اضطروا إلى قبولهم، ولفترة طويلة لم تتوفر الثقة المتبادلة بيننا والفلسطينيين، فلم يكن الفلسطينيون يثقون برفاقنا، ولهذا كانت معاملتهم مع رفاقنا سيئة، أما لدينا فقد كانت الأسطورة الفلسطينية هي السائدة، وعندما يذهب الرفاق لمعسكراتهم لأول مرة ويرون تصرفاتهم وواقعهم لا يصدقون أن يكون هذا معسكر الفلسطينيين، فمثلاً المكان الذي ذهب إليه كمال بير كان مليئاً بالأوساخ، البطانيات مرمية في كل طرف بين التراب والطين فيقوم الرفيق كمال بجمعها وغسلها وتطبيقها ووضعها في جانب يأتي أحد الفلسطينيين ويبعثرها بقدميه ويضرم فيها النار، ويمسك كمال بخناقه وهو لا يعرف العربية فيشتمه بالتركية قائلاً: قليل الشرف وعديم الأخلاق وما شابه ذلك، فيستغرب الفلسطيني هذا التصرف، فيأتي مترجم ويسأله الفلسطيني: ماذا يريد هذا مني؟ يقول كمال: لماذا فعلت ذلك؟ ولا يمكن أن تكونوا فلسطينيين!!. وما نعلمه أن الفلسطينيون لا يفعلون ما فعلته، وأنا أريد الذهاب إلى معسكر الفلسطينيين، بينما أنتم أتيتم بنا إلى معسكرات آخرين، ثم يأتي قائد المعسكر ويقنع الرفيق كمال بان هذا هو معسكر للفلسطينيين، ويقنعه بالبقاء. بعدها يقول كمال لرفاقنا: يستحيل أن تنتصر هذه الثورة. وفي أية ثورة إذا تم التلاعب بالقيم والممتلكات وانتشرت الفوضى علينا أن ندرك بأن تلك الثورة ستفشل. بناء على ذلك يعقد الرفاق اجتماعاً، ويقولون علينا أن لا نكون مثلهم قطعاً. مع كل أسف إن ما لدينا اليوم قد تجاوز ما كان لدى الفلسطينيين، ولو بقي الرفيق كمال كان من المستحيل أن يقبل بذلك، كان يقبل بموته ولا يقبل بذلك، عندما تذهب إلى معسكراتنا يمكنك أن ترى كل شيء مرمياً في المحيط تحت المطر والشمس وبين التراب والطين ، ويمكنك أن تجمع حاجات عشرة معسكرات مما هو مرمي في أطراف المعسكرات ، هذا واقع معاش . لا يمكن أن يكون المقاتلون من أجل الحرية على هذا النحو، المرتبطون بالإنسانية والذين يدافعون عن الحرية والعدالة والديموقراطية وأصحاب الجهد لا يمكن أن يكونوا هكذا، يستحيل أن يكونوا كذلك، حتى الطبقات الحاكمة لا تفعل ذلك، أذهبوا لتروا الآغوات والبيكوات والبرجوازيين لن تروا هذه الأعمال لديهم. إنني أفكر كثيراً في هذا الأمر لتصنيف ما يجري لدينا، أرى أن تصنيفه غير ممكن ضمن ممارسات أية طبقة، لا الحكام ولا المحكومين، وهذا ينم عن وضع في منتهى الجدية، إمكانيات هذا الشعب لا تستحق هذا الهدر، فحتى لو توفرت الإمكانيات فإن ايديولوجية وفلسفة هذه الحركة تمنعنا عن هدرها ولا تقبل بذلك مطلقاً لأنه تصرف يعبر عن انعدام الضمير، بل هو عداء لهذه الحركة ولهذا الشعب، شعبنا يقتطع من لقمته ومن لقمة أطفاله ليمنحنا إياها وأنت تقوم بهدرها، هذا لا يجوز، ويجب تصحيح هذا الوضع مطلقاً، ويجب التصدي لهذا الظلم.
هكذا كان الفلسطينيون لا يثقون بنا إلى فترة ما ، بل يستصغروننا، وحتى تصدر منهم تصرفات خاطئة نحو رفاقنا، إلى درجة أن بعض الرفاق طالبوا بترك معسكراتهم، لأنه كانت لهذه الحركة مقاييس أخلاقية معينة ولا تقبل بالحط من الكرامة، فقد كان من بين الفلسطينيين من يتلاعب بالكرامة وليس كلهم طبعاً فقد كان من بينهم أناس قيمون محترمون، فمثلما يوجد بيننا من يتلاعب بالقيم كان بينهم أمثال هؤلاء أيضاً، فتقرباتهم من الرفاق لم تكن جيدة، بينما رفاقنا كانوا ملتزمين بأخلاقهم ويصعب عليهم قبول هذا الأمر، وكانوا يعترضون على ذلك إلى درجة أنهم طالبوا القائد بإخراجهم من ذلك المعسكر، لأن كادر هذه الحركة كان وثيق الارتباط بكرامته، ولم يكن يرضى بقلة الشرف والكرامة بأي شكل وفي أي ظرف، وعندها اضطر القائد إلى إقناع أولئك الرفاق بصعوبة بالغة للبقاء في المعسكر، وتغير هذا الوضع فيما بعد عندما أفهمهم القائد أموراً كثيرة وتعرفوا هم بدورهم على رفاقنا من خلال الممارسة والمواقف والأخلاق والتعامل، ووصل بهم الأمر إلى الوثوق بنا أكثر من ثقتهم ببعضهم البعض، فكل المستودعات سلموها لرفاقنا، لأنهم لم يثقوا برفاقهم. نعم لقد حققنا كل ذلك بمواقفنا وبجهدنا وممارستنا ونضالنا، فمواقفهم لم تتغير من ذاتها. التقيت بأحد المعمرين الفلسطينيين كان قد جاء إلى الرفاق حيث كانوا يقيمون في أحد البساتين، وقال: إن جماعتنا أيضاً كانوا مثلكم في البداية وأخاف أن تصبحوا مثلهم، وأن تفسدوا مثلما هم فاسدون الآن. وأضاف: إذا فسدتم مثلهم لن تتمكنوا من تحقيق أي شيء فانظروا إلى الحال التي آل إليها جماعتنا، كان يبكي ويقول هذا الكلام، وكان في شبابه مقاتلاً انضم إلى حركتهم في البداية، ثم تخلى عنها لكبر سنه، نعم كان يبكي ويقول: إنني أرى فيكم بداياتنا. الوضع الذي وصلناه نحن الآن أمام أنظاركم، وأرجوكم أن لا تنزلقوا إلى ما نحن فيه وحافظوا على وضعكم الراهن.